العدد : ١٧٣٠٩ - الأربعاء ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٠٩ - الأربعاء ١٣ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ صفر ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

في مدح وذم التكنولوجيا

كان‭ ‬جيلي‭ ‬محظوظا،‭ ‬لأنه‭ ‬عاش‭ ‬لحظات‭ ‬انبهار‭ ‬كثيرة‭ ‬ومتوالية،‭ ‬فقد‭ ‬شهدنا‭ ‬عصر‭ ‬الراديو‭ ‬ثم‭ ‬التلفزيون‭ ‬ثم‭ ‬التلفون‭ ‬الأرضي‭ ‬ثم‭ ‬الموبايل‭ ‬ومعه‭ ‬الإنترنت‭ ‬وغوغل‭ ‬وواتساب‭ ‬والإيميل‭ (‬لعل‭ ‬كثيرين‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬تطبيق‭ ‬مِيت‭ ‬meet‭ ‬الذي‭ ‬تقدمه‭ ‬غوغل،‭ ‬ويوفر‭ ‬مكالمات‭ ‬صوت‭ ‬وفيديو‭ ‬عالية‭ ‬الجودة،‭ ‬و‭..... ‬ببلاش‭). ‬ومع‭ ‬هذا،‭ ‬وربما‭ ‬بسبب‭ ‬هذا،‭ ‬أتمنى‭ ‬أحيانا‭ ‬لو‭ ‬ان‭ ‬التقدم‭ ‬التكنولوجي‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬ويؤدي‭ ‬طوفانا‭ ‬من‭ ‬المخترعات‭ ‬يتوقف‭ ‬بعض‭ ‬الوقت،‭ ‬فالمخترعات‭ ‬الحديثة‭ ‬تجردنا‭ ‬شيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬من‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الممارسات‭ ‬والقيم،‭ ‬بل‭ ‬تسلب‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬‮«‬الطابع‭ ‬الإنساني‮»‬،‭.. ‬خذ‭ ‬مثلا‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬بنا‭ ‬التلفزيون‭ ‬والانترنت‭ ‬والهاتف‭ ‬الجوال‭. ‬تجلس‭ ‬عائلة‭ ‬بأكملها‭ ‬امام‭ ‬شاشات‭ ‬التلفزيون‭ ‬نحو‭ ‬ساعتين‭ ‬مثلا‭ ‬ويكون‭ ‬كل‭ ‬الكلام‭ ‬المتبادل‭ ‬بينهما‭ ‬تلغرافات‭ ‬من‭ ‬نوع‭: ‬بعدين‭.. ‬هس‭...‬لا‭ ‬يا‭ ‬حمار‭! ‬باختصار،‭ ‬بات‭ ‬فن‭ ‬الكلام‭ ‬مهددا‭ ‬بالاندثار،‭ ‬ولن‭ ‬أنسى‭ ‬ما‭ ‬حييت‭ ‬دعوة‭ ‬للعشاء‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬صديق‭ ‬سعودي‭.. ‬كنا‭ ‬نحو‭ ‬عشرة‭ ‬اشخاص‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬اول‭ ‬مرة‭ ‬التقي‭ ‬فيها‭ ‬بمعظمهم‭.. ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬مباراة‭ ‬بين‭ ‬ناديي‭ ‬الهلال‭ ‬والنصر‭.. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬الاشخاص‭ ‬العشرة‭ ‬لم‭ ‬يكلف‭ ‬نحو‭ ‬خمسة‭ ‬حتى‭ ‬مجرد‭ ‬عناء‭ ‬إلقاء‭ ‬التحية‭ ‬علي‭.. ‬وكانت‭ ‬عيون‭ ‬الجميع‭ ‬مسمرة‭ ‬على‭ ‬الشاشة،‭ ‬وكان‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬يكلم‭ ‬نفسه‭: ‬وش‭ ‬هذا‭ ‬يا‭ ‬غبي‭... ‬فاول‭ ‬يا‭ ‬حكم‭ ‬يا‭ ‬حمار‭.. ‬لا‭ ‬تخلي‭ ‬الجناح‭ ‬الأيمن‭ ‬يسرح‭ ‬بكيفه‭... ‬ما‭ ‬نريد‭ ‬اقل‭ ‬من‭ ‬3‭ ‬أهداف‭ ‬نظيفة‭!! ‬وانتهت‭ ‬المباراة‭ ‬ولا‭ ‬أذكر‭ ‬من‭ ‬نتيجتها‭ ‬سوى‭ ‬المعركة‭ ‬الكلامية‭ ‬التي‭ ‬دارت‭ ‬بين‭ ‬الحضور،‭ ‬وأبو‭ ‬الجعافر‭ ‬جالس‭ ‬مثل‭ ‬الطرطور،‭ ‬مجرد‭ ‬شاهد‭ ‬ما‭ ‬شافش‭ ‬حاجة‭.. ‬وحتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬جلسنا‭ ‬حول‭ ‬مائدة‭ ‬الطعام‭ ‬امسك‭ ‬أحدهم‭ ‬برأس‭ ‬خروف‭ ‬ليشرح‭ ‬كيف‭ ‬أضاع‭ ‬لاعب‭ ‬هدفا‭ ‬‮«‬مضمونا‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬يحس‭ ‬أحد‭ ‬بوجودي‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬استأذنت‭ ‬منصرفا‭ ‬فتعالى‭ ‬الصياح‭: ‬ما‭ ‬يصير‭ ‬يا‭ ‬أبو‭ ‬الجعافر‭.. ‬ما‭ ‬سولفنا‭ ‬وياك‭!!‬

ومع‭ ‬هذا‭ ‬فلا‭ ‬عتاب‭ ‬ولا‭ ‬ملامة،‭ ‬لأن‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬أسرتي‭ ‬ايضا‭ ‬صارت‭ ‬تلغرافية‭ ‬ومشفّرة‭. ‬هذا‭ ‬مشغول‭ ‬بالتلفزيون‭ ‬وتلك‭ ‬تتلاعب‭ ‬بأزرار‭ ‬الهاتف‭ ‬الجوال‭ ‬وكأنها‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الدكتور‭ ‬أيمن‭ ‬الظواهري‭ ‬الذين‭ ‬قال‭ ‬الامريكان‭ ‬ان‭ ‬من‭ ‬يدل‭ ‬عليه‭ ‬سيحصل‭ ‬على‭ ‬10‭ ‬ملايين‭ ‬دولار،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬صار‭ ‬فيه‭ ‬اصطياد‭ ‬ابناء‭ ‬آدم‭ ‬أكثر‭ ‬عائدا‭ ‬ماديا‭ ‬من‭ ‬صيد‭ ‬الفيلة‭ ‬والنمور‭! (‬اغتيل‭ ‬الظواهري‭ ‬في‭ ‬أغسطس‭ ‬2022‭)‬،‭ ‬وهناك‭ ‬الانترنت‭ ‬الذي‭ ‬حل‭ ‬محلي‭ ‬في‭ ‬البيت‭!! ‬ففيما‭ ‬مضى‭ ‬كنت‭ ‬المستشار‭ ‬الاكاديمي‭ ‬والسياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والصحي‭ ‬لعيالي،‭ ‬أما‭ ‬اليوم‭ ‬فقد‭ ‬اكتشفوا‭ ‬ضحالة‭ ‬معلوماتي‭ ‬مقارنة‭ ‬بغوغل‭ ‬وويكيبيديا‭ ‬ومكتبات‭ ‬أمازون‭.. ‬وياما‭ ‬جاهدت‭ ‬كي‭ ‬اغرس‭ ‬في‭ ‬عيالي‭ ‬حب‭ ‬القراءة‭ ‬وشجعتهم‭ ‬على‭ ‬ارتياد‭ ‬المكتبات،‭ ‬وساعدتهم‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬الكتب‭ ‬والمجلات،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬فعل‭ ‬ماض‭ ‬ناقص،‭ ‬وكلما‭ ‬عاتبتهم‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬القراءة‭ ‬قالوا‭: ‬ما‭ ‬عندنا‭ ‬وقت‭!! ‬والساعات‭ ‬التي‭ ‬تقضونها‭ ‬امام‭ ‬التلفزيون‭ ‬والانترنت‭ ‬‮«‬وقت‮»‬‭ ‬أم‭ ‬‮«‬مساحة»؟‭ ‬تقترح‭ ‬عليهم‭ ‬تناول‭ ‬وجبة‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬موعدها‭ ‬فيقول‭ ‬لك‭ ‬احدهم‭ ‬انه‭ ‬لن‭ ‬يأكل‭ ‬حتى‭ ‬يفرغ‭ ‬من‭ ‬مشاهدة‭ ‬برنامج‭ ‬تلفزيوني‭ ‬معين،‭ ‬ويقول‭ ‬الآخر‭: ‬معي‭ ‬طارق‭ ‬على‭ ‬الخط‭ ‬في‭ ‬المسنجر‭.. ‬اعطوني‭ ‬سندويتش‭! ‬وإذا‭ ‬زجرت‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬لأنه‭ ‬فعل‭ ‬أو‭ ‬لم‭ ‬يفعل‭ ‬شيئا‭ ‬هددك‭ ‬بنشر‭ ‬‮«‬ملفاتك‮»‬‭ ‬في‭ ‬ويكيليكس‭.‬

والجوال‭ ‬اصلا‭ ‬هاتف‭ ‬ووظيفته‭ ‬هي‭ ‬ان‭ ‬يكون‭ ‬اداة‭ ‬تهاتف‭ ‬او‭ ‬مهاتفة‭ ‬اي‭ ‬كلام،‭ ‬ولكنه‭ ‬صار‭ ‬اداة‭ ‬لقتل‭ ‬الكلام‭.. ‬زوجتك‭ ‬ليس‭ ‬لديها‭ ‬الوقت‭ ‬لإلقاء‭ ‬التحية‭ ‬عليك‭ ‬ثم‭ ‬طلب‭ ‬ما‭ ‬تريد،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإنها‭ ‬ترسل‭ ‬اليك‭ ‬رسالة‭ ‬قصيرة‭: ‬احضر‭ ‬معك‭ ‬ألفي‭ ‬ريال‭.. ‬وبطيخا‭!! ‬وحتى‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬كنا‭ ‬نقتل‭ ‬الوقت‭ ‬خلال‭ ‬ساعات‭ ‬العمل‭ ‬بزيارة‭ ‬بعضنا‭ ‬بعضا‭ ‬لممارسة‭ ‬الحش‭ ‬والنميمة‭ ‬في‭ ‬المدير‭ ‬ورئيس‭ ‬القسم،‭ ‬ولكننا‭ ‬صرنا‭ ‬نمارس‭ ‬تلك‭ ‬الأشياء‭ ‬عبر‭ ‬واتساب،‭ ‬وصرنا‭ (‬نحن‭ ‬كبار‭ ‬السن‭) ‬نقتل‭ ‬الوقت‭ ‬بلعب‭ ‬الورق‭ ‬وخاصة‭ ‬السوليتير‭ ‬على‭ ‬الكمبيوتر‭! ‬وفي‭ ‬بريطانيا‭ ‬اصدرت‭ ‬مؤسسة‭ ‬تسمى‭ ‬‮«‬آي‭ ‬كان‮»‬‭ ‬وتعني‭ ‬‮«‬أستطيع‮»‬‭ ‬دراسة‭ ‬تفيد‭ ‬بأن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الصغار‭ ‬بات‭ ‬عاجزا‭ ‬عن‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬النفس،‭ ‬لأن‭ ‬الكبار‭ ‬من‭ ‬حولهم‭ ‬ساهون‭ ‬ولاهون،‭ ‬ولا‭ ‬يبادلونهم‭ ‬الحديث،‭ ‬بل‭ ‬يشجعونهم‭ ‬على‭ ‬العبث‭ ‬بالأجهزة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬التي‭ ‬حلت‭ ‬محل‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والأقارب‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا