أصبحت أؤمن أن الشباب ليسوا فكرة مؤجلة ولا جسرا عابرا إلى المستقبل. من يتأمل تفاصيل الحياة اليومية في البحرين، يدرك ذلك مباشرة. شباب اليوم لا ينتظرون إذنا ليبدؤوا، ولا يكتفون بالخطط. حضورهم واضح؛ في مشروع يبدأ صغيرا وينمو، في شابة تخوض تجربة الريادة، وتكبر مع كل تحد جديد، أو في شاب ينقل خبرته لمن حوله ببساطة واتقان.
تشير الإحصائيات إلى أن الشباب والأطفال يشكلون أكثر من نصف سكان البحرين. هذه الأرقام لا تحتاج إلى زخرفة أو مبالغة. مجتمعنا في ذروة عطائه، مليء بحيوية الأجيال الجديدة. هذا وحده كاف ليجعلنا نفكر بجدية، كيف نصنع بيئة تلتقي فيها طموحاتهم بفرص حقيقية؟ كيف نحمي تلك الحماسة في بدايتها من أن تتبدد بين الإحباط أو طرق لا تشبه أحلامهم. فأحلام الشباب لا تتوقف عند الحصول على وظيفة، بل في أن يجدوا في عملهم معنى وقيمة تلبي طموحاتهم الشخصية والوطنية.
ما يُحسب لبلدنا أنها لم تترك هذه الطاقة في خانة الأقوال أو الأمنيات. لله الحمد، هناك مشاريع فعلية على الأرض، وسياسات واضحة، وقيادات شبابية تتقدم إلى مواقع اتخاذ القرار. لسنا هنا لنزين الكلام، بل نصف ما يجري بالفعل. نراه في تعيين الشباب في مواقع تنفيذية وتشريعية، وفي إشراكهم في الوفود الرسمية، وفي تمكينهم من قيادة مبادرات نوعية داخل وخارج مؤسسات الدولة. لكن في المقابل، ليس كافيا أن نقول إن الباب مفتوح. فالتحدي الحقيقي أن يظل هذا الباب واضحا ومتاحا، ويثمر فعلا مع مرور الوقت.
في النسخة الأخيرة من «مدينة شباب 2030»، كل شيء بدا أكثر نضجا وواقعية. هناك أقسام تحاكي مؤسسات فعلية، وتجارب جديدة تظهر كل يوم، وفريق من الشباب يكتشف مع الوقت معنى أن يكون له دور في مكانه. زيارة جلالة الملك للمدينة في 24 يوليو 2025 لم تكن عابرة. جاء بنفسه، واطلع على التفاصيل. استمع لبعض الشباب وهم يشرحون أفكارهم، وراقب البرامج وهي تُنفذ كما خططوا لها. كانت الرسالة حاضرة، حتى من دون أن تُقال: كل ما يجري هنا ليس حدثا عابرا، بل تجربة جادة، تُعطي هذا الجيل ما يستحق من الثقة والاهتمام.
أحيانا، يكفي أن نستمع لحديث أبنائنا أو نرى اهتماماتهم اليومية لنشعر بالفرق. وندرك كم تغيّر الزمن. بين جيلنا وجيلهم، هناك فرق في الطموحات، وفي سرعة التعلم، وحتى في طرق مواجهة التحديات. لسنا بحاجة الى المثالية، لكن من الواضح أن الشباب اليوم يتحركون بثقة مختلفة، وبأدوات لم تكن متاحة لنا في الماضي.
وأنا طالبة في المدرسة، لم نكن نسمع بشيء اسمه ريادة أعمال، ولا نعرف عن ورش القيادة أو برامج التدريب في الصيف. كانت المدرسة هي العالم، والمستقبل شيء بعيد، ننتظره من دون استعجال، مثل العيد.
اليوم، أرى فتيانا وفتياتٍ يشاركون في مؤتمرات، يتعلمون مهارات لم نعرفها في أعمارهم، ويبدؤون مشاريع من غرفهم. مشهد مختلف تماما. وكأن الزمن فتح لهم أبوابا لم تكن موجودة لنا. شيء ما تغيّر، وتغيّر للأفضل.
وهنا أشعر بأن من المهم أن أتوقف عند نقطة تستحق الانتباه. فالأصعب في هذه الرحلة ليس إنهاء الثانوية أو تحقيق النجاح الدراسي، بل تلك اللحظة الحاسمة التي يقف فيها الشاب أو الشابة أمام مفترق طرق لا يعرف أي تخصص يختار. كثير من أبنائنا يواجهون هذا التردد بعد الثانوية، يحاولون فهم الطريق المناسب وسط وفرة التخصصات واختلاف الآراء. من واقع تجربتي الشخصية، أجد أن التوعية في هذا الجانب لا تصل للجميع كما ينبغي. فليس من السهل أن يحدد الشاب أو الشابة مسارًا يرسم بقية حياتهما من دون نقاش هادئ أو فرصة حقيقية لاكتشاف القدرات.
ما يحتاجه أبناؤنا في هذه المرحلة ليس فقط التشجيع على المبادرة، بل أيضا حضور من يساندهم بمعلومة دقيقة أو تجربة صادقة، حتى يشعروا بالأمان في الخطوة الأولى.
وتظهر الحاجة إلى التوجيه والدعم ايضا في أولى خطوات الشباب نحو العمل أو بدء مشروعهم الصغير. كثير منهم ينطلق بحماس، لكن يصطدم بتفاصيل لا يعرف كيف يتعامل معها في البداية، من الإجراءات الإدارية إلى تسويق المنتج، أو حتى اختيار نقطة الانطلاق الصحيحة. التجربة تعلّمهم أن الحماس أساس، لكن الدعم والتوجيه يصنعان الفرق في الاستمرار.
ومع كل ذلك، الطريق ليس واحدا للجميع. بعض العقبات تظهر في لحظات لم يتوقعها أحد. هناك تحديات تفرض نفسها على الحياة اليومية للشباب. أحيانا لا تكون مرتبطة بالقدرات أو الرغبة في التغيير، بل تتعلق ببيئة العمل نفسها. الدخول إلى سوق العمل في البحرين أصبح أسهل من السابق بفضل المبادرات الرسمية والخاصة، لكن تبقى هناك عقبات يلاحظها بعض الشباب: في التوظيف الأول ربما تظهر حواجز غير ظاهرة مثل احتياج الخبرة، أو بطء الاعتراف بقدراتهم، أو حتى الشعور بأنهم بحاجة إلى مزيد من الوقت ليجدوا مكانهم الحقيقي. بعضهم يجد طريقه بسرعة، وبعضهم يحتاج لصبر وتجربة أطول. هذه المشكلات لا تُحل بالإنكار، ولا تستعجل في إطلاق الأحكام. الحل يبدأ حين يُفتح المجال للحوار، ويُسمح للجيل الجديد أن يعبّر عن وجهة نظره ويشارك في تحسين البيئة نفسها.
في المقابل، هناك قصص نجاح كثيرا تحدث حولنا. شابة تبدأ مشروع صنع الكوكيز من مطبخها، ويكبر اسمها بين الناس. شباب يبتكرون آيسكريم من اللوز البحريني، فكرة بسيطة لاقت إعجاب الكثيرين. على الجانب الآخر، هناك من وجد نفسه في عالم المحتوى الرقمي، يقدم شروحات مبسطة أو تقنيات حديثة بلهجة قريبة من الجيل الجديد، وبعضهم نقل شغفه بالزراعة إلى ورش تعليمية للأطفال أو أنشطة موسمية. ومنهم من دخل عالم الألعاب والإعلام الرقمي بطريقته الخاصة. هذه النماذج، وغيرها الكثير، تحتاج من يرعاها، ويواكب تطورها، حتى تستمر وتصبح مصدر إلهام لغيرها.
بكل فخر شبابنا لا ينتظرون الغد، هم يتحركون الآن، يعملون، يجربون، يتعثرون، ثم ينهضون. دورنا كمجتمع أن نتوقف عن الاكتفاء بالمراقبة، وأن نكون جزءًا من هذه الحركة. لا بالمواعظ، بل بالمرافقة، لا بالخطط الطويلة وحدها، بل بالحضور القريب.
وحين نُراهن على هذه الطاقات، فإننا لا نبني حاضرا أقوى فقط، بل نضمن أن يكون المستقبل امتدادًا طبيعيا لوطنٍ يُصدّق أبناءه، ويثق بخطواتهم.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك