زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
في مدح وذم التكنولوجيا
كان جيلي محظوظا، لأنه عاش لحظات انبهار كثيرة ومتوالية، فقد شهدنا عصر الراديو ثم التلفزيون ثم التلفون الأرضي ثم الموبايل ومعه الإنترنت وغوغل وواتساب والإيميل (لعل كثيرين لا يعرفون تطبيق مِيت meet الذي تقدمه غوغل، ويوفر مكالمات صوت وفيديو عالية الجودة، و..... ببلاش). ومع هذا، وربما بسبب هذا، أتمنى أحيانا لو ان التقدم التكنولوجي الذي أدى ويؤدي طوفانا من المخترعات يتوقف بعض الوقت، فالمخترعات الحديثة تجردنا شيئا فشيئا من الكثير من الممارسات والقيم، بل تسلب من البشر «الطابع الإنساني»،.. خذ مثلا ما فعله بنا التلفزيون والانترنت والهاتف الجوال. تجلس عائلة بأكملها امام شاشات التلفزيون نحو ساعتين مثلا ويكون كل الكلام المتبادل بينهما تلغرافات من نوع: بعدين.. هس...لا يا حمار! باختصار، بات فن الكلام مهددا بالاندثار، ولن أنسى ما حييت دعوة للعشاء في بيت صديق سعودي.. كنا نحو عشرة اشخاص وكانت تلك اول مرة التقي فيها بمعظمهم.. وكانت هناك مباراة بين ناديي الهلال والنصر.. ومن بين الاشخاص العشرة لم يكلف نحو خمسة حتى مجرد عناء إلقاء التحية علي.. وكانت عيون الجميع مسمرة على الشاشة، وكان كل واحد منهم يكلم نفسه: وش هذا يا غبي... فاول يا حكم يا حمار.. لا تخلي الجناح الأيمن يسرح بكيفه... ما نريد اقل من 3 أهداف نظيفة!! وانتهت المباراة ولا أذكر من نتيجتها سوى المعركة الكلامية التي دارت بين الحضور، وأبو الجعافر جالس مثل الطرطور، مجرد شاهد ما شافش حاجة.. وحتى بعد أن جلسنا حول مائدة الطعام امسك أحدهم برأس خروف ليشرح كيف أضاع لاعب هدفا «مضمونا»، ولم يحس أحد بوجودي إلا بعد ان استأذنت منصرفا فتعالى الصياح: ما يصير يا أبو الجعافر.. ما سولفنا وياك!!
ومع هذا فلا عتاب ولا ملامة، لأن العلاقات بين أفراد أسرتي ايضا صارت تلغرافية ومشفّرة. هذا مشغول بالتلفزيون وتلك تتلاعب بأزرار الهاتف الجوال وكأنها تبحث عن الدكتور أيمن الظواهري الذين قال الامريكان ان من يدل عليه سيحصل على 10 ملايين دولار، في زمن صار فيه اصطياد ابناء آدم أكثر عائدا ماديا من صيد الفيلة والنمور! (اغتيل الظواهري في أغسطس 2022)، وهناك الانترنت الذي حل محلي في البيت!! ففيما مضى كنت المستشار الاكاديمي والسياسي والاجتماعي والصحي لعيالي، أما اليوم فقد اكتشفوا ضحالة معلوماتي مقارنة بغوغل وويكيبيديا ومكتبات أمازون.. وياما جاهدت كي اغرس في عيالي حب القراءة وشجعتهم على ارتياد المكتبات، وساعدتهم في اختيار الكتب والمجلات، ولكن كل ذلك فعل ماض ناقص، وكلما عاتبتهم على عدم القراءة قالوا: ما عندنا وقت!! والساعات التي تقضونها امام التلفزيون والانترنت «وقت» أم «مساحة»؟ تقترح عليهم تناول وجبة ما في موعدها فيقول لك احدهم انه لن يأكل حتى يفرغ من مشاهدة برنامج تلفزيوني معين، ويقول الآخر: معي طارق على الخط في المسنجر.. اعطوني سندويتش! وإذا زجرت الواحد منهم لأنه فعل أو لم يفعل شيئا هددك بنشر «ملفاتك» في ويكيليكس.
والجوال اصلا هاتف ووظيفته هي ان يكون اداة تهاتف او مهاتفة اي كلام، ولكنه صار اداة لقتل الكلام.. زوجتك ليس لديها الوقت لإلقاء التحية عليك ثم طلب ما تريد، ومن ثم فإنها ترسل اليك رسالة قصيرة: احضر معك ألفي ريال.. وبطيخا!! وحتى قبل سنوات كنا نقتل الوقت خلال ساعات العمل بزيارة بعضنا بعضا لممارسة الحش والنميمة في المدير ورئيس القسم، ولكننا صرنا نمارس تلك الأشياء عبر واتساب، وصرنا (نحن كبار السن) نقتل الوقت بلعب الورق وخاصة السوليتير على الكمبيوتر! وفي بريطانيا اصدرت مؤسسة تسمى «آي كان» وتعني «أستطيع» دراسة تفيد بأن الكثير من الصغار بات عاجزا عن التعبير عن النفس، لأن الكبار من حولهم ساهون ولاهون، ولا يبادلونهم الحديث، بل يشجعونهم على العبث بالأجهزة الإلكترونية التي حلت محل الأصدقاء والأقارب.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك