العدد : ١٧٣٠٣ - الخميس ٠٧ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٣ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٠٣ - الخميس ٠٧ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١٣ صفر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

الرأسمالية الأمريكية والسلام الكاذب

بقلم: د. طارق عباس {

الخميس ٠٧ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

يمكن‭ ‬للسلام‭ ‬أن‭ ‬يتحقق‭ ‬ويزدهر‭ ‬‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬النظرية‭ ‬‭ ‬عندما‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬العدل‭ ‬والمساواة‭ ‬وتكافؤ‭ ‬الفرص‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات‭ ‬والدول،‭ ‬وفق‭ ‬قوانين‭ ‬وتشريعات‭ ‬وأحكام‭ ‬وضوابط‭ ‬ثابتة،‭ ‬لا‭ ‬تنصف‭ ‬ظالما‭ ‬ولا‭ ‬تجامل‭ ‬قويا‭ ‬ولا‭ ‬تقدم‭ ‬استثناءات‭ ‬تستفيد‭ ‬منها‭ ‬فئات‭ ‬دون‭ ‬أخرى،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬جوهر‭ ‬السلام‭ ‬كامن‭ ‬في‭ ‬المصداقية‭ ‬بين‭ ‬الحاكم‭ ‬والمحكوم،‭ ‬القوي‭ ‬والضعيف،‭ ‬الأغلبية‭ ‬أو‭ ‬الأقلية،‭ ‬الرأسمالية‭ ‬أو‭ ‬الاشتراكية،‭ ‬جوهر‭ ‬السلام‭ ‬ألا‭ ‬يُرهَن‭ ‬للمصالح‭ ‬وحجم‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والانحيازات‭ ‬العمياء‭ ‬وازدواجية‭ ‬المعايير‭.‬

أما‭ ‬إذا‭ ‬انتقلنا‭ ‬من‭ ‬النظرية‭ ‬إلى‭ ‬التطبيق،‭ ‬فالتناقض‭ ‬بينهما‭ ‬شاسع‭ ‬وحاد،‭ ‬لدرجة‭ ‬تدفع‭ ‬للتساؤل‭: ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬سلام‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬العدل‭ ‬فعلا‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬بقعة‭ ‬من‭ ‬بقاع‭ ‬الأرض؟‭ ‬وهل‭ ‬تتساوى‭ ‬المجتمعات‭ ‬فيما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬حقوق‭ ‬وما‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬واجبات؟‭ ‬

وإلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬تحرص‭ ‬الأنظمة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬‭ ‬بقيادة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬‭ ‬على‭ ‬إيجاد‭ ‬توازن‭ ‬بين‭ ‬المصالح‭ ‬الاقتصادية‭ ‬للدول‭ ‬النامية‭ ‬ودعم‭ ‬ديمقراطيتها‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الديكتاتورية‭ ‬التي‭ ‬تحميها‭ ‬وتتحكم‭ ‬فيها؟‭ ‬وكيف‭ ‬تؤثر‭ ‬سلطة‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرارات‭ ‬‭ ‬بكافة‭ ‬مستوياتها‭ ‬‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة؟

أسئلة‭ ‬كثيرة‭ ‬تفرض‭ ‬نفسها،‭ ‬ويمكن‭ ‬الإجابة‭ ‬عنها‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬ثابتة‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للمجادلة‭ ‬والتشكيك،‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الرأسمالية‭ ‬دون‭ ‬ضوابط‭ ‬استبداد‭ ‬قاتل‭ ‬للأمل‭ ‬وتعزيز‭ ‬لسلطة‭ ‬المال‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬سلطة‭ ‬الضمير‭ ‬وتغليب‭ ‬أنانية‭ ‬الذات‭ ‬بتوفير‭ ‬الضمانات‭ ‬الضرورية‭ ‬التي‭ ‬تحمي‭ ‬صاحب‭ ‬العمل‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬متناقضة‭ ‬مع‭ ‬حقوق‭ ‬العمالة‭ ‬والعمال‭ ‬واستنزاف‭ ‬الثروات‭ ‬وفرض‭ ‬التبعية‭ ‬السياسية‭ ‬على‭ ‬الأضعف‭.‬

تتجلى‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬اقتصادي‭ ‬ظاهره‭ ‬الازدهار،‭ ‬وفي‭ ‬باطنه‭ ‬استبداد‭ ‬ناعم‭ ‬وخطر‭ ‬على‭ ‬السلام‭ ‬الحقيقي،‭ ‬فهي‭ ‬منذ‭ ‬نشأتها‭ ‬قدمت‭ ‬نفسها‭ ‬بصورة‭ ‬نموذجية‭ ‬كمدافعة‭ ‬عن‭ ‬الحرية‭ ‬الفردية‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والمحرك‭ ‬الأمثل‭ ‬لخطوات‭ ‬الإصلاح‭ ‬والتطوير‭ ‬والتنمية،‭ ‬لكنها‭ ‬‭ ‬وبمرور‭ ‬الوقت‭ ‬‭ ‬ما‭ ‬لبثت‭ ‬أن‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬قبح‭ ‬وجهها‭ ‬وسوء‭ ‬نواياها‭ ‬بتحويلها‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إنساني‭ ‬إلى‭ ‬سلع،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عبر‭ ‬عنه‭ ‬المفكر‭ ‬الأمريكي‭ ‬‮«‬كورنيل‭ ‬وست‮»‬‭ ‬عندما‭ ‬قال‭: (‬نحن‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬رأسمالي‭ ‬مفترِس،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬فيه‭ ‬معروض‭ ‬للبيع،‭ ‬حتى‭ ‬البشر‭ ‬أنفسهم‭).‬

هذا‭ ‬التوحش‭ ‬الرأسمالي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬خللا‭ ‬مجردا‭ ‬في‭ ‬التطبيق،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬ذاته،‭ ‬الذي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬المنافسة‭ ‬المطلقة،‭ ‬والفوز‭ ‬بالربح‭ ‬غير‭ ‬المحدود،‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬الثمن‭.‬

وكذلك‭ ‬ذهب‭ ‬الفيلسوف‭ ‬والمفكر‭ ‬‮«‬جون‭ ‬ديوي‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ (‬الرأسمالية‭ ‬الأمريكية‭ ‬المستبدة‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الإنتاج‭ ‬هدفا‭ ‬في‭ ‬ذاته،‭ ‬بينما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الهدف‭ ‬هو‭ ‬بناء‭ ‬بشر‭ ‬أحرار‭ ‬ومتساوين،‭ ‬وأن‭ ‬نظرية‭ ‬تسرب‭ ‬الثروة‭ ‬من‭ ‬الأعلى‭ ‬هي‭ ‬أكذوبة،‭ ‬تقنع‭ ‬الجماهير‭ ‬بأن‭ ‬خير‭ ‬الأغنياء‭ ‬سيتدفق‭ ‬تلقائيا‭ ‬عليهم‭ ‬بينما‭ ‬الواقع‭ ‬أن‭ ‬الفجوة‭ ‬تتسع‭ ‬باستمرار‭).‬

إن‭ ‬احتكار‭ ‬الثروة‭ ‬يهدد‭ ‬جوهر‭ ‬الحرية،‭ ‬وينسف‭ ‬أسس‭ ‬الديمقراطية‭ ‬نتيجة‭ ‬تحالف‭ ‬المال‭ ‬مع‭ ‬السلطة،‭ ‬وقد‭ ‬اعتبر‭ ‬السناتور‭ ‬‮«‬بيرني‭ ‬ساندرز‮»‬‭ ‬‭ ‬أبرز‭ ‬الوجوه‭ ‬التقدمية‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬الأمريكية‭ ‬المعاصرة‭ ‬‭ (‬إن‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الأمريكية‭ ‬أسيرة‭ ‬للنخب‭ ‬الثرية‭ ‬غير‭ ‬المنشغلة‭ ‬أبدا‭ ‬بالأغلبية‭ ‬وما‭ ‬تعانيه‭ ‬من‭ ‬ديون‭ ‬وبطالة‭ ‬وحرمان‭).‬

وبما‭ ‬أن‭ ‬المال‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يحكم‭ ‬ويتحكم‭ ‬في‭ ‬الناس،‭ ‬فإن‭ ‬السلام‭ ‬الذي‭ ‬تنشده‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وتتغنى‭ ‬بالحاجة‭ ‬إليه‭ ‬ووجوب‭ ‬سيادته‭ ‬للعالم،‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬سلام‭ ‬كاذب،‭ ‬لأنه‭ ‬يخضع‭ ‬لرغبة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬الهيمنة‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬وموارده‭ ‬ومقدراته‭ ‬ويجعل‭ ‬الهيمنة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬متَرجَمة‭ ‬لسيطرة‭ ‬سياسية‭ ‬وعسكرية،‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لا‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬فرض‭ ‬السلام‭ ‬على‭ ‬الشعوب،‭       ‬ولو‭ ‬بالحصار‭ ‬والعقوبات‭ ‬وربما‭ ‬التدخل‭ ‬العسكري،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬اقتضت‭ ‬الضرورة‭ ‬ذلك‭.‬

إن‭ ‬سلام‭ ‬الحاجة‭ ‬استسلام‭ ‬مقيت‭ ‬للأقوى،‭ ‬والمضطر‭ ‬إلى‭ ‬القبول‭ ‬بالقهر‭ ‬سيتحين‭ ‬الفرصة‭ ‬التي‭ ‬يستثمرها‭ ‬في‭ ‬الانتقام‭ ‬ممن‭ ‬أهانه‭ ‬وأضر‭ ‬بمصالحه‭.‬

إن‭ ‬قناعة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بأهمية‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬ووجوب‭ ‬تحكمه‭ ‬في‭ ‬سياساتها،‭ ‬سيغلق‭ ‬كافة‭ ‬نوافذ‭ ‬السلام،‭ ‬لأنه‭ ‬يُبقي‭ ‬الشعوب‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬دائم،‭ ‬وتبعية‭ ‬اقتصادية‭ ‬تحرمها‭ ‬من‭ ‬تحديد‭ ‬أهدافها‭ ‬وتقرير‭ ‬مصيرها‭.‬

 

{ كاتب‭ ‬وباحث‭ ‬أكاديمي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا