العدد : ١٧٣١١ - الجمعة ١٥ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣١١ - الجمعة ١٥ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ صفر ١٤٤٧هـ

مقالات

التقدير- وقود الإنجاز وترسيخ الهوية الوطنية

بقلم: عبير محمد دهام

الثلاثاء ١٢ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬بعض‭ ‬البيئات‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬القيادة‭ ‬من‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬إنجازات‭ ‬الآخرين‭ ‬وكأنها‭ ‬‮«‬هواء‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يذكرها‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬منسوبة‭ ‬إليه‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬أشخاص‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬رضاه‭. ‬الجهد‭ ‬الصادق‭ ‬عنده‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬الشكر،‭ ‬وكأن‭ ‬التفاني‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬جريمة‭ ‬تعاقب‭ ‬بالتهميش‭ ‬أو‭ ‬الإقصاء‭. ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬القادة‭ ‬يظن‭ ‬أن‭ ‬غياب‭ ‬التقدير‭ ‬لن‭ ‬يترك‭ ‬أثراً،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬أسرع‭ ‬طريق‭ ‬لإطفاء‭ ‬الروح‭ ‬وإخماد‭ ‬شعلة‭ ‬أي‭ ‬فريق‭ ‬وتحويل‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬بارد‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬الحماس‭. ‬فالفريق‭ ‬الذي‭ ‬يحظى‭ ‬باعتراف‭ ‬حقيقي‭ ‬بجهوده‭ ‬يواصل‭ ‬العطاء‭ ‬والابتكار،‭ ‬أما‭ ‬حين‭ ‬يغيب‭ ‬التقدير‭ ‬يبدأ‭ ‬الحماس‭ ‬بالتآكل‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الكفاءات‭ ‬عالية‭.‬

التقدير‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مؤسسة‭ ‬عنصر‭ ‬أساسي‭ ‬للإنتاجية‭ ‬والانتماء،‭ ‬وهو‭ ‬المحرك‭ ‬الخفي‭ ‬لاستدامة‭ ‬الأداء‭.. ‬حين‭ ‬يشعر‭ ‬الأفراد‭ ‬بقيمة‭ ‬ما‭ ‬يقدمونه‭ ‬يقل‭ ‬تفكيرهم‭ ‬في‭ ‬ترك‭ ‬العمل،‭ ‬ويزداد‭ ‬التزامهم‭ ‬وابتكارهم‭. ‬حتى‭ ‬أبسط‭ ‬التفاصيل‭ ‬مثل‭ ‬أسلوب‭ ‬التخاطب‭ ‬اليومي‭ ‬لها‭ ‬أثر‭ ‬بالغ‭.. ‬فالكلمات‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬احتراماً‭ ‬وتشجيعاً‭ ‬تصنع‭ ‬بيئة‭ ‬إيجابية،‭ ‬بينما‭ ‬التعليقات‭ ‬الحادة‭ ‬أو‭ ‬المزاح‭ ‬الجارح‭ ‬تضعف‭ ‬الروح‭ ‬المعنوية‭ ‬وتؤثر‭ ‬على‭ ‬الولاء‭.‬

ولا‭ ‬يقف‭ ‬أثر‭ ‬التقدير‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬الأداء‭ ‬الفردي،‭ ‬بل‭ ‬يمتد‭ ‬ليعزز‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭.. ‬من‭ ‬يحظى‭ ‬باعتراف‭ ‬صادق‭ ‬بجهده‭ ‬يشعر‭ ‬أنه‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬قصة‭ ‬الوطن‭ ‬ويحمل‭ ‬اسمه‭ ‬بإنجازاته‭ ‬أينما‭ ‬ذهب،‭ ‬وحين‭ ‬تكون‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬داعمة‭ ‬لهذه‭ ‬القيمة‭ ‬فإنها‭ ‬تزرع‭ ‬الولاء‭ ‬في‭ ‬القلوب‭ ‬وتبني‭ ‬صورة‭ ‬وطنية‭ ‬متماسكة‭.. ‬حيث‭ ‬العطاء‭ ‬والانتماء‭ ‬يتبادلان‭ ‬الأثر‭.‬

خير‭ ‬مثال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬مملكة‭ ‬البحرين‭ ‬خلال‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا،‭ ‬حين‭ ‬أطلق‭ ‬سيدي‭ ‬سمو‭ ‬ولي‭ ‬العهد‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬الوزراء‭ ‬حفظه‭ ‬الله‭ ‬ورعاه‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬فريق‭ ‬البحرين‮»‬‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الأزمة‭ ‬من‭ ‬الأطباء‭ ‬والممرضين‭ ‬إلى‭ ‬رجال‭ ‬الأمن‭ ‬والمتطوعين،‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬جامعة‭ ‬بأن‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬منهم‭ ‬شريك‭ ‬في‭ ‬مهمة‭ ‬وطنية‭ ‬كبرى‭. ‬كلمات‭ ‬الشكر‭ ‬التي‭ ‬وجهتها‭ ‬القيادة‭ ‬آنذاك‭ ‬كانت‭ ‬رسائل‭ ‬صادقة‭ ‬غرست‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬اعتزازاً‭ ‬عميقاً‭ ‬بالهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬وشعوراً‭ ‬بأن‭ ‬الوطن‭ ‬بأسره‭ ‬يقف‭ ‬ممتناً‭ ‬لجهود‭ ‬أبنائه‭. ‬وبعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬التسمية‭ ‬مازال‭ ‬‮«‬فريق‭ ‬البحرين‮»‬‭ ‬حاضراً‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬الناس‭ ‬رمزاً‭ ‬للتلاحم‭ ‬الوطني‭ ‬ووسام‭ ‬تقدير‭ ‬لكل‭ ‬مخلص،‭ ‬ودليلاً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الكلمة‭ ‬الصادقة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬وتلهم‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬السنوات‭.‬

حتى‭ ‬التوجيه‭ ‬والنقد‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يصدر‭ ‬من‭ ‬قائد‭ ‬يؤمن‭ ‬بفريقه‭ ‬ويحسن‭ ‬الظن‭ ‬بهم‭ ‬ويمنحهم‭ ‬حقهم‭ ‬من‭ ‬التقدير‭ ‬فإنه‭ ‬يفقد‭ ‬نصف‭ ‬أثره‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يصل‭. ‬فالكلمة‭ ‬لا‭ ‬تُقاس‭ ‬بحروفها‭ ‬وإنما‭ ‬بروح‭ ‬من‭ ‬ينطقها‭.. ‬من‭ ‬يكسو‭ ‬ملاحظاته‭ ‬بثوب‭ ‬الاحترام‭ ‬ويغلف‭ ‬توجيهاته‭ ‬باعتراف‭ ‬صادق‭ ‬بجهود‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بتصحيح‭ ‬المسار‭ ‬بل‭ ‬يزيد‭ ‬العزيمة‭ ‬ويرفع‭ ‬سقف‭ ‬الولاء‭ ‬ويحوّل‭ ‬النقد‭ ‬إلى‭ ‬دافع‭ ‬للإنجاز‭.‬

نعم‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬يزهو‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬أبهى‭ ‬صوره‭ ‬مع‭ ‬قيادتنا‭ ‬الرشيدة،‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬التقدير‭ ‬نهجا‭ ‬يترجم‭ ‬في‭ ‬كلمات‭ ‬صادقة‭ ‬ومواقف‭ ‬أصيلة‭ ‬تلامس‭ ‬القلوب‭ ‬وتزرع‭ ‬الفخر‭ ‬في‭ ‬النفوس‭. ‬وحين‭ ‬تصل‭ ‬هذه‭ ‬الرسائل‭ ‬الدافئة‭ ‬إلى‭ ‬أبناء‭ ‬الوطن‭ ‬أو‭ ‬تُروى‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬شاهدها‭ ‬يشعرون‭ ‬أنهم‭ ‬جزء‭ ‬حي‭ ‬من‭ ‬اللحظة،‭ ‬شركاء‭ ‬في‭ ‬الإنجاز‭ ‬ومحل‭ ‬ثقة‭ ‬واعتزاز‭. ‬فهي‭ ‬كلمات‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬بالثناء،‭ ‬وإنما‭ ‬تمنح‭ ‬شعوراً‭ ‬عميقاً‭ ‬بالانتماء‭ ‬وتدفع‭ ‬صاحبها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يفخر‭ ‬بروايتها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬موقف،‭ ‬ويستحضرها‭ ‬كلما‭ ‬تحدّث‭ ‬عن‭ ‬قيم‭ ‬الوطن‭ ‬وقيادته‭.‬

إنهم‭ ‬قيادتنا‭ ‬يا‭ ‬سادة‭ ‬ويا‭ ‬مسؤولون،‭ ‬قامات‭ ‬في‭ ‬التقدير‭ ‬ونماذج‭ ‬مضيئة‭ ‬في‭ ‬احترام‭ ‬الإنسان‭ ‬وإحسان‭ ‬الظن‭ ‬بقدراته‭ ‬وترسيخ‭ ‬ثقافة‭ ‬العطاء‭ ‬والثقة‭. ‬وكما‭ ‬يُعرف‭ ‬البيت‭ ‬من‭ ‬أهله‭ ‬تُعرف‭ ‬المؤسسة‭ ‬من‭ ‬قائدها،‭ ‬فبالتقدير‭ ‬تبنى‭ ‬جسور‭ ‬الولاء‭ ‬وبالثقة‭ ‬تشيد‭ ‬حصون‭ ‬الإنجاز‭. ‬وأقول‭ ‬لبعض‭ ‬‮«‬المسؤولين‮»‬‭: ‬القيادة‭ ‬الحقيقية‭ ‬لا‭ ‬تخشى‭ ‬مراجعة‭ ‬ذاتها،‭ ‬فالمراجعة‭ ‬ليست‭ ‬ضعفا‭ ‬ولا‭ ‬تقصيرا،‭ ‬بل‭ ‬علامة‭ ‬وعي‭ ‬ونضج‭. ‬والوقت‭ ‬دائماً‭ ‬مناسب‭ ‬لإعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬الأسلوب‭ ‬وفتح‭ ‬آفاق‭ ‬جديدة‭ ‬للعلاقة‭ ‬مع‭ ‬الفرق،‭ ‬وأنصح‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬التقدير‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬DNA‭ ‬إداراتكم؛‭ ‬فالمؤسسة‭ ‬التي‭ ‬يقودها‭ ‬قائد‭ ‬يملك‭ ‬شجاعة‭ ‬المراجعة‭ ‬هي‭ ‬مؤسسة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬استعادة‭ ‬الحماس‭ ‬وبناء‭ ‬الثقة‭ ‬وصناعة‭ ‬إنجازات‭ ‬تليق‭ ‬باسم‭ ‬الوطن‭.‬

ورسالة‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يعمل‭: ‬قد‭ ‬تأتي‭ ‬أيام‭ ‬لا‭ ‬تسمع‭ ‬فيها‭ ‬كلمة‭ ‬شكر‭ ‬ولا‭ ‬ترى‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬يقدر‭ ‬حجم‭ ‬جهدك،‭ ‬لكن‭ ‬قيمة‭ ‬ما‭ ‬تقدمه‭ ‬لا‭ ‬تقاس‭ ‬بعدد‭ ‬كلمات‭ ‬الثناء‭ ‬وإنما‭ ‬بما‭ ‬يتركه‭ ‬عملك‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬حقيقي‭. ‬أنتم‭ ‬أصحاب‭ ‬رسالة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تكونوا‭ ‬أصحاب‭ ‬وظيفة،‭ ‬وعطاؤكم‭ ‬انعكاس‭ ‬لالتزامكم‭ ‬واحترافيتكم‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الظروف‭. ‬لا‭ ‬تجعلوا‭ ‬غياب‭ ‬التقدير‭ ‬سبباً‭ ‬للتوقف‭ ‬أو‭ ‬الانسحاب،‭ ‬بل‭ ‬اجعلوه‭ ‬دافعاً‭ ‬لإثبات‭ ‬قدرتكم‭ ‬على‭ ‬الإنجاز‭ ‬بثبات‭ ‬وقوة‭. ‬فدوركم‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬وبناء‭ ‬الوطن‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬تقدير‭ ‬مسؤول‭ ‬أو‭ ‬مدير،‭ ‬وإنما‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬إيمانكم‭ ‬العميق‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬تقدمونه‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬مسيرة‭ ‬وطنية‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬منصب‭ ‬أو‭ ‬موقع‭. ‬حافظوا‭ ‬على‭ ‬روحكم‭ ‬المهنية‭ ‬وحيدوا‭ ‬مشاعركم‭ ‬عند‭ ‬السعي‭ ‬نحو‭ ‬الهدف،‭ ‬فالتميز‭ ‬لا‭ ‬ينتظر‭ ‬الإذن‭ ‬ليظهر‭.. ‬والنجاح‭ ‬الحقيقي‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬قيمكم‭ ‬وأداؤكم‭ ‬ثابتين‭ ‬حتى‭ ‬حين‭ ‬يغيب‭ ‬التصفيق‭.‬

 

مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا