العدد : ١٧٣١٤ - الاثنين ١٨ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٤ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣١٤ - الاثنين ١٨ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٤ صفر ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الفوضى في غير المواعيد (1)

لأنني‭ ‬نتاج‭ ‬نظام‭ ‬تعليمي‭ ‬بائس،‭ ‬فإنني‭ ‬افتقر‭ ‬إلى‭ ‬المهارات‭ ‬اليدوية،‭ ‬فالمدارس‭ ‬عندنا‭ ‬تعد‭ ‬الطالب‭ ‬فقط‭ ‬للأعمال‭ ‬المكتبية،‭ ‬ولهذا‭ ‬أغبط‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يتمتعون‭ ‬بمهارات‭ ‬يدوية،‭ ‬ويتولون‭ ‬إصلاح‭ ‬الأجهزة‭ ‬المنزلية‭ ‬بأنفسهم،‭ ‬وتركيب‭ ‬وتوصيل‭ ‬المعدات‭ ‬الإلكترونية‭ ‬والكهربائية،‭ ‬فرغم‭ ‬اقتنائي‭ ‬كل‭ ‬أدوات‭ ‬الفك‭ ‬والربط‭ ‬والحدادة‭ ‬والنجارة‭ ‬والسباكة،‭ ‬فإنني‭ ‬ما‭ ‬لمست‭ ‬بها‭ ‬شيئا‭ ‬بهدف‭ ‬إصلاحه‭ ‬إلا‭ ‬وكانت‭ ‬نهايته‭.. ‬ولهذا‭ ‬فعندي‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬أرقام‭ ‬سبعة‭ ‬كهربائيين‭ ‬وتسعة‭ ‬سباكين،‭ ‬ولأن‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬لا‭ ‬تحترم‭ ‬المواعيد‭ ‬فإنني‭ ‬أتعامل‭ ‬معها‭ ‬بسخاء‭ ‬شديد‭ ‬كي‭ ‬أضمن‭ ‬أن‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬سيأتيني‭ ‬بعد‭ ‬يومين‭ ‬على‭ ‬أبعد‭ ‬تقدير‭ ‬من‭ ‬طلبي‭ ‬منه‭ ‬الحضور،‭ ‬ويا‭ ‬ما‭ ‬صرت‭ ‬مثل‭ ‬السمسمة‭ ‬عندما‭ ‬جاء‭ ‬كهربائي‭ ‬شكوت‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬الكهرباء‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬كله‭ ‬‮«‬ضاربة‮»‬‭ ‬فسألني‭ ‬عن‭ ‬صندوق‭ ‬تحويل‭ ‬الكهرباء‭ ‬الرئيسي‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬علم‭ ‬لي‭ ‬بوجود‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬الصندوق‭ ‬وخلال‭ ‬دقائق‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬عثر‭ ‬عليه‭ ‬أسفل‭ ‬ما‭ ‬نسميه‭ ‬السلم‭ ‬ويسميه‭ ‬غيرنا‭ ‬الدرج،‭ ‬ورفع‭ ‬زرا‭ ‬ثم‭ ‬أنزله‭ ‬وعادت‭ ‬الروح‭ ‬إلى‭ ‬الكهرباء،‭ ‬وإمعانا‭ ‬في‭ ‬إذلالي‭ ‬يرفض‭ ‬تقاضي‭ ‬أي‭ ‬مبلغ‭ ‬مني‭ ‬نظير‭ ‬خدماته‭.‬

والأمر‭ ‬الآخر‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬غير‭ ‬‮«‬منظم‮»‬،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬مكتبي‭ ‬يشبه‭ ‬مستودعا‭ ‬للكتب‭ ‬والأثاث‭ ‬المستعمل،‭ ‬وتدخله‭ ‬وتحسب‭ ‬أن‭ ‬محتوياته‭ ‬انتشلت‭ ‬بعد‭ ‬تسونامي‭ ‬محدود‭ ‬النطاق‭ ‬لم‭ ‬يحس‭ ‬به‭ ‬بقية‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬حولي‭ ‬لأنهم‭ ‬بلا‭ ‬أحاسيس،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬تسقط‭ ‬شماعة‭ ‬ملابسي‭ ‬بعد‭ ‬اختلال‭ ‬توازنها‭ ‬لأنني‭ ‬قد‭ ‬أحملها‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬طاقة‭ ‬لها‭ ‬به‭! ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬أمرا‭ ‬واحدا‭ ‬ظللت‭ ‬فيه‭ ‬مثالا‭ ‬للنظام‭ ‬والانضباط،‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬المواعيد‮»‬‭. ‬لدي‭ ‬‭ ‬وبعبارة‭ ‬أدق‭ ‬‭ ‬أعاني‭ ‬من،‭ ‬إحساس‭ ‬قوي‭ ‬بالوقت،‭ ‬ولو‭ ‬أيقظوني‭ ‬فجرا‭ ‬ووضعوا‭ ‬عصابة‭ ‬سوداء‭ ‬على‭ ‬عيني‭ ‬وتركوني‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬مظلمة‭ ‬عدة‭ ‬ساعات‭ ‬لنجحت‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬الوقت‭ ‬بزيادة‭ ‬او‭ ‬نقصان‭ ‬دقائق‭ ‬قليلة‭.‬

ولدي‭ ‬ساعة‭ ‬حائط‭ ‬أو‭ ‬تنبيه‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬اتجاه‭ ‬أدير‭ ‬فيه‭ ‬رأسي‭ ‬في‭ ‬البيت‭.. ‬وعندي‭ ‬في‭ ‬المكتب‭ ‬ساعة‭ ‬على‭ ‬الحائط‭ ‬وأخرى‭ ‬على‭ ‬الطاولة،‭ (‬ولا‭ ‬تقل‭ ‬لي‭ ‬ان‭ ‬الموبايل‭ ‬والكمبيوتر‭ ‬يوضحان‭ ‬الوقت‭ ‬بدقة‭ ‬لأنني‭ ‬مش‭ ‬فاضي‭ ‬للتنقيب‭ ‬عن‭ ‬الموبايل‭ ‬وسط‭ ‬أشيائي‭ ‬المبعثرة‭)‬،‭ ‬وبسبب‭ ‬التزامي‭ ‬بالمواعيد‭ ‬فإن‭ ‬لي‭ ‬برامج‭ ‬يومية‭ ‬ثابتة‭ ‬أنجز‭ ‬فيها‭ ‬أشياء‭ ‬محددة‭ ‬ولا‭ ‬أخرج‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬البرامج‭ ‬إلا‭ ‬‮«‬للشديد‭ ‬القوي‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬حدوث‭ ‬أمر‭ ‬طارئ‭ ‬ومهم‭.. ‬بحلول‭ ‬التاسعة‭ ‬صباحا،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬قد‭ ‬أكملت‭ ‬جزءا‭ ‬معينا‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬الموكل‭ ‬إليَّ‭.. ‬ومن‭ ‬التاسعة‭ ‬حتى‭ ‬منتصف‭ ‬اليوم‭ ‬هناك‭ ‬مهمة‭ ‬أخرى‭ ‬محددة‭.. ‬وهكذا‭ ‬دواليك‭.. ‬حتى‭ ‬مقالي‭ ‬هذا‭ ‬التزم‭ ‬بكتابته‭ ‬في‭ ‬ساعة‭ ‬معينة،‭ ‬بل‭ ‬أفضل‭ ‬كتابة‭ ‬عدة‭ ‬مقالات‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة‭ ‬حتى‭ ‬أتفادى‭ ‬صيحات‭: ‬صح‭ ‬النوم‭ ‬يا‭ ‬أستاذ‭ ‬الجريدة‭ ‬رايحة‭ ‬على‭ ‬المطبعة‭ ‬وفي‭ ‬انتظار‭ ‬مقالك‭ (‬المشكلة‭ ‬هي‭ ‬أنني،‭ ‬وبسبب‭ ‬خلل‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬قد‭ ‬اكتب‭ ‬المقالات‭ ‬وأنسى‭ ‬إرسالها‭ ‬الى‭ ‬الصحيفة‭)‬،‭ ‬وتأسيسا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أسلفت،‭ ‬فإنني‭ ‬شديد‭ ‬التقيد‭ ‬بالمواعيد‭ ‬التي‭ ‬أضربها‭ ‬للآخرين‭: ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬لك‭ ‬سألتقي‭ ‬بك‭ ‬في‭ ‬الرابعة‭ ‬فإنك‭ ‬ستجدني‭ ‬أمامك‭ ‬في‭ ‬الرابعة‭ ‬إلا‭ ‬ربعا‭.. ‬وبالتالي‭ ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬أغفر‭ ‬للآخرين‭ ‬الاستخفاف‭ ‬بمواعيد‭ ‬ضربوها‭ ‬لي‭.. ‬بدرجة‭ ‬أنني‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬أفتح‭ ‬باب‭ ‬بيتي‭ ‬لشخص‭ ‬يعدني‭ ‬بزيارة‭ ‬منزلية‭ ‬في‭ ‬السابعة‭ ‬مساء‭ ‬ثم‭ ‬يأتيني‭ ‬في‭ ‬الثامنة‭ (‬أما‭ ‬بعد‭ ‬التاسعة‭ ‬مساء‭ ‬فلا‭ ‬أزور‭ ‬ولا‭ ‬أُزار‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬جدة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬‮«‬غير‮»‬‭ ‬فعلا،‭ ‬وتدب‭ ‬الحياة‭ ‬والمرح‭ ‬فيها‭ ‬وفي‭ ‬ساكنيها‭ ‬بعد‭ ‬العاشرة‭ ‬ليلا‭).. ‬وبسبب‭ ‬تشددي‭ ‬في‭ ‬المواعيد‭ ‬فقد‭ ‬خسرت‭ ‬الكثيرين‭ ‬من‭ ‬معارفي‭ ‬لأنني‭ ‬أغضب‭ ‬جدا‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يخلفون‭ ‬المواعيد‭.. ‬وهب‭ ‬أنني‭ ‬دعوت‭ ‬عشرة‭ ‬أشخاص‭ ‬الى‭ ‬العشاء‭ ‬عندي‭ ‬في‭ ‬التاسعة‭ ‬مساء،‭ ‬وبحلول‭ ‬التاسعة‭ ‬والنصف‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬وصل‭ ‬منهم‭ ‬ستة،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬اعتبر‭ ‬النصاب‭ ‬مكتملا‭ ‬وأقول‭ ‬لهم‭ ‬‮«‬تفضلوا‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬أحس‭ ‬بالحرج‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬سيأتون‭ ‬لاحقا‭ ‬سيتناولون‭ ‬‮«‬بواقي‭ ‬الأكل‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬لهوسي‭ ‬بالمواعيد‭ ‬فوائد‭ ‬إيجابية‭ ‬وأخرى‭ ‬سلبية‭ ‬كما‭ ‬سنرى‭ ‬غدا‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا