كثيرةٌ هي المؤتمرات التي يتم عقدها سواءً داخل سوريا أو خارجها لبحث مستقبل التحول السياسي فيها، وهو أمر ليس مستغربا، حيث إن الأزمة السورية تستقطب الاهتمام العالمي والإقليمي، ليس فقط على المستوى الرسمي، بل من جانب العديد من مراكز الدراسات، لثلاثة أسباب؛ أولها: التساؤلات التي تثار بشأن رؤية النخبة الحالية في سوريا لإدارة التنوع القومي والثقافي والديني، وخاصةً أن العديد من دول المنطقة التي شهدت التجارب ذاتها بعضها حالفه النجاح والبعض الآخر كان التعثر سمةً له. وثانيها: الأبعاد الجيوسياسية وتأثيرها على عملية التحول في سوريا.
فموقع سوريا الجغرافي عند نقاط تماس استراتيجي لمشروعات إقليمية – بالطبع لا تلتقي أهدافها – يفرض تحديات هائلة أمام النخبة الحاكمة في سوريا في الوقت الراهن. وثالثها: تأثير الأوضاع في سوريا على منظومة الأمن الإقليمي برمّتها، فحال تعثر التحولات في سوريا سيكون لذلك تداعيات غير مسبوقة على منظومة الأمن الإقليمي.
ومن دون الخوض في التطورات العديدة التي شهدتها سوريا منذ سقوط النظام السابق في الثامن من ديسمبر 2024م؛ ومجملها بعض الصدامات بين مكونات المجتمع السوري، وظهور العديد من المطالب بأن يكون النظام السياسي لا مركزيّاً يضمن حقوق الجميع من دون تمييز أو إقصاء؛ فإن المعضلة في التحولات التي تشهدها سوريا هي أنها تواجه كافة الأزمات في آنٍ واحد، على الصُّعُد السياسية والاقتصادية والأمنية والمجتمعية، بما يثير عدة تساؤلات؛ منها: ما هي الأولويات؟ – بل والتساؤلات الأكثر تعقيداً – الأولويات من وجهة نظر من؟ – والأهم – هل تلتقي تلك الأولويات مع مصالح دول الجوار أم لا؟ وما هي الأدوار الخارجية المطلوبة لدعم التحولات في سوريا؟
وفي تقديري، ان كافة خبرات التحولات السياسية في العديد من الدول تتطلب بدايةً تأكيد حق احتكار القوة من جانب الدولة؛ بمعنى آخر، إن الأمن هو مسؤولية القوات الحكومية الرسمية الموحدة، بعيداً عن وجود سلاحٍ في أيدي جماعاتٍ ذات ولاءاتٍ وهُوِيّاتٍ ضيقة. ويُعد ذلك هو المدخل الصحيح لإدارة عملية التحول السياسي، لأنه حال حدوث تباينات في توجهات مكونات المجتمع السوري فإن الاحتكام سيكون للحوار وليس للسلاح، كما هو الحال في بعض الصراعات الإقليمية الآن، وهو السبب الرئيسي لتعثر التحولات في تلك الدول. صحيحٌ أن بعض تلك التشكيلات العسكرية السورية كان لها دور في مواجهة تنظيم داعش على سبيل المثال، ولكن لا يعني ذلك إعلاء هُوِيّتِها دون الوطنية على المصلحة القومية لسوريا. وعلى الصعيد السياسي، لا شك أن كتابة الدساتير خلال المراحل الانتقالية تعد تحدياً كبيراً، خاصةً في ظل مجتمع فيه العديد من المكونات، وتتقاطع فيه العوامل الآيديولوجية مع نظيراتها الواقعية، ولكن هناك سبل عديدة ونماذج لدول استطاعت صياغة دساتير تعبر عن مصالح وهويات الجميع وفي مدى زمني وجيز. وفي تقديري أنه كلما طال أمد المراحل الانتقالية تعاظمت التحديات التي تواجه النخب الحاكمة، لأن المسألة لا ترتبط برؤى النخب، بل بتطلعات المجتمع ذاته من حقبة إلى أخرى جديدة، يجب أن تحمل في طياتها تلبية المتطلبات الأساسية لذلك المجتمع بشكل عادل.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تخوض سوريا معركة إعادة الإعمار التي تقدر كلفتها بـ 800 مليار دولار، ولا شك أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برفع العقوبات عن سوريا، وكذا الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن الدعم الخليجي لسوريا، وتعدد زيارات المسؤولين على المستويين الإقليمي والعالمي إليها، وما أسفرت عنه من التزامات بضخ استثمارات في العديد من القطاعات الحيوية السورية؛ كلها تمثل مؤشرات مهمة لدعم الاقتصاد السوري، ولكن لا بد من تحقيق توافق سياسي، يرتكز على استقرار أمني، كمتطلب أساسي لجذب الاستثمارات إلى القطاعات السورية المختلفة.
ولا يعني ما سبق وجود نموذج مثالي للتحولات السياسية في سوريا، لكن الهدف الأساسي هو أنه – بغض النظر عن نظام الحكم – يجب أن يلبي مصالح كافة مكونات المجتمع السوري وفقاً للدستور والقانون.
ومع التسليم بأن استقرار سوريا يعني استقرار الأمن الإقليمي، فإن أجندات دول الجوار (تركيا، إسرائيل، إيران) تتقاطع داخلها بشكل كبير، سواءً من حيث محاولات فرض نموذج محدد للحكم، أو ما تراه بعض تلك الأطراف من تهديد لأمنها القومي، فضلاً عن أهمية سوريا ضمن النفوذ الإقليمي لبعض تلك الدول.
وللأدوار الدولية تأثير مهم ضمن عملية التحول السياسي في سوريا، خاصةً لدى كلٍّ من الولايات المتحدة وروسيا. وبالرغم من تنافسها، من غير المتوقع أن تتصادم تلك الأدوار لعدة أسباب، منها: أنه ليس من مصلحة القوى الكبرى أن تكون سوريا مصدراً لتهديد مصالحها الحيوية في المنطقة، فضلاً عن أنه – في ظل تغير مفهوم الأمن وقدرة الجماعات دون الدول على التوظيف السيء للتكنولوجيا لتهديد المنشآت الحيوية للدول – فإن عدم الاستقرار في سوريا يعني تهديد منظومة الأمن الإقليمي بأسرها.
وعلى الرغم من استمرار ارتباط التحولات في سوريا بثلاث دوائر متداخلة ومتشابكة بشكل كبير، وهي: الدائرة الداخلية بتعقيداتها، والإقليمية بأجنداتها، والدولية بمصالحها، فثمّة مسؤولية تقع على منظمات الأمن الإقليمي، خاصةً جامعة الدول العربية، حيث أن تسوية الصراعات الإقليمية من خلال تلك المنظمات لا يرتبط بدرجة كبيرة بتوازنات القوى وتضارب المصالح الذي تشهده الأمم المتحدة، لأن بناء منظومة الأمن القومي العربي يرتبط بتعزيز الوحدات المكونة لهذا الأمن بشكل أساسي، فضلاً عن المبادرات التي تلتقي فيها الجهود الإقليمية مع نظيراتها الدولية. وفي هذا الإطار، يأتي تشكيل المجموعة السورية – الأردنية – الأمريكية، لدعم وقف إطلاق النار في السويداء، على خلفية اجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث في العاصمة الأردنية عمّان في 12 أغسطس 2025م؛ وهو الاجتماع الثاني الذي يستضيفه الأردن، حيث كان الاجتماع الأول في 19 يوليو 2025م للغرض ذاته. ولا شك أن تلك الجهود – التي تجمع بين رؤية الأردن كدولة جوار مباشر لسوريا، والولايات المتحدة كدولة لها مصالح حيوية في سوريا والمنطقة – تعد مهمة لدعم جهود الحكومة السورية في الوقت الراهن، خاصةً بشأن تحقيق السلام الاجتماعي بين مكونات المجتمع السوري كافة.
خلاصة القول، أنه ومع أهمية الأدوار الإقليمية والدولية لدعم سوريا خلال عملية الانتقال السياسي يظل نجاح تلك الجهود مرتهناً برؤية النخبة السياسية في سوريا: فإما بناء مؤسسات تعمل لكافة مكونات المجتمع السوري – مع احترام خصوصية كلٍّ منها وفقاً للدستور والقانون؛ وإما استمرار الصراع على أسس عرقية ودينية – وما يؤول إليه ذلك من تداعيات أمنية ومجتمعية بالغة الخطورة، لن يقتصر تأثيرها على الداخل السوري؛ فأي المسارين سوف تسلكه الدولة السورية؟ سؤالٌ يجيب عنه السوريون أنفسهم.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية في مركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك