تسير حكومة بنيامين نتنياهو بخطى حثيثة نحو فرض سيطرة كاملة على قطاع غزة، مستفيدة من حالة تواطؤ وصمت غربيين، ومستخفة بالتحذيرات الدولية ومبادئ القانون الإنساني. فبعد ما يقارب عامين من القصف والتجويع والتهجير القسري، ومع احتلال أكثر من ثلاثة أرباع مساحة القطاع، لم تكتف تل أبيب بما ألحقته من دمار ومآسٍ، بل أعلنت، بوضوح غير مسبوق، نيتها بسط هيمنة عسكرية كاملة على غزة، في خطوة تهدد بتفجير ما تبقى من فرص للسلام، وتعميق الانهيار الإنساني والسياسي في المنطقة.
على مدار 23 شهرًا، شنت إسرائيل حملة تدمير ممنهجة بحق سكان قطاع غزة، تخللتها عمليات قصف واحتلال عسكري واسع النطاق، أسفرت عن تهجير شبه كامل لسكان القطاع، الذين أُجبروا على العيش في جيوب مكتظة وسط أوضاع إنسانية كارثية، معتمدين كليًا على المساعدات الخارجية المحدودة التي سُمح بدخولها.
وفي مطلع أغسطس 2025، أعلنت حكومة بنيامين نتنياهو، ذات التوجه اليميني المتطرف، عن نيتها توسيع السيطرة العسكرية لتتجاوز 75% من مساحة القطاع التي يحتلها الجيش الإسرائيلي حاليًا، حيث وافق مجلس الوزراء الأمني يوم 8 أغسطس على خطة الاستيلاء على مدينة غزة، بينما جدد نتنياهو إصراره على السيطرة الكاملة، في خطوة من شأنها مضاعفة معاناة المدنيين الفلسطينيين.
وصف الباحث د. بوركو أوزجيليك، الزميل الأول في أمن الشرق الأوسط لدى المعهد الملكي للخدمات المتحدة، هذه الخطوة بأنها رد على خطط الدول الأوروبية للاعتراف بدولة فلسطينية خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبلة في سبتمبر. في المقابل، تساءل كل من آرون ديفيد ميلر، الزميل البارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، ودانيال سي. كورتزر، أستاذ دراسات سياسة الشرق الأوسط في جامعة برينستون، عما إذا كانت هذه الخطوة تمثل تكتيك ضغط لإجبار حماس على الاستسلام أم تحولًا جوهريًا في السياسة.
ومع ذلك، فإن تصريحات شخصيات متطرفة مثل وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي روّج للعودة إلى المستوطنات اليهودية غير القانونية في غزة، تكشف بوضوح عن أن مشروع الإبادة الجماعية للفلسطينيين أصبح أولوية لحكومة نتنياهو.
ورغم أن ألمانيا سارعت إلى تعليق صادراتها العسكرية إلى إسرائيل، فإن بقية الحلفاء الغربيين، لا سيما واشنطن، اختاروا التجاهل الجماعي، وهو ما وصفه مراسل بي بي سي لأمريكا الشمالية، أنتوني زورشر، بأنه تجاهل واضح. أما بريان كاتوليس، الزميل البارز في معهد الشرق الأوسط، فقد أرجع هذا الموقف إلى غياب القيادة، محذرًا من أن استمرار هذا التخاذل سيؤدي إلى نتائج كارثية على حياة المدنيين الفلسطينيين، ويمنح نتنياهو وشركاءه غطاءً لمواصلة تحقيق أجنداتهم السياسية الخبيثة.
وأشار مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى أن معظم مناطق غزة باتت تُصنّف كـمناطق خطر على المدنيين، دون أن يثني ذلك الجيش الإسرائيلي عن تصعيد القصف، أو التسبب في مقتل نحو 1400 مدني أثناء محاولتهم الوصول إلى مساعدات إنسانية نادرة وسط مجاعة حادة وسوء تغذية متفشٍّ، وصفها المجتمع الدولي بأنها متعمدة.
وفي تغطية صحيفة الجارديان، أورد الصحفي لورينزو توندو أن الخطط الجديدة تشمل إرسال قوات برية إلى ما تبقى من مناطق القطاع التي لم تُسحق بالكامل. وبينما أشار ميلر وكورتزر إلى غياب التفاصيل حول ما بعد السيطرة الإسرائيلية، حذر أوزجيليك من أن هذه المرحلة تمثل بداية جديدة قاتمة ومضطربة، ذات تداعيات إقليمية ودولية خطيرة.
أقرّ توماس ر. نايدز، السفير الأمريكي لدى إسرائيل بين عامي 2021 و2023، بأن هدف نتنياهو المعلن بـتدمير حماس بالكامل غير قابل للتحقيق عسكريًا. أما أمين صيقل، الأستاذ الفخري لدراسات الشرق الأوسط في الجامعة الوطنية الأسترالية، فأكد أن نتنياهو كان دائمًا يخطط للسيطرة على غزة، بانتظار اللحظة السياسية المناسبة. وأفاد باتريك كينغسلي، مراسل نيويورك تايمز، بأن نتنياهو مدّد الحرب خدمةً لأهدافه السياسية، كما فعل سابقًا في الاستيلاء على رفح وتدميرها في أبريل 2024، ثم استئناف القصف في مايو 2025، مما فاقم الأزمة الإنسانية بشكل كارثي.
وفي مقابلة مع شبكة فوكس نيوز في 7 أغسطس، أكد نتنياهو أن الجيش الإسرائيلي يعتزم السيطرة الكاملة على غزة، وهو ما اعتُبر إشارة واضحة للمتطرفين أمثال سموتريتش، الذي وصف ضم غزة بأنه خطة عمل حقيقية، في دعوة ضمنية لإعادة المستوطنات التي تم إخلاؤها قبل نحو عشرين عامًا.
أمام هذا الواقع، أدان مسؤولون أمميون نية إسرائيل المعلنة. فقد طالب فولكر تورك، المفوض السامي لحقوق الإنسان، بـوقف هذه الخطة فورًا، مؤكّدًا أن سيطرة إسرائيل على غزة تتناقض مع قرار محكمة العدل الدولية بإنهاء الاحتلال فورًا. كما شدد ميروسلاف جينتشا، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية، على أن القانون الدولي واضح في أن غزة جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية المستقبلية.
ومع تعهد فرنسا وبريطانيا، في يوليو 2025، بالاعتراف بدولة فلسطينية خلال اجتماعات الأمم المتحدة في سبتمبر، فإن ردود الفعل الغربية على هذا التصعيد الإسرائيلي ستكشف ما إذا كانت حكومة نتنياهو ستواصل الإفلات من المحاسبة على جرائم الحرب، بما فيها الإبادة الجماعية، أم أن مرحلة جديدة من الضغط الدولي ستبدأ.
على الرغم من تصاعد الأحداث، فإن ردّ فعل كلٍّ من بريطانيا وفرنسا جاء حتى الآن باهتًا بشكل واضح. فقد وصف رئيس الوزراء البريطاني، السير كير ستارمر، خطط إسرائيل بأنها خاطئة، محذرًا من أنها لن تؤدي إلا إلى مزيد من سفك الدماء، لكنه لم يتخذ أي خطوات ملموسة مثل فرض عقوبات حقيقية. في المقابل، اتخذت ألمانيا، أحد أبرز داعمي إسرائيل في أوروبا، خطوة لافتة بتعليق صادراتها العسكرية، حيث صرّح المستشار فريدريش ميرز أن هذه الصادرات قد تُستخدم في قطاع غزة.
ويُذكر أن برلين كانت من كبار موردي الأسلحة لإسرائيل، بإجمالي تراخيص تصدير تجاوز 560 مليون دولار بين أكتوبر 2023 ومايو 2025، رغم أن استطلاعًا للرأي أجرته دويتشه فيله كشف أن 66% من الألمان يرون ضرورة الضغط على إسرائيل لتغيير سياستها في غزة، بينما رفض 62% فكرة أن ألمانيا، بحكم تاريخها، تتحمل مسؤولية مضاعفة لحماية إسرائيل.
في هذا السياق، ومع تزايد الدعوات من نشطاء حقوق الإنسان وخبراء قانونيين منذ أكثر من عام، للتوجه نحو قطع الدعم العسكري، تساءل المحلل أوزجيليك عن مدى جدوى مثل هذه الخطوات، حتى وإن كانت سترسل رسالة قوية ضد تدمير غزة. ذلك أن المساعدات الأمريكية تفوق بكثير الدعم الأوروبي، وطالما بقي التمويل الأمريكي دون قيود، فإن نفوذ الحكومات الأوروبية سيظل محدودًا.
أما على الجانب الأمريكي، فقد ذكرت صحيفة واشنطن بوست أن مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، أبلغ عائلات رهائن حماس المتبقين بأن إدارة ترامب باتت مستعدة للتخلي عن سياسة الصفقات الجزئية، والتي فُسّرت من قِبل ميلر وكورتزر بأنها قد تتضمن مبادلة جميع الرهائن بعدد كبير من الأسرى الفلسطينيين، إلى جانب جدول زمني للانسحاب الإسرائيلي من غزة مقابل نشر قوة مؤقتة هناك. ومع ذلك، فإن الرئيس الأمريكي تجاهل مؤخرًا الانتهاكات المتكررة التي ترتكبها إسرائيل للقانون الدولي، قائلاً إن مصير غزة سيبقى إلى حد كبير بيد إسرائيل، وهو تصريح يعكس قبولًا ضمنيًا باستمرار جرائم الحرب.
هذا الموقف لا يبدو مفاجئًا في ضوء تصريحات ترامب في فبراير، حيث تباهى بالسيطرة الأمريكية على غزة وتحويلها إلى ريفييرا الشرق الأوسط، وهو تصور تجسّد في مقاطع فيديو منشأة بالذكاء الاصطناعي، تُظهر غزة تعج بالفنادق والكازينوهات ومنتجعات ترامب. في السياق ذاته، وتحت غطاء إطعام الناس، تعمل مؤسسة غزة الإنسانية – التي وُصفت من قِبل منظمات إغاثة مرموقة بأنها أداة لتسليح المساعدات – رغم مسؤوليتها غير المباشرة عن وفاة آلاف الفلسطينيين جوعًا. وقد صرّح فرانك لوينشتاين، المبعوث الأمريكي السابق للمفاوضات بين عامي 2014 و2017، بأن ترامب، في الوقت الحالي.. سيسمح لنتنياهو بفعل ما يشاء، مهما كانت العواقب على المدنيين.
وحذّر ميلر وكورتزر من أن تحقيق نهاية مستدامة للحرب يتطلب إجابة واضحة عن أسئلة جوهرية، من بينها: من سيحكم غزة؟ من سيوفر الأمن؟ من سيقود إعادة الإعمار؟ وما هو المسار السياسي الممكن؟ بينما يبقى إصرار نتنياهو على تسليم غزة لقوات عربية غير محددة، دون أي تنسيق مع السلطة الفلسطينية، بعيدًا عن تقديم أي حلول واقعية.
وأشار أوزجيليك إلى أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل فرنسا والمملكة المتحدة سيظل مجرد إعلان رمزي خالٍ من التأثير العملي، ما لم يُدعَم بتحرك دبلوماسي منسق أو إعادة ضبط شاملة للمسار السياسي. ومع استمرار التردد الأوروبي، فإن السؤال الحقيقي هو: هل ستتبع هذه الدول النهج الألماني وتوقف الدعم العسكري؟ أم سيبقى الغرب في موقع المتفرج؟
وبينما دعا ميلر وكورتزر الإدارة الأمريكية إلى الضغط على نتنياهو، جاء تصريح السفير الأمريكي لدى إسرائيل، مايك هاكابي، ليؤكد تعنت إدارة ترامب، بقوله إن ليس من وظيفتنا إخبار حكومة نتنياهو بما يجب أو لا يجب أن تفعله. وفي ظل هذا الغطاء الأمريكي، لا تبدو إسرائيل معنية كثيرًا بالإدانة الدولية.
ويحذّر ستيفن أ. كوك، الزميل في مجلس العلاقات الخارجية، من أن إسرائيل تخاطر بتجاوز حدودها في غزة والمنطقة، بينما يرى كينغسلي أن الاستيلاء الكامل على الأراضي سيقود إلى طريق مسدود استراتيجي. وفي خضم هذا كله، تبقى معاناة أكثر من مليوني فلسطيني – من نساء وأطفال – في غزة، هي الثمن الإنساني الأكبر لتصعيد إسرائيل وسعيها نحو حرب دائمة، كما وصفها الصحفي بيتر بومونت من الجارديان.
أمام مشهد يزداد قتامة، يبقى السؤال مفتوحًا حول مدى استعداد المجتمع الدولي لتحمّل مسؤولياته، ووقف ما يبدو أنه اندفاع ممنهج نحو فرض واقع الاحتلال بالقوة والتجويع والتطهير. إن الصمت الغربي، والدعم الأمريكي غير المشروط، واستمرار تهميش الفلسطينيين سياسيًا وإنسانيًا، كل ذلك لا ينذر فقط بإطالة أمد الحرب، بل بخلق بيئة قابلة للانفجار الإقليمي واسع النطاق. ومع تصاعد المؤشرات على انحدار غزة نحو جحيم دائم، تصبح الحاجة ملحّة إلى إعادة الاعتبار للعدالة الدولية، والضغط الجاد من أجل وقف آلة الحرب، وإفساح المجال أمام مسار سياسي حقيقي يضمن حقوق الفلسطينيين غير القابلة للتصرف.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك