من الواضح الآن أن أي جهد دولي مشترك لعلاج أي قضية عالمية تخص كوكبنا برمته لن يكتب له النجاح والتقدم إلى الأمام إلا بعد الموافقة الكلية للولايات المتحدة الأمريكية، والتأكد من مباركتها ورغبتها الجادة واستعدادها التام لركوب القطار الدولي الجماعي المشترك، وقيامها بقيادة وإدارة هذا القطار نحو وجهتها الحزبية ومواقفها السياسية.
ولذلك نجد أن قضية التغير المناخي وسخونة الأرض تراوح مكانها منذ أكثر من 33 عاماً، وخطوات الحل والعلاج تتقدم خطوة إلى الأمام ثم ترجع خطوات واسعة على الخلف، وكل ذلك نتيجة لتذبذب سياسات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه التغير المناخي بين مدٍ وجزر، وعدم استقرار مواقفها وممارساتها نحو علاج هذه القضية، وبالتحديد بالنسبة إلى وضع الإجراءات اللازمة لخفض انبعاثات الغازات المسؤولة عن وقوع التغير المناخي للكرة الأرضية، وتحديد السياسات التي من شأنها خفض مصادر تلوث الهواء بغاز ثاني أكسيد الكربون المتهم الأول لرفع درجة حرارة الأرض، إضافة إلى التحول التدريجي من استخدام الوقود الأحفوري المسبب للتغير المناخي إلى مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والطاقة النووية.
فاليوم، في عهد الرئيس ترامب المُعادي لسياسات التغير المناخي، بل والمُنْكر لدور الإنسان في وقوع هذه الظاهرة الدولية المشتركة، فإن الجهود الدولية لعلاج هذه الظاهرة تعيش عصرها المظلم والأسود، فقد انسحب ترامب من تفاهمات باريس حول التغير المناخي لعام 2015 مرتين، ولذلك أية محاولات دولية حول التغير المناخي سيكتب لها الفشل، وبخاصة إذا علمنا بأن النسبة الأعلى من انبعاثات غازات الدفيئة والاحتباس الحراري المسببة لسخونة الأرض تنبع من أراضي أمريكا، فهي المسؤولة تاريخياً عن نزول هذه الظاهرة على سكان الأرض.
وعلاوة على انسحاب ترامب من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتغير المناخي، فإنه يعمل جاهداً وبكل قوة وبسرعة شديدة على استئصال كل ما له علاقة بالتغير المناخي من جذوره من المجتمع والسياسة الأمريكية، وهدم كل ما بناه الرؤساء الآخرون من أجل مواجهة ظاهرة التغير المناخي، والعمل على إلغاء كل الأنظمة والخطوات التي اتُخذتْ من قبل لخفض حجم انبعاثات أمريكا من غاز ثاني أكسيد الكربون.
فقد أعلنتْ وكالة حماية البيئة في 29 يوليو 2025 وبكل فخر واعتزاز إعلاناً تاريخياً يعد وصمة عار في جبين أمريكا، وأَطلقتْ عليه «يوم التحرير» (Liberation Day)، أي يوم فك القيود عن القوانين والأنظمة المناخية والتحرر كلياً من الإمبريالية المناخية الدولية والاتحادية، ويوم «شيطنة» الأنظمة المناخية بأنها تدمر وتؤخر التنمية. فترامب يؤمن بالنظرية التي أكل عليها الدهر وشرب، ويعتقد بالفكر البالي الذي تخطاه وعفا عليه الزمن وكان سائداً أيام جهل الإنسان بدور الملوثات في تدمير صحة البيئة والإنسان معاً ووقوع المظاهر والكوارث البيئية الصحية. فترامب يعتبر أن وضع الأنظمة وتحديد المواصفات البيئية على انبعاثات السيارات، ومحطات توليد الطاقة، والمصانع عملية مكلفة وتعيق عملية النمو الاقتصادي، وتعد حجر عثرة أمام استمرار التطور والتقدم في البلاد، فهو بهذه الثقافة القديمة ينسف سياسة التنمية المستدامة التي أجمعت عليها كل دول العالم في قمة الأرض في ريو دي جانيرو عام 1992، والتي تقف على قاعدة التوازن بين حماية البيئة والتنمية الاقتصادية، أي تحقيق التنمية البيئية والاقتصادية معاً، ولا تعارض ولا خلاف بينهما.
وبإعلان التحرير من الأنظمة البيئية المناخية يكسر ترامب ولا يعترف بالإجماع العلمي المناخي على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية وعلى المستوى الدولي على حدٍ سواء، ويناقض الاستنتاجات التي توصلت إليها وكالة حماية البيئة الأمريكية نفسها في عهد أوباما في عام 2009، وأُطلق عليها «نتائج الخطورة» (endangerment finding)، بناءً على التقرير تحت عنوان: «التقييم المناخي القومي» (National Climate Assessment). والاستنتاج هو أن غازات الاحتباس الحراري المسببة لسخونة الأرض، خاصة غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان تشكل تهديداً للصحة العامة ورفاهية الشعب لهذا الجيل والأجيال اللاحقة، حيث اعتُبر هذا الاستنتاج العلمي الأساس القانوني لوضع هذه الغازات ضمن قائمة مواصفات جودة الهواء، وبالتالي وضع الحدود المسموح بها في انبعاثات وسائل النقل ومحطات توليد الكهرباء وغيرهما.
فمثل هذه الحالة التي نشهدها أمامنا تؤكد لي أن أمريكا لم تعد دولة مؤسسات وثوابت وحقائق علمية، وإنما تحولت إلى دولة مضطربة وغير مستقرة علمياً، فقراراتها تتغير بحسب قناعات وأهواء ومزاج الرئيس نفسه. فالجميع يتذكر أن أوباما انضم إلى تفاهمات باريس حول التغير المناخي لعام 2015، فجاء ترامب وانسحب منها، ثم في عهد بايدن انضمت أمريكا مرة ثانية إليها، فجاء ترامب وانسحب منها للمرة الثانية. كذلك بالنسبة للأنظمة البيئية المناخية، حيث وضعها أوباما في عام 2009، فجاء ترامب وألغاها كلياً وكأنها لم تكن موجودة أصلاً، وعندما جاء بايدن أعادها من جديد كما كانت في عهد أوباما، والآن ترامب ينسفها من جذورها، ويتخلص منها. فلا أنظمة ولا معايير لانبعاث الغازات المناخية من السيارات بجميع أنواعها وأحجامها، ولا قيود ولا ضوابط لانطلاق هذه الغازات من المصانع ومحطات توليد الكهرباء ومن علميات الاستكشاف عن النفط والغاز الطبيعي. وهذا يعني أن أمريكا رجعت إلى الخلف سنوات طويلة بالنسبة لالتزاماتها القومية والدولية وتعهداتها بخفض الانبعاث للغازات المتهمة بالتغير المناخي، ومثل هذه الممارسات غير العقلانية وغير المستندة على الأدلة العلمية تنعكس سلباً على كوكب الأرض، فترتفع حرارتها وستصاب بالحمى المزمنة التي لا يمكن علاجها.
ولم يكتف ترامب بهذه الإجراءات، ولم يقف عند هذا الحد، وإنما اتخذ عدة قرارات من شأنها ضرب جميع الجهود الدولية والقومية لمكافحة التغير المناخي ومنع تفاقم ارتفاع درجة حرارة الأرض. فقد فتح الباب مرة ثانية على مصراعيه أمام التنقيب عن جميع أنواع الوقود الأحفوري، حتى ولو كان في منطقة المحميات الطبيعية مثل محمية ألاسكا الشهيرة، كما ألغى كافة البرامج ومراكز البحوث المتعلقة بالتغير المناخي، وأوقف عنها الدعم المالي. كذلك من أجل تغيير الرأي العام حول واقعية وتأثير التغير المناخي على الكرة الأرضية والإنسان، فقد عيَّن عدة علماء في بعض الوزارات، مثل وزارة الطاقة في 8 يوليو 2025، وذلك من أجل خلقٍ مناخ علمي جديد يختلف عن الاجماع العلمي السائد الآن، والعمل على التشكيك والتخفيف من دور الإنسان في نزول التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية الناجمة عنها.
فهذه المعطيات والمؤشرات المناخية السلبية التي تصدر من أمريكا تجعلني أتشاءم من نجاح اجتماع التغير المناخي رقم (30)، والذي سيعقد في نوفمبر 2025 في البرازيل، وبخاصة أن أمريكا بقوتها ونفوذها الكبيرين وتأثيرها المباشر على المناخ الدولي لن تشارك بوفد رسمي في الاجتماع، بحسب ما ورد في المحطة الإخبارية «سي إن إن» في 29 يوليو 2025.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك