تواجه سوريا منذ الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، وتسلم الرئيس أحمد الشرع قيادة المرحلة الانتقالية تحديات جمة تأتي في مقدمتها العدوان الإسرائيلي المتكرر على أراضيها، ثم إشكالية الأقليات التي تهدد وحدة وسلامة أراضيها. ومع أني لا أحبذ استخدام هذا المصطلح لأنه صناعة غربية، وقد تبنته بعض الدول الغربية لحاجات في نفس يعقوب؛ فإسرائيل على سبيل المثال تتدخل اليوم في الشأن السوري بحجة حماية الدروز مع أنهم أحد مكونات المجتمع السوري، وأن الدولة السورية مسؤولة عن حمايتهم.
ومع جسامة هذه التحديات، إلا أن أكثر المحللين والمراقبين للمشهد السوري يرون أن الحكومة السورية عازمة على المضي قدماً في مواجهتها؛ فقد أثبت الرئيس الشرع قدرته على مواجهة كل هذه التحديات في هذه المرحلة الحرجة من عمر سوريا بكفاءة عالية وهو في هذا الاتجاه يستند على قاعدة شعبية ترى أنه رجل هذه المرحلة، وأنه ربان السفينة الذي يقود سوريا إلى شاطئ الأمان، بالرغم من كل العواصف الشديدة التي تعترض طريقها. وقد أثبت للشعب السوري خلال الشهور الماضية أنه رجل دولة خلع ثوب الثورية بمجرد تسلمه زمام الأمور في الحكومة الانتقالية، وجاءت أفعاله لتتماهى مع خطاباته التي حددت هوية الدولة السورية الجديدة، وتوجهاتها، وتأكيداته المستمرة على التحول من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة وبنائها وفق أسس جديدة تختلف تماماً عن الدولة الأسدية البائدة التي جثمت على صدور السوريين ردحا طويلا من الزمن يزيد على نصف قرن.
وعلى الرغم من تعقيدات المشهد السوري، وأنه ليس بالأمر الهين لأسباب عديدة لعل أبرزها أن الشرع ورث أطلال دولة، هالكة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.. إضافة إلى أن هناك جهات محلية، وأخرى خارجية تحاول العبث بأمن واستقرار سوريا، لأن هذا الاستقرار يصطدم مع مصالحها، ولذلك فهي دائماً تبحث عن البؤر والمشكلات التي تعكر صفو الأمن والاستقرار فتثير النعرات العرقية والدينية والطائفية في المجتمع السوري بقصد إثارة الفوضى، وإرباك القيادة السورية الجديدة.
إن هذه المسائل لم تغب عن ذهن القيادة السورية، وهي واعية تماماً بالأصابع التي تحرك خيوط اللعبة في المشهد السوري؛ فالكيان الصهيوني غير مسرور بالتغيير الكبير الذي حدث في المشهد السياسي في سوريا، وهو قلق جداً لما حدث، ولذلك رأيناه يسارع بتحريك جيشه نحو التوغل في الأراضي السورية، ومن ثم التدخل المباشر في أحداث محافظة السويداء بحجة حماية الدروز ظاهرياً ولكن الدافع الحقيقي بالنسبة إليه هو إرباك هذا المشهد، والضغط على القيادة السياسية نحو الاشتباك معه، وهو يعلم أنها لا تملك القدرات والإمكانيات العسكرية التي تؤهلها لمقارعته في هذا الوقت.
لهذا خاب ظنه لأن القيادة السورية كانت واعية لما يخطط له الكيان، وأنها لن تقع في الفخ الذي نصبه نتنياهو لها، وراحت تفكر بعقلانية واضعة أمامها تطلعات الشعب السوري الذي يريد أن ينعم بالأمان والاستقرار ويتفرغ لبناء سوريا الجديدة.
وبناء على ما سبق، يمكن القول إن مقاربة الرئيس الشرع لملف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية ، وتدخل إسرائيل المباشر في أحداث محافظة السويداء ليست المواجهة العسكرية؛ لأن الدخول في حرب مع الكيان الصهيوني مغامرة يعرف مسبقا بأن نتائجها لن تكون في صالحه، ولذلك فهو آثر أن يسلك طريق الدبلوماسية المباشرة؛ فأرسل وزير خارجيته أسعد الشيباني إلى باريس ليلتقي وزير شؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر وبحضور المبعوث الأمريكي توم براك الذي رتب لهذا اللقاء بمشاركة وزير الخارجية الفرنسي نويل بارو وكان الهدف منه بحث الترتيبات الأمنية في جنوب سوريا وأحداث السويداء.
ولاستكمال هذا الطريق، فقد توجه الشيباني إلى موسكو ليحل ضيفاً على نظيره الروسي سيرجي لافروف في موسكو ليناقش معه العلاقات الثنائية بين بلديهما في مرحلة ما بعد الأسد، وليطلعه على تطورات الأحداث في الحدود الجنوبية لبلاده، والتباحث حول الدور الذي يمكن أن يلعبه الروس في ترتيب البيت السوري انطلاقاً من المصالح السورية الروسية المشتركة.
أما مقاربة الشرع لمسألة «الأقليات» وبالأخص مسألة الدروز التي كانت حاضرة بقوة في المشهد السوري في الأسابيع الماضية، فتنطلق من السياسة التي تحدث عنها مراراً وهي ترتكز أساساً على وحدة سوريا وسلامة أراضيها وإصراره على القول إنه يرفض التمترس خلف جدار الطائفية والدينية والعرقية في سوريا، وهو يقدم نفسه كرئيس لكل السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، وأن كل سلوكياته وأفعاله تعكس ما يملأ قلبه وعقله من خير للإنسان السوري؛ فهو يؤكد باستمرار في كل لقاءاته على أنه على مسافة واحدة من الجميع، وأن الهوية التي ينادي بها، ويعمل على تحقيقها هي التي تعبر عن سوريا التي لا تقبل التجزئة ولا التقسيم وهي من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها، وأنه دائماً يؤكد وحدة تراب سوريا، وأنه سيقف بصلابة أمام كل الدعوات التي تروم إلى تقسيمها إلى كانتونات وفق أسس دينية أو طائفية أو عرقية.
إن نجاح الشرع في هذه المرحلة يتطلب منه استثمار الأجواء الإقليمية والدولية المؤيدة لوحدة أراضي سوريا واستقرارها ورفع العقوبات عنها، والاستفادة من كل الأوراق التي تمتلكها بلاده وخاصة في قضية إعادة الإعمار؛ فمعظم الدول تريد أن تنال نصيبا من كعكة إعادة الإعمار في سوريا، ويمكنه توظيف هذه الورقة خاصة مع أمريكا وأوروبا من خلال دعوتهما إلى الضغط على إسرائيل من أجل وقف اعتداءاتها المتكررة على سوريا، واحترام اتفاق 1974م مقابل فتح الطريق أمامهما للمشاركة في إعادة إعمار سوريا.
من جهة أخرى، نذكر «فإن الذكرى تنفع المؤمنين» بأن المشي على طريق الدبلوماسية في هذه المرحلة الحرجة محفوف بالمخاطر؛ لأن الطرف الآخر (إسرائيل) لا تريد الخير لبلدان المنطقة وتسعى إلى إضعافها ليسهل لها الهيمنة على قراراتها، وما اعتداءاتها المتكررة إلا دليل قاطع على أنها تريد من كل دول المنطقة الخضوع لها وهنا على القيادة السورية أن تكون حذرة، وتنتبه إلى الأفخاخ التي ينصبها العدو لها، وعليها أن تعي المشهد السياسي جيداً بحيث تتجنب الوقوع في المصيدة.
وفي هذه الظروف الصعبة، قد لا نلوم الشرع إذا اتخذ قرارات غير شعبوية في بعض الملفات، لكنه يقوم بهذا التصرف أو ذاك ليجنب بلاده ويلات كبيرة، والعمل من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجي وهو أن تبقى سوريا موحدة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك