بدأ العلماء اليوم سباقاً ماراثونياً جديداً لا يعرف أحد إلى أين ينتهي، ومتى سينتهي، فهو سباق لا حدود زمني ولا مكاني له، ويغطي الكرة الأرضية برمتها، ومجال هذا السباق البحثي الطويل هو التعرف عن كثب على الجوانب الصحية المتعلقة بالمخلفات البلاستيكية، أو الجسيمات البلاستيكية الدقيقة والصغيرة الحجم التي بعضها لا يرى بالعين المجردة، ولكنها تسبح وتمرح في جميع مكونات بيئتنا الحية وغير الحية وفي كل شبرٍ من أعضاء وخلايا أجسامنا.
فبعد أن انتهى العلماء قبيل سنوات من السباق الأول الذي استغرق قرابة 50 عاماً، شرعوا في هذا السباق الحديث الثاني المعقد، وكثير التحديات والغموض. فأما السباق القديم الأول الذي بدأ في الستينيات من القرن المنصرم كان مجاله المخلفات البلاستيكية الكبيرة الحجم التي يرميها الإنسان ويتخلص منها في البر والبحر، أو في سلات وحاويات المخلفات والقمامة المنزلية، أو مع مياه المجاري. وهذا النوع من المخلفات لا يمكن أن يختفي عندما يدخل في عناصر بيئتنا، من هواءٍ، وماءٍ، وتربة، فهي تكشف عن نفسها بوضوح وتبدو جلية مشهودة أمام أعين الناس. فهذه المخلفات، المتمثلة في الأكياس البلاستيكية نراها تطير في الهواء الجوي حرة طليقة، وبعضها نجدها معلقة في أغصان الأشجار، وكأنها قناديل تزين بها الأشجار، كما نرى البعض الآخر في الشوارع وفي الطرقات، كما نراها في البيئات الصحراوية والبحرية، فتسبب تلوثاً وتشوهاً جمالياً لهذه البيئات الفطرية الطبيعية الجميلة، وتعكر صفاء ونقاوة منظرها.
وهذا النوع من المخلفات كوَّن ظاهرة بحرية فريدة من نوعها، وغريبة جداً لم يشهدها الإنسان من قبل، وهي تجمعها وتراكمها بأحجام ضخمة جداً في بعض المناطق البحرية، وبخاصة في المحيط الهادئ، حيث تشكلت مقبرة جماعية واسعة جداً، وتحتوي على الملايين من كل ما يمكن أن يخطر ببالك أو لا يخطر ببالك من أنواع المخلفات البلاستيكية الكبيرة والصغيرة الحجم. واليوم أصبحت هذه المقبرة دائمة، تدور فيها المخلفات إلى الأبد بفعل التيارات والموجات البحرية في دائرة مغلقة لا تخرج منها، وكأنها دخلت سجناً عظيماً لا تستطيع الهروب منه. وهذه المساحة العظيمة التي تَجَمَّعَ فيها المخلفات في المحيط الهادئ أُطلقُ عليها «المدفن البحري»، ويُطلق عليها العلماء عادةً ببقعة القمامة العظيمة (Great Pacific Garbage Patch)، حتى أن مساحته الآن وصلت إلى قرابة 700 ألف كيلومتر مربع وبعمق قرابة عشرة أمتار تحت سطح المحيط، أي أكبر من مساحة البحرين بنحو 970 مرة، ويحمل في بطنه أكثر من خمسة ملايين طنٍ من كل أنواع المخلفات الطافية فوق سطح البحر، أو في عمود الماء، ومعظمها مخلفات بلاستيكية. كما أن هذا المدفن البحري الكبير تم اكتشاف ما يقارب له في المساحة والحجم في المحيط الأطلسي بين برمودا وجزر أزورس البرتغالية بحسب نتائج الدراسة المنشورة في 8 مايو 2012 في مجلة بريطانية هي «رسائل علم الأحياء».
ومع الأيام اكتشف العلماء أن هذه المخلفات بمختلف أنواعها وأشكالها وأحجامها قد تدخل في أجسام الكائنات الفطرية مباشرة في البحر، والبر، حيث تعتبرها هذه الأحياء مواد غذائية، فتلتقمها وتبتلعها وتسبب لها مشكلات صحية حادة، مثل انسداد الجهاز الهضمي الذي يؤدي إلى نفوقها. كما كشفت الدراسة عن حقيقة جديدة حول سلوك هذه المخلفات، حيث أفادت بأن المخلفات البلاستيكية الكبيرة والصغيرة الحجم تعمل كالإسفنج على امتصاص المواد الكيميائية السامة التي تُصرف في البيئة البحرية، وخاصة المركبات العضوية الثابتة والمستقرة، فتتراكم هذه السموم مع الزمن في هذه المخلفات ويزيد تركيزها، وعندما تتغذى عليها الأسماك، ثم الإنسان، تَكُون قد وصلت إلى تركيزٍ عالٍ قد يهدد صحة وسلامة الكائنات البحرية والإنسان على حدٍ سواء. وفي الوقت نفسه تعمل هذه المخلفات كمستعمرات تنمو وتتكاثر عليها الكائنات الحية المجرية من فيروسات، وبكتيريا، وغيرهما، وتنتقل من موقع إلى آخر مع الوقت.
وأثناء السباق الماراثوني الأول اكتشف العلماء ظاهرة وحقيقة أخرى جديدة متعلقة بمصير هذه المخلفات البلاستيكية الكبيرة وكيفية تصرفها عندما تدخل في مكونات البيئة، والتحولات التي تطرأ عليها مع الزمن. فقد تبين للعلماء أن هذه المخلفات البلاستيكية الكبيرة الحجم لا تبقى على حالها من حيث الحجم، وإنما وبفعل الظروف المناخية من ضوء، وحرارة، ورياح وتيارات وأمواج بحرية، وكائنات دقيقة، تبدأ في التفتت، والتكسر، والتحول إلى أجزاء أصغر فأصغر حتى تبلغ حجم الجسيمات غير المرئية كالمساحيق، حيث نُشر أول بحث يصف هذه الحالة والظاهرة في عام 2004، وتم اكتشاف جسيمات دقيقة قطرها 20 ميكرومتراً في الكائنات البحرية العالقة في عمود الماء، وأُطلقَ عليها بالجسيمات «الميكروبلاستيكية». وهذا البحث مهَّد الطريق أمام العلماء، وفتح لهم باباً واسعاً لا يمكن غلقه، وهو باب وجود الجسيمات الميكروبلاستيكية في مكونات البيئة الحية وغير الحية، علاوة على أعضاء وخلايا جسم الإنسان. فمع البحث الميداني وازدياد أعداد الأبحاث تم وضع تعريف للجسيمات الميكروبلاستيكية (جزء من المليون)، وهي أن يكون قطرها يساوي أو أقل من 5 مليمترات، أو أصغر من حجم شعر الإنسان، إضافة إلى النانوبلاستيك، أو جزء من البليون. كما أنه تم تحديد مصادر هذه الجسيمات المتناهية في الصغر، فمنها مصادر أولية كالميكروبيدز (microbeads) التي تُضاف إلى منتجات الزينة والتبرج ومعجون الأسنان والدهان وغيرها. كما أن هناك المصادر الثانوية مثل انبعاث الجسيمات البلاستيكية من إطارات السيارات أثناء احتكاكها بالشارع، والعبوات البلاستيكية، والملابس أو الألياف الميكروبلاستيكية التي تتسرب من الأقمشة أثناء الغسيل، ومنها أيضاً ما ينتج عن تكسير وتفتت المخلفات البلاستيكية الكبيرة في مكونات البيئة بالعمليات الحيوية، والكيميائية، والطبيعية كأشعة الشمس، والضوء، والتيارات والموجات البحرية. كذلك فإن الإنسان يتعرض لكل هذه المصادر من الملوثات الميكروبلاستيكية إما مباشرة عن طريق الهواء بالتنفس، أو الامتصاص الجلدي، أو عن طرق غير مباشرة من خلال أكل وشرب مواد غذائية تحتوي عليها.
واليوم ونحن في نهاية السباق الماراثوني الأول نؤكد حقيقة علمية يُجمع عليها العلماء، وهي أن هذه المخلفات الميكروبلاستيكية المجهرية موجودة في كل شبرٍ من بيئتنا، مهما كانت صغيرة أو نائية وبعيدة، فقد تم اكتشافها في تربة المدن الحضرية والزراعية، وفي الهواء الجوي، وفي مياه الشرب، وفي أعالي الجبال الشاهقة، وفي أعماق المحيطات السحيقة الباردة والمظلمة على بعد 10 كيلومترات تحت سطح البحر، وفي ثلوج ومياه القطبين الشمالي والجنوبي، إضافة إلى الحياة الفطرية النباتية والحيوانية. وعلاوة على ذلك، وما يدق ناقوس الخطر هو اكتشاف هذه المخلفات الميكروبلاستيكية في أعضاء جسم الإنسان، فهي موجودة في اللعاب، والرئة، والكبد، والكلية، وأنسجة القلب، وفي الحيوانات المنوية، وفي الخصية، وفي المشيمة، أي أنها تخطت وكسرت الحاجز الفاصل بين الدم والخلايا، فانتقلت مباشرة إلى خلايا الإنسان، وبدأت تتراكم فيها ويرتفع تركيزها مع الزمن.
فهذا الاكتشاف الأخير بدأ الآن سباقاً ماراثونياً جديداً ثانياً يُشارك فيه عشرات الآلاف من العلماء والأطباء حول العالم، ويهدف إلى الوصول إلى نهاية خط السباق بالإجابة عن السؤالين التالين: ما هي التأثيرات على الصحة العامة من وجود المخلفات الميكروبلاستيكية في أعضاء وخلايا جسم الإنسان؟ وما هي الأمراض التي ستسببها مع الزمن؟
فنحن الآن نقف أمام تحدٍ جديد، ولغز محير ومعقد سيحاول العلماء فك رموزه، واكتشاف أسراره، فوجود كل هذه المخلفات الميكروبلاستيكية والنانوبلاستيكية في بيئتنا كلها، وفي أعضاء الكائنات الفطرية الحية، وفي الإنسان، لا بد وأن يكون له تداعيات صحية خطيرة، ويسبب أمراضاً مزمنة للإنسان، وسنعرف الإجابة في نهاية السباق الشاق والطويل، فمتى ستكون النهاية؟
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك