يمكن للسلام أن يتحقق ويزدهر – من الناحية النظرية – عندما يقوم على العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين الأفراد والجماعات والدول، وفق قوانين وتشريعات وأحكام وضوابط ثابتة، لا تنصف ظالما ولا تجامل قويا ولا تقدم استثناءات تستفيد منها فئات دون أخرى، كما أن جوهر السلام كامن في المصداقية بين الحاكم والمحكوم، القوي والضعيف، الأغلبية أو الأقلية، الرأسمالية أو الاشتراكية، جوهر السلام ألا يُرهَن للمصالح وحجم القوة العسكرية والاقتصادية والانحيازات العمياء وازدواجية المعايير.
أما إذا انتقلنا من النظرية إلى التطبيق، فالتناقض بينهما شاسع وحاد، لدرجة تدفع للتساؤل: هل هناك سلام قائم على العدل فعلا في أي بقعة من بقاع الأرض؟ وهل تتساوى المجتمعات فيما لها من حقوق وما عليها من واجبات؟
وإلى أي مدى تحرص الأنظمة الرأسمالية – بقيادة الولايات المتحدة – على إيجاد توازن بين المصالح الاقتصادية للدول النامية ودعم ديمقراطيتها في مواجهة الديكتاتورية التي تحميها وتتحكم فيها؟ وكيف تؤثر سلطة رأس المال على اتخاذ القرارات – بكافة مستوياتها – بالنسبة إلى الدول المتقدمة؟
أسئلة كثيرة تفرض نفسها، ويمكن الإجابة عنها انطلاقا من حقيقة ثابتة غير قابلة للمجادلة والتشكيك، هي أن الرأسمالية دون ضوابط استبداد قاتل للأمل وتعزيز لسلطة المال على حساب سلطة الضمير وتغليب أنانية الذات بتوفير الضمانات الضرورية التي تحمي صاحب العمل حتى لو كانت متناقضة مع حقوق العمالة والعمال واستنزاف الثروات وفرض التبعية السياسية على الأضعف.
تتجلى الرأسمالية الأمريكية في نظام اقتصادي ظاهره الازدهار، وفي باطنه استبداد ناعم وخطر على السلام الحقيقي، فهي منذ نشأتها قدمت نفسها بصورة نموذجية كمدافعة عن الحرية الفردية وحقوق الإنسان والمحرك الأمثل لخطوات الإصلاح والتطوير والتنمية، لكنها – وبمرور الوقت – ما لبثت أن كشفت عن قبح وجهها وسوء نواياها بتحويلها لكل ما هو إنساني إلى سلع، وهو ما عبر عنه المفكر الأمريكي «كورنيل وست» عندما قال: (نحن نعيش في مجتمع رأسمالي مفترِس، كل شيء فيه معروض للبيع، حتى البشر أنفسهم).
هذا التوحش الرأسمالي لم يكن خللا مجردا في التطبيق، بل هو جزء من النظام ذاته، الذي يعتمد على المنافسة المطلقة، والفوز بالربح غير المحدود، مهما كان الثمن.
وكذلك ذهب الفيلسوف والمفكر «جون ديوي» إلى أن (الرأسمالية الأمريكية المستبدة تجعل من الإنتاج هدفا في ذاته، بينما ينبغي أن يكون الهدف هو بناء بشر أحرار ومتساوين، وأن نظرية تسرب الثروة من الأعلى هي أكذوبة، تقنع الجماهير بأن خير الأغنياء سيتدفق تلقائيا عليهم بينما الواقع أن الفجوة تتسع باستمرار).
إن احتكار الثروة يهدد جوهر الحرية، وينسف أسس الديمقراطية نتيجة تحالف المال مع السلطة، وقد اعتبر السناتور «بيرني ساندرز» – أبرز الوجوه التقدمية في السياسة الأمريكية المعاصرة – (إن الرأسمالية الأمريكية أسيرة للنخب الثرية غير المنشغلة أبدا بالأغلبية وما تعانيه من ديون وبطالة وحرمان).
وبما أن المال هو الذي يحكم ويتحكم في الناس، فإن السلام الذي تنشده الولايات المتحدة وتتغنى بالحاجة إليه ووجوب سيادته للعالم، ما هو إلا سلام كاذب، لأنه يخضع لرغبة الولايات المتحدة في الهيمنة على العالم وموارده ومقدراته ويجعل الهيمنة الاقتصادية متَرجَمة لسيطرة سياسية وعسكرية، والولايات المتحدة لا تتردد في فرض السلام على الشعوب، ولو بالحصار والعقوبات وربما التدخل العسكري، إذا ما اقتضت الضرورة ذلك.
إن سلام الحاجة استسلام مقيت للأقوى، والمضطر إلى القبول بالقهر سيتحين الفرصة التي يستثمرها في الانتقام ممن أهانه وأضر بمصالحه.
إن قناعة الولايات المتحدة بأهمية النظام الرأسمالي ووجوب تحكمه في سياساتها، سيغلق كافة نوافذ السلام، لأنه يُبقي الشعوب تحت ضغط دائم، وتبعية اقتصادية تحرمها من تحديد أهدافها وتقرير مصيرها.
{ كاتب وباحث أكاديمي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك