في الثاني من أغسطس 2025م، حلّت الذكرى الخامسة والثلاثون للغزو العراقي لدولة الكويت سنة 1990م. ربما تكون تفاصيل ذلك الغزو معروفة للكثيرين، كما وردت في العديد من الكتب والمؤلفات العلمية العربية والغربية، إلا أن الجوانب الاستراتيجية لتلك الحرب تحتاج إلى المزيد من إلقاء الضوء عليها. فبعيداً عن الخوض في أسباب ذلك الغزو، لا شك أن تتابع أزمات الأمن الإقليمي لها تأثير مباشر على أمن الخليج العربي، فقبيل الغزو، خرج العراق من الحرب العراقية-الإيرانية التي استمرت زهاء ثماني سنوات، وانتهت «بلا منتصر ولا مهزوم»، بما يعني أنه كانت لديه قوة قدّرتها بعض المصادر بما بين 57-60 فرقة عسكرية، كما بلغ عدد الجنود فيها أكثر من مليون جندي، و6200 دبابة، و550 طائرة مقاتلة، و60 قطعة بحرية.
ولا شك أن انفجار القوة يعني أنها في سبيلها للتمدد ومن ثم كان الغزو، بالإضافة إلى عنصر المفاجأة، حيث كانت الأجواء الدبلوماسية قبيل الغزو تؤكد، وبما لا يدع مجالاً لأدنى شك، أن الأزمة في سبيلها نحو الحل، إلا أن الغزو مثل مفاجأة للكثيرين، ولم تكن هناك توقعات بوقوعه، وكانت له دلالتان؛ الأولى: أنه جاء على عكس قناعة دول الخليج العربي بأن تهديدات أمن الخليج العربي من خارج المنطقة وليس ضمن إطار الأمن الإقليمي؛ والثانية: حاجة دول الخليج العربي إلى بديل أمني ذاتي. صحيحٌ أن قوات درع الجزيرة، التي تأسست في عام 1982م، تمثل ذلك البديل، لكن الغزو أوضح ضرورة تطوير تلك القوات، وهو ما حدث خلال العقود الماضية.
في تلك الأزمة، التي انعقد فيها مجلس الأمن الدولي بشكل مستمر على مدى ستة أشهر، أصدر خلالها إثني عشر قراراً، جميعها بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يجيز العمل العسكري لوضع القرارات الأممية موضع التطبيق. ولعلّ الأمر المهم الذي يجب التأكيد عليه في سياق تلك الأزمة - والتي عاصرها كاتب هذه السطور وهو طالبٌ في السنة الثانية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة - هو حرص دول الخليج العربي والدول العربية بكل السبل على تسوية تلك الأزمة من خلال الإطار العربي، ضمن جامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية. كانت هناك اجتماعات ومبادرات استهدفت جميعها إنهاء الاحتلال وانسحاب القوات العراقية، لكن تلك الجهود قوبلت برفضٍ عراقي، ومن ثم صدر القرار رقم 660 الذي طالب العراق بالانسحاب من الكويت من دون قيد أو شرط. بعد انتهاء المهلة الممنوحة للعراق، أعلنت الولايات المتحدة قيادة تحالفٍ دولي مكوّن من 34 دولة، عرف بـ«قوات التحالف الدولي لتحرير دولة الكويت»، وقد استمرت العمليات العسكرية 43 يوماً، وتعد المواجهة الأكبر آنذاك منذ الحرب العالمية الثانية. وفي 27 فبراير 1991م، أعلن الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الأب تحرير دولة الكويت بعد 100 ساعة من الحرب البرية.
لا شك أن للأزمة العديد من الدروس المستفادة، من بينها أهمية العمل الخليجي الموحد على الصُّعُد السياسية والعسكرية إبّان الأزمات عموماً؛ بمعنى آخر كيفية إدارة دول الخليج العربي للأزمات الأمنية، وهو موضوع لم يتم تناوله في الكثير من المؤلفات، فقد لعبت الدبلوماسية الخليجية الجماعية دوراً مهماً في حشد المواقف الإقليمية والدولية لإدانة الغزو ومطالبة العراق بالانسحاب من دولة الكويت وإعادة كافة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الثاني من أغسطس 1990م، وهو الأمر الذي أسفر عن استصدار قرارات مجلس الأمن المشار إليها، بالإضافة إلى قرارات جامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية.
لم يكن العمل الدبلوماسي بالأمر اليسير بالنسبة لدول الخليج العربي، بالنظر إلى تباين المواقف داخل أروقة المنظمات الإقليمية والدولية، فقد انقسمت دول العالم ما بين تيارين؛ الأول: يدين الغزو بشكلٍ صريح، والثاني: ضم مواقف ضبابية تأرجحت ما بين هذا الطرف وذاك، وهي أزمة تجلّت فيها سمات الأزمات الثلاثة المعروفة؛ وهي: موقف مفاجئ يحتاج إلى قرارات حاسمة في وقت محدود للغاية في ظل نقص المعلومات أو تضاربها. الجدير بالذكر أنه تم تكليف لجنة من وزراء خارجية دول مجلس التعاون للقيام بجولات جماعية في الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وبعض الدول العربية والدول الأخرى ذات التأثير في العالم، من أجل الحفاظ على وحدة الموقف الدولي تجاه تلك الأزمة.
على المستوى العسكري، وعلى الرغم من محدودية أعداد قوات درع الجزيرة، فقد لعبت دوراً بالغ الأهمية من خلال استراتيجية تضمنت ثلاثة أهداف؛ أولها: العمل على تنفيذ أقصى تأخير وتعطيل وإرباك لتقدم القوات العراقية تجاه أراضي المملكة العربية السعودية؛ وثانيها: إلحاق أكبر قدر من الخسائر في القوات العراقية المهاجمة؛ وثالثها: العمل على التحسين المستمر للقدرات الدفاعية لدول مجلس التعاون بالتعاون مع القوات العربية، الأمر الذي كان من شأنه عرقلة العمليات الهجومية للقوات العراقية، بالإضافة إلى الدور المحوري لقوات درع الجزيرة من خلال التعاون مع قوى التحالف ضد قوات العراق العسكرية خلال عملية تحرير دولة الكويت.
وفي تقديري أن تلك الأزمة فيها دروس استراتيجية لدول الخليج العربي؛ أولها: إمكانية تطبيق نظام دفاعٍ خليجيٍّ مشترك، حيث كان التعاون بين القوات الجوية الخليجية مؤشراً مهماً على ذلك التعاون العسكري الخليجي؛ وثانيها: مفهوم التماسك الأمني الخليجي، وهو ما بدا ضد الهجمات الصاروخية العراقية ما بين سنتي 1990 و1991م، وكان ذلك تطبيقاً عملياً لما تضمنه ميثاق مجلس التعاون، وكذلك اتفاقية الدفاع المشترك لمجلس التعاون الموقعة لاحقاً في عام 2000م، وخاصةً في المادتين الثانية والثالثة اللتين تضمنتا أن أي اعتداء على دولة خليجية يعد اعتداءً على دول المجلس ككل، بما يتطلبه ذلك من اتخاذ إجراءات لرد ذلك الاعتداء؛ وثالثها: تضمنت تلك الحرب كيفية انتهاج الدول لخياراتٍ أمنية متعددة في آنٍ واحد، وهي تفعيل الأمن الذاتي والشراكات الإقليمية والدولية، وكان لكل مستوى من الخيارات الثلاثة أهميته ولو بنسبٍ متفاوتة.
منطقة الخليج العربي، التي تضم دولاً تجمعها سماتٌ مشتركة على المستويات السياسية والاقتصادية، والاجتماعية والتاريخية والثقافية، تقع ضمن محيطٍ إقليمي مضطرب، سعت بعض أطرافه إلى تغيير توازن القوى الإقليمي، الأمر الذي حدا بدول الخليج العربي لمواجهة تلك المخاطر والتعامل معها من خلال منظومة مجلس التعاون، ومن بينها أزمة غزو وتحرير دولة الكويت، التي كانت لها انعكاساتٌ مهمة، سواءً على أمن الخليج العربي أو الأمن الإقليمي الأوسع، مما يجعل ذكراها مناسبةً مهمة لاستخلاص الدروس والخبرات التاريخية حول كيفية نجاح دول الخليج العربي في إدارة الأزمات الأمنية، وهو موضوعٌ يتعيّن أن يشغل دائرة الاهتمام بشكلٍ دائم.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية في مركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك