تلميحات مبعوث الرئيس الأمريكي للبنان وسورية توم براك أعادت إلى طاولة البحث النقاش القديم حول خرائط وحدود الاتفاق الاستعماري سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا عام 1916، ويبدو أن التلميحات لا تأتي من فراغ، وخصوصا مما جرى في المنطقة العربية منذ السابع من أكتوبر 2023، من حرب واسعة غيرت موازين القوى، فمن الطبيعي بعد حروب كهذه أن تخرج السيناريوهات عما هو تقليدي، وما كان دارجا منذ أكثر من مائة عام، والذي كان طوال الوقت رهينة للخارطة التي رسمتها أقوى امبراطوريتين في حينه بريطانيا وفرنسا انطلاقا من مصالحهما الاستعمارية.
ما كان يحرك بريطانيا وهي تفكر بالسيطرة على الشرق الأوسط أمران، الأول ضمان طريق بري مفتوح من شواطئ البحر المتوسطة الشرقية إلى الهند، المستعمرة الأهم للإمبراطورية، والثاني ضمان الدفاع عن قناة السويس من الشرق، أما فرنسا فكانت تعتقد أن شواطئ البحر المتوسط سواء في شمال إفريقيا أو في الشرق هي امتداد لها ولنفوذها، وأن فرنسا هي اول من وصل إلى الشواطئ السورية مع بداية الحملات الصليبية.
ولكن من المفيد أن نتذكر أن حدود سايكس بيكو قد جرى تغييرها جوهريا عندما تم إحلال دولة إسرائيل مكان فلسطين، الدولة التي كانت قائمة ضمن التقسيمات البريطانية الفرنسية، وتم إلغاء فلسطين عن الخريطة. كما تم تغيير الحدود مرة أخرى في حرب عام 1967 عندما احتلت إسرائيل هضبة الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء.
بدأ تقاسم الشرق الأوسط بخط رسمه مارك سايكس على خريطة المنطقة شرق المتوسط كانت موضوعة على طاولة وزارة الحرب البريطانية في لندن، بدأ الخط الذي رسمه سايكس من نقطة شمال حيفا وذهب به إلى الموصل شمال العراق وصولا إلى بلاد فارس، وخاطب من كان حوله من أعضاء مكتب الاستعمار البريطاني قائلا: جنوب الخط يجب أن يبقى بأيدي بريطانيا، وشمال الخط يمكن أن يكون لفرنسا. وعندما تم توقيع اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 خلال الحرب العالمية الأولى، كان هم مارك سايكس أن تأخذ بريطانيا ما أرادته، وعندما أصرت فرنسا على أن تكون فلسطين من حصتها، كان وعد بلفور هو الحل لكي تحتفظ بريطانيا بفلسطين، بهدف حماية قناة السويس وضمان الطريق البري للهند. بعد انتهاء الحرب وأثناء رسم الحدود والخرائط تفجرت نزاعات لا حصر لها بين الفرنسيين والإنجليز ليصلوا في النهاية إلى الخريطة والحدود التي نعرفها اليوم، استمرت عملية رسم الحدود سنوات طويلة تخللتها مؤامرات ودسائس بين الطرفين، وكانت الحركة الصهيونية حاضرة في بعضها لتضمن لنفسها حدودا اوسع للدولة اليهودية المستقبلية، وغاب عنها العرب تماما.
الشيء الوحيد الذي تم تغييبه عن خريطة سايكس بيكو هو فلسطين، وحتى عندما ثبتها جزئيا قرار التقسيم لعام 1947، ونتيجة لتشابك المصالح، وبالتحديد رغبة بريطانيا في الحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، تم تمزيق فلسطين وإلغاء وجودها على الأرض ومن ثم عن الخرائط. بعد إلغاء فلسطين بطريقة ظالمة، ومنذ ذلك التاريخ لم يستقر الشرق الأوسط، الذي شهد عشرات الحروب والتمردات والحروب الأهلية، وطوال الوقت واصلت الصهيونية، ومن ثم إسرائيل التنكر لوجود فلسطين والفلسطينيين، وحتى عندما اعترفت إسرائيل بوجود الشعب الفلسطيني في اتفاقيات أوسلو سرعان ما عمل التيار الصهيوني المتطرف على إلغاء هذه الاتفاقيات وتفريغها من اي مضمون كي لا يتطور الكيان الفلسطيني الذي أتاحت وجوده الاتفاقية إلى دولة فلسطينية.
اليوم بعد الحرب الإقليمية، فإن واشنطن تشعر انها صاحبة اليد العليا في المنطقة، وبإمكانها ان تعيد صياغتها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، هناك مفهوم تحدث به المنظرون الأمريكان بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية. عندما انفتحت الولايات المتحدة على العالم من جديد. قال هؤلاء «إن أي طرف يريد التوسع في العالم عليه أن يسيطر على الشرق الأوسط، ومن يريد أن يحد من توسع الاخرين في العالم عليه أيضا أن يسيطر على الشرق الأوسط». هذا المفهوم له ما يعنيه اليوم بحيث بإمكان واشنطن من خلال سيطرتها على الشرق الأوسط أن تمنع التمدد الصيني على سبيل المثال.
نعود إلى فكرة تحريك حدود سايكس بيكو، فإن واشنطن تعتقد أن الشرق الأوسط بحاجة إلى إزاحات في الحدود لتوسيع دول وتضييق أخرى، أو إنتاج دول جديدة، ولكن في النهاية سنكون أمام خريطة مختلفة، هناك سؤال مهم ماذا تريد واشنطن أو ما هو الهدف من هذه الإزاحات أو التغييرات؟
قد يعاد رسم الخرائط حسب الامتدادات العرقية والطائفية والمذهبية. فكما قال المبعوث الأمريكي توم براك إن بريطانيا وفرنسا تقاسمتا المنطقة انطلاقا من مصالحهما الامبريالية، من دون النظر إلى سلام المنطقة واستقرارها، وقال إن إدارة الرئيس ترامب ستترك الأمر لشعوب المنطقة لتقرر هي مصيرها بنفسها.
لا نعرف حتى الآن إذا ما كانت إعادة النقاشات القديمة إلى السطح مجددا هي مسألة جدية أم إنها مجرد ضغوط لتقبل هذه الشعوب بما تراه واشنطن لها، أم هو حديث جدي. وبغض النظر عن جدية الحديث من عدمه، فإن علينا ألا نترقب بل أن نحدد كعرب مسبقا ماذا نريد؟
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك