شهدت العاصمة البريطانية لندن، في خضم تصاعد الاحتجاجات المؤيدة للقضية الفلسطينية داخل المملكة المتحدة، حملة اعتقالات طالت مئات المتظاهرين السلميين، ما أثار نقاشًا واسعًا في الأوساط الحقوقية والسياسية حول توازن الحكومة البريطانية بين حفظ الأمن العام وضمان حرية التعبير.
ورغم التأكيدات الرسمية على الالتزام بالقانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان، فإن تعامل السلطات مع هذه التظاهرات يسلّط الضوء على تعقيدات المشهد السياسي في الداخل البريطاني، لا سيما فيما يتعلق بالمواقف تجاه القضية الفلسطينية، ومدى انسجام السياسات الحكومية مع آراء أغلبية شرائح المجتمع البريطاني.
فقد صعّدت حكومة السير كير ستارمر، إلى جانب عدد من الحكومات الغربية، من نبرة إدانتها لتصرفات حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة في الأسابيع الأخيرة، وإنْ جاء ذلك متأخرًا، متعهدةً بالاعتراف المشروط بدولة فلسطين خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبل. ومع ذلك، أكد كريس دويل، مدير مجلس التفاهم العربي البريطاني، أن قادة المملكة لا يزالون «على خلاف كبير مع الرأي العام ومع القانون الدولي».
وتتجلى هذه الفجوة بوضوح في قرار وزيرة الداخلية البريطانية، إيفيت كوبر، بتصنيف جماعة «فلسطين أكشن» المؤيدة للقضية الفلسطينية كمنظمة إرهابية، وحظر عضويتها، وتجريم أي دعم علني لها، مع فرض تهديدات بالسجن لفترات طويلة وغرامات باهظة. وقد لاقت هذه الخطوة إدانة واسعة، ووصفت بأنها انتهاك صارخ للصلاحيات الحكومية في مكافحة الإرهاب وتقييد لحرية التعبير السياسي داخل البلاد، وهو ما أكده مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان.
وقد أدت المظاهرات الحاشدة التي خرجت بعشرات الآلاف رفضًا لقرار الحكومة إلى اعتقال أعداد كبيرة من المتظاهرين السلميين. ففي التاسع من أغسطس، شهد وسط لندن واحدة من أكبر هذه المسيرات، حيث قامت الشرطة باعتقال 532 شخصًا، وأشارت صحيفة «الغارديان» إلى أن معظمهم كانوا يرفعون لافتات تعبر عن دعمهم لفلسطين.
ووصفت منظمات حقوقية، مثل منظمة العفو الدولية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، مشاهد اعتقال المتظاهرين – الذين تجاوز نصفهم تقريبًا سن الستين – بأنها «مقلقة للغاية». وعلى الرغم من سماح المحكمة العليا البريطانية لجماعة «فلسطين أكشن» بالطعن القانوني في قرار حظرها، فإن استهداف الحكومة البريطانية لهذه الجماعة لا يبدو أنه سيتوقف، حيث وُجّهت حتى الآن تُهم بالإرهاب إلى عشرة من أعضائها بموجب قانون الإرهاب لعام 2000. وردّت كوبر على الانتقادات قائلة إن المتظاهرين «لا يدركون طبيعة الجماعة الحقيقية».
وفي ظل هذه التطورات، يُذكر أن الرأي العام البريطاني يُظهر دعمًا واضحًا لاحترام القانون الدولي وحقوق الفلسطينيين، بما في ذلك حقهم في تقرير المصير، في مواجهة الحملة العسكرية الإسرائيلية العدوانية الإجرامية المستمرة منذ 23 شهرًا. ووفقًا لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة «يوجوف»، أعرب 37% من البريطانيين عن تعاطفهم مع القضية الفلسطينية، مقابل 15% مع إسرائيل، و17% تعاطفوا مع كلا الطرفين على حد سواء. واعتبر 51% من المستطلَعين أن الهجمات الإسرائيلية على غزة غير مبررة إطلاقًا.
وبيّن الاستطلاع أيضًا أن 41% من البريطانيين يؤيدون الاعتراف بدولة فلسطينية، مقارنة بـ14% يعارضون ذلك، فيما أيّد 57% تعليق صادرات الأسلحة البريطانية إلى إسرائيل، و48% دعموا فرض حظر تجاري عليها.
وعند النظر إلى الرأي العام البريطاني ضمن إطار أوروبي أوسع، تُظهر نتائج استطلاع «يوجوف» تراجعًا حادًا في التأييد لإسرائيل بنسبة 46% بين المواطنين البريطانيين، وهي نسبة تتماشى مع التوجهات السائدة في دول الاتحاد الأوروبي، حيث بلغ التراجع -54% في الدنمارك، -53% في إسبانيا، -52% في إيطاليا، -48% في فرنسا، و-44% في ألمانيا.
رغم ذلك، سلكت الحكومة البريطانية، كما هو حال عدد من الحكومات الأوروبية، نهجًا يتناقض مع مواقف شعوبها. فبينما التزمت حكومة ستارمر بموقف مشابه للرئيس الفرنسي ماكرون بدعم الاعتراف بدولة فلسطينية، إلا أنها رفضت حتى الآن أن تحذو حذو ألمانيا في تعليق صادرات السلاح إلى إسرائيل. ورغم فرض تعليق جزئي على تصدير الأسلحة في سبتمبر 2024، فقد تم تصدير معدات عسكرية بقيمة تفوق 127 مليون جنيه إسترليني بين أكتوبر وديسمبر من نفس العام، أي أكثر مما تم تصديره خلال الفترة بين عامي 2020 و2023 مجتمعة، وفقا لما كشفت عنه «حملة مناهضة تجارة الأسلحة».
وفي أروقة الحكومة البريطانية، يبدو أن الانتقادات الداخلية تجاه إسرائيل قد تراجعت بشكل ملحوظ، وهو ما ظهر في الرسالة التي أرسلها مئات موظفي وزارة الخارجية إلى الوزير ديفيد لامي، يعبرون فيها عن مخاوفهم الجدية تجاه السياسة الخارجية للمملكة، قبل أن يُقال لهم إن «الاستقالة هي خيارهم الأخير». هذا ما دفع الدبلوماسي مارك سميث إلى الاستقالة في أغسطس 2024، مؤكدًا أن «جميع الشكاوى الداخلية تم تجاهلها بشكل تام».
وفي هذا السياق، لم يكن غريبًا أن تطلق وزيرة الداخلية البريطانية اتهاماتها ضد «فلسطين أكشن»، زاعمة أنها «تنشر الذعر بين الأبرياء» وتتسبب بأضرار للبنية التحتية للأمن القومي، وهي مزاعم وصفتها هدى عموري، إحدى مؤسسي الجماعة، بأنها «كاذبة وتشهيرية». وقد استشهد صحفيا «الجارديان»، هارون صديق وروب إيفانز، بتقرير صادر عن مركز تحليل الإرهاب المشترك التابع لـجهاز الاستخبارات البريطاني «إم آي 5» في مارس 2025، خلص إلى أن غالبية أنشطة الجماعة – مثل كتابة الشعارات على الجدران، والتشويه البسيط، والسيطرة المؤقتة على المواقع – لا ترقى إلى تصنيفها كأعمال إرهابية، ومع ذلك، تقرر حظرها.
وفي أعقاب تأكيد الحظر، ألقت الشرطة البريطانية القبض على أكثر من 100 متظاهر في مظاهرات خرجت يوم 19 يوليو في لندن ومانشستر وإدنبرة وبريستول. ومنذ ذلك الحين، صعّدت السلطات حملتها ضد الدعم العلني للجماعة، حيث سجلت الشرطة 522 حالة اعتقال بدعوى «رفع لافتات» فقط في مظاهرة 9 أغسطس.
وأكدت تقارير صحفية أن شرطة لندن كانت في حالة تأهب مسبق، واستعدت لشن أكبر حملة اعتقالات منذ أكثر من عقد، إذ تم نقل أكثر من 800 سجين من أكثر سجون العاصمة ازدحامًا قبل انطلاق الاحتجاج. وأشار الصحفي بن كوين من «الجارديان» إلى أن نحو نصف المعتقلين كانوا يبلغون 60 عامًا فأكثر، من بينهم قرابة 100 شخص في السبعينيات و15 شخصًا تجاوزوا الثمانين.
ومن أبرز المعتقلين، السير جوناثان بوريت، المستشار السابق للحكومة البريطانية، الذي انتقد حظر الجماعة بشدة، واصفًا القرار بأنه «مثال واضح على استغلال الحكومة لكافة سلطاتها لقمع الأصوات المعارضة، بينما تتجاهل هي نفسها الجرائم الوحشية التي تُرتكب في غزة والضفة الغربية». كما أكد ساشا ديشموك، الرئيس التنفيذي لمنظمة العفو الدولية في بريطانيا، أن المتظاهرين في ساحة البرلمان «لم يدعوا إلى العنف»، وأنه «لا يجوز أبدًا معاملتهم كإرهابيين».
وعلى الرغم من سريان الحظر، من المقرر أن يخضع القرار لمراجعة قضائية في نوفمبر المقبل لتحديد مدى قانونيته. وقد أقر مارتن تشامبرلين، قاضي المحكمة العليا البريطانية، بأن قرار الحكومة قد يُلحق «ضررًا بالغًا بالمصلحة العامة» ويخلق «أثرًا مُخيفًا» على حرية التعبير السياسي. في المقابل، اتهم الناشط والمحامي تيم كروسلاند، الذي أُلقي القبض عليه خلال مظاهرة لندن، وزيرة الداخلية بأنها «تسعى إلى استثمار قرار الحظر سياسيًا»، وأنها «ستواصل ببساطة الدفاع عن اعتقال المتظاهرين».
وفي ضوء الاستطلاعات التي تعكس دعمًا واسعًا لحقوق الفلسطينيين داخل المجتمع البريطاني، برزت تساؤلات حول إمكانية تحرك بعض المؤسسات العامة لمعارضة سياسة وزارة الداخلية. وأشارت أليس أوزوالد، من جامعة أكسفورد والمعتقلة ضمن المتظاهرين، إلى وجود استياء داخل صفوف الشرطة، وحثت الضباط على مراسلة الوزيرة للتعبير عن رفضهم للقرارات. بدوره، توقع كروسلاند تنامي هذا الاستياء، خصوصًا في ظل «اضطرار الشرطة إلى اعتقال أشخاص يحملون لافتات تعارض الجرائم في غزة»، بينما تعاني الأجهزة الأمنية من تخفيضات في الميزانية.
كما قال ديشموك إنه «بدلاً من تجريم المتظاهرين السلميين الذين يطالبون بحقوق الإنسان للفلسطينيين، يجب على حكومة ستارمر اتخاذ إجراءات حازمة وعاجلة لوقف الإبادة الجماعية الإسرائيلية، ووقف أي تواطؤ معها». فالتراجع الطفيف عن بعض السياسات خلال الأسابيع القليلة الماضية لا يُلغي التواطؤ الحكومي المستمر منذ سنوات مع انتهاكات إسرائيل وجرائمها، وتغاضي الحكومات البريطانية المتعاقبة عن مسؤولية المملكة التاريخية في إنهاء هذا الصراع الكارثي الذي تسبب بدمار حياة الفلسطينيين منذ أكثر من مائة عام.
وبينما يُنتظر البتّ في قانونية الحظر المفروض على «فلسطين أكشن» خلال جلسة استماع قضائية مدتها ثلاثة أيام في نوفمبر، يبدو أن الحكومة البريطانية وقوات الشرطة ماضيتان في قمع كل أشكال الدعم العلني للجماعة. وكما حذرت منظمات حقوق الإنسان عند فرض الحظر، فقد بدأت تظهر بالفعل حالات تهديد واعتقال لمتظاهرين سلميين بتهم تتعلق بالإرهاب لمجرد حمل لافتات كتب عليها شعارات مثل «حرّروا غزة» أو «إسرائيل ترتكب إبادة جماعية». لذلك، لا يمكن للحكومة البريطانية أن تدّعي في أي حال أنها تدافع عن حقوق الفلسطينيين، في الوقت الذي تعمل فيه على قمع تعاطف مواطنيها مع قضيتهم العادلة.
في ظل التطورات الأخيرة، تبقى الحاجة ملحّة أمام الحكومة البريطانية لإعادة النظر في سياساتها المتعلقة بحقوق الفلسطينيين وبحرية التعبير وحق التظاهر، لا سيما حين تتصل بقضايا سياسية عادلة تحظى باهتمام واسع لدى الرأي العام. فالحفاظ على التوازن بين احترام القانون والنظام من جهة، وضمان الحقوق الأساسية للمواطنين من جهة أخرى، يشكّل ركيزة أساسية لأي نظام ديمقراطي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك