في بعض البيئات يجلس على كرسي القيادة من يتعامل مع إنجازات الآخرين وكأنها «هواء» لا يذكرها إلا إذا كانت منسوبة إليه أو إلى أشخاص في دائرة رضاه. الجهد الصادق عنده لا يستحق الشكر، وكأن التفاني في العمل جريمة تعاقب بالتهميش أو الإقصاء. هذا النمط من القادة يظن أن غياب التقدير لن يترك أثراً، لكنه في الحقيقة أسرع طريق لإطفاء الروح وإخماد شعلة أي فريق وتحويل بيئة العمل إلى مكان بارد يخلو من الحماس. فالفريق الذي يحظى باعتراف حقيقي بجهوده يواصل العطاء والابتكار، أما حين يغيب التقدير يبدأ الحماس بالتآكل مهما كانت الكفاءات عالية.
التقدير في أي مؤسسة عنصر أساسي للإنتاجية والانتماء، وهو المحرك الخفي لاستدامة الأداء.. حين يشعر الأفراد بقيمة ما يقدمونه يقل تفكيرهم في ترك العمل، ويزداد التزامهم وابتكارهم. حتى أبسط التفاصيل مثل أسلوب التخاطب اليومي لها أثر بالغ.. فالكلمات التي تحمل احتراماً وتشجيعاً تصنع بيئة إيجابية، بينما التعليقات الحادة أو المزاح الجارح تضعف الروح المعنوية وتؤثر على الولاء.
ولا يقف أثر التقدير عند حدود الأداء الفردي، بل يمتد ليعزز الهوية الوطنية.. من يحظى باعتراف صادق بجهده يشعر أنه جزء من قصة الوطن ويحمل اسمه بإنجازاته أينما ذهب، وحين تكون بيئة العمل داعمة لهذه القيمة فإنها تزرع الولاء في القلوب وتبني صورة وطنية متماسكة.. حيث العطاء والانتماء يتبادلان الأثر.
خير مثال على ذلك ما قامت به مملكة البحرين خلال جائحة كورونا، حين أطلق سيدي سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه الله ورعاه اسم «فريق البحرين» على كل من أسهم في مواجهة الأزمة من الأطباء والممرضين إلى رجال الأمن والمتطوعين، في رسالة جامعة بأن كل فرد منهم شريك في مهمة وطنية كبرى. كلمات الشكر التي وجهتها القيادة آنذاك كانت رسائل صادقة غرست في النفوس اعتزازاً عميقاً بالهوية الوطنية وشعوراً بأن الوطن بأسره يقف ممتناً لجهود أبنائه. وبعد أكثر من أربع سنوات على تلك التسمية مازال «فريق البحرين» حاضراً في وجدان الناس رمزاً للتلاحم الوطني ووسام تقدير لكل مخلص، ودليلاً على أن الكلمة الصادقة قادرة على أن تعيش وتلهم على مدى السنوات.
حتى التوجيه والنقد إذا لم يصدر من قائد يؤمن بفريقه ويحسن الظن بهم ويمنحهم حقهم من التقدير فإنه يفقد نصف أثره قبل أن يصل. فالكلمة لا تُقاس بحروفها وإنما بروح من ينطقها.. من يكسو ملاحظاته بثوب الاحترام ويغلف توجيهاته باعتراف صادق بجهود من حوله لا يكتفي بتصحيح المسار بل يزيد العزيمة ويرفع سقف الولاء ويحوّل النقد إلى دافع للإنجاز.
نعم في البحرين يزهو هذا المعنى في أبهى صوره مع قيادتنا الرشيدة، التي جعلت من التقدير نهجا يترجم في كلمات صادقة ومواقف أصيلة تلامس القلوب وتزرع الفخر في النفوس. وحين تصل هذه الرسائل الدافئة إلى أبناء الوطن أو تُروى لهم من شاهدها يشعرون أنهم جزء حي من اللحظة، شركاء في الإنجاز ومحل ثقة واعتزاز. فهي كلمات لا تكتفي بالثناء، وإنما تمنح شعوراً عميقاً بالانتماء وتدفع صاحبها إلى أن يفخر بروايتها في كل موقف، ويستحضرها كلما تحدّث عن قيم الوطن وقيادته.
إنهم قيادتنا يا سادة ويا مسؤولون، قامات في التقدير ونماذج مضيئة في احترام الإنسان وإحسان الظن بقدراته وترسيخ ثقافة العطاء والثقة. وكما يُعرف البيت من أهله تُعرف المؤسسة من قائدها، فبالتقدير تبنى جسور الولاء وبالثقة تشيد حصون الإنجاز. وأقول لبعض «المسؤولين»: القيادة الحقيقية لا تخشى مراجعة ذاتها، فالمراجعة ليست ضعفا ولا تقصيرا، بل علامة وعي ونضج. والوقت دائماً مناسب لإعادة النظر في الأسلوب وفتح آفاق جديدة للعلاقة مع الفرق، وأنصح بأن يكون التقدير جزءاً من DNA إداراتكم؛ فالمؤسسة التي يقودها قائد يملك شجاعة المراجعة هي مؤسسة قادرة على استعادة الحماس وبناء الثقة وصناعة إنجازات تليق باسم الوطن.
ورسالة لكل من يعمل: قد تأتي أيام لا تسمع فيها كلمة شكر ولا ترى فيها من يقدر حجم جهدك، لكن قيمة ما تقدمه لا تقاس بعدد كلمات الثناء وإنما بما يتركه عملك من أثر حقيقي. أنتم أصحاب رسالة قبل أن تكونوا أصحاب وظيفة، وعطاؤكم انعكاس لالتزامكم واحترافيتكم مهما كانت الظروف. لا تجعلوا غياب التقدير سبباً للتوقف أو الانسحاب، بل اجعلوه دافعاً لإثبات قدرتكم على الإنجاز بثبات وقوة. فدوركم في ترسيخ الهوية الوطنية وبناء الوطن لا يقف على تقدير مسؤول أو مدير، وإنما ينبع من إيمانكم العميق بأن ما تقدمونه جزء من مسيرة وطنية أكبر من أي منصب أو موقع. حافظوا على روحكم المهنية وحيدوا مشاعركم عند السعي نحو الهدف، فالتميز لا ينتظر الإذن ليظهر.. والنجاح الحقيقي أن تبقى قيمكم وأداؤكم ثابتين حتى حين يغيب التصفيق.
مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك