بعد أكثر من 22 شهرًا من جرائم الحرب المتواصلة التي ارتكبتها إسرائيل في غزة والضفة الغربية– بما في ذلك القصف العشوائي الذي خلف دمارًا هائلًا، والتهجير القسري لأكثر من مليوني شخص، ومنع دخول المساعدات الإنسانية، وهو ما وصفته صحيفة «واشنطن بوست»، بأنه تسبب في مجاعة جماعية– لا تزال الحكومات الغربية الكبرى ترفض اتخاذ أي خطوات جادة ضد ائتلاف بنيامين نتنياهو، اليميني المتطرف رغم أن هذه الممارسات ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، وفقًا لما أكده القانونيون حول العالم.
وفي الوقت الذي أشار فيه جيريمي بوين، من شبكة بي بي سي، إلى نفاد صبر، العواصم الأوروبية إزاء النهج التدميري الذي تتبعه إسرائيل في غزة، ورفضها المتكرر إدخال المساعدات الإنسانية، إلا أن البيان الأوروبي الأخير -رغم لهجته الشديدة- خلا من أي التزام فعلي باتخاذ خطوات حازمة تجاه حكومة اليمين المتطرف.
وفيما يتعلق بآلية اتخاذ هذه الدول إجراءات ذات نتائج ملموسة لإنهاء جرائم الحرب الإسرائيلية، فقد حث خبراء أمميون، في يونيو 2024، ومن بينهم فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأراضي الفلسطينية المحتلة، وسيسيليا بيليه، خبيرة مستقلة معنية بحقوق الإنسان، على الاعتراف بالدولة الفلسطينية لتحقيق وقف فوري لإطلاق النار في غزة، والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني ونضالاته ومعاناته من أجل الحرية والاستقلال. ويبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قد استجاب لهذه الدعوة، حيث كرر في أواخر يوليو 2025 نيته اعتراف بلاده بالدولة الفلسطينية، خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك في سبتمبر، لينضم إلى 140 دولة عضو سبق أن أبدوا استعدادهم، بما في ذلك دول أوروبية، مثل إسبانيا، والنرويج، وجمهورية أيرلندا.
ومع ذلك، تظل الشكوك قائمة بشأن الإرادة السياسية والأخلاقية لصناع القرار الفرنسيين في تنفيذ التزامهم المُعلن، لاسيّما في ضوء إعلان ماكرون، في أبريل الماضي، عزمه الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير.
وتتعمق الشكوك حول استعداد الدول الغربية الاعتراف بدولة فلسطينية كوسيلة لوقف حملة التدمير الإسرائيلية، في ضوء الضغوط التي تمارسها إدارة ترامب وحكومة نتنياهو وائتلافه المتشدد، إلى جانب تصريحاته التي وصف فيها خطوة باريس بأنها مكافأة للإرهاب، وهو ما ردده وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، في تأكيد واضح أن واشنطن وتل أبيب ستواصلان ممارسة الترهيب السياسي لمنع الدول الأخرى من تأييد هذا التوجه.
وبعيدًا عن هذه الديناميكية، أوضح مايكل ميلر، وفيكتوريا كرو، في صحيفة واشنطن بوست، كيف أن إعلان ماكرون، والتساؤل عما إذا كانت الدول الأخرى ستحذو حذو فرنسا، لا يحدثان في النهاية فارقًا كبيرًا من الناحية العملية، في وقف المعاناة المستمرة لملايين الفلسطينيين، في ضوء التحذير الأخير من وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، بأن واحدًا من كل خمسة أطفال في غزة يعانون من سوء التغذية، وكيف بات سكان أحياء كاملة بمثابة جُثث متحركة، ليؤكد فقط على ضرورة اتخاذ الدول الغربية إجراءات أبعد بكثير لكف إسرائيل عن ممارسة الإبادة الجماعية، ثم محاسبتها دوليًا على ما اقترفته من جرائم حرب بحق الفلسطينيين.
وتساءلت شهرام أكبر زاده، من مجلس الشرق الأوسط للشؤون العالمية، عما إذا كان إصرار قوة أوروبية مثل فرنسا على الاعتراف بالدولة الفلسطينية يُعد إشارة واضحة، إلى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل والمجتمع الدولي، بأن ما يحدث في غزة أمر غير مقبول. ورغم أن تعهد الرئيس الفرنسي الأولي قد خرج عن مساره –كما أوضح باتريك وينتور لكن ماكرون، شدد على تصميم فرنسا على المضي قدمًا في تنفيذ حل الدولتين.
وبالتالي، فإن تصريحه الثاني بأن فرنسا ستقدم إعلانًا رسميًا، بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية والذي قال عنه إنه التزام تاريخي بالعدالة بسلام دائم في الشرق الأوسط ليس مُفاجئًا. وفي هذه الحالة، قدّم الرئيس الفرنسي مزيدًا من التفاصيل حول شروط وتوقعات هذا الاعتراف، وتحديدًا كيفية ضمان استمراريته، من خلال القبول بنزع السلاح والاعتراف الكامل بإسرائيل، بما يُسهم في أمن الجميع بالشرق الأوسط، وهذا يشمل، كما يقول، ضمانًا لنزع سلاح حماس بالكامل، وهي جميعها شروط تتجاوز قدرة فرنسا (أو أي دولة أوروبية غربية أخرى) على الوفاء بها.
وإلى جانب إسرائيل التي تقودها حكومة متطرفة عازمة على تهجير سكان القطاع قسريًا، وضم جميع الأراضي؛ فإن الولايات المتحدة هي التي لديها القدرة على ضمان هذه الشروط لإقامة الدولة، وذلك على الرغم من رد فعل حكومتها على إعلان ماكرون، الذي يعوزه أي بادرة تفاؤل.
وأشار كل من مارك لينش، وشبلي تلحمي، في مجلة فورين أفيرز، إلى قلق الرئيس الأمريكي من رفض نتنياهو الموافقة على وقف إطلاق النار في غزة، ولفتا إلى أن الاستحواذ على زمام المبادرة العالمية للاعتراف بدولة فلسطين يُعد تحولًا دراميًا من النوع الذي لا يمكن أن يُقدم عليه سوى قائد غير مُقيد بالاعتبارات السياسية التقليدية، مثل ترامب. إلا أن أي تفاؤل بهذا الصدد يجب أن يُقاس بأفعال البيت الأبيض، وآخرها الانسحاب من مفاوضات الدوحة. ومع إعلان ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، أن الولايات المتحدة ستدرس خيارات بديلة بشأن التوصل إلى اتفاق دبلوماسي لإنهاء الحرب، تتضاءل فرص أي دور أمريكي فعّال في هذا الاتجاه.
لكن على الرغم من الضغوط السياسية التي تمارسها كل من الولايات المتحدة وإسرائيل على الدول الغربية، فإن هذه التحركات لم تفلح في التغلب على المد الشعبي الأوروبي المتزايد الداعم لفلسطين والمعارض للانتهاكات الإسرائيلية. وفقاً لأحدث استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة يوجوف، فقد تراجعت شعبية إسرائيل بشكل غير مسبوق في منتصف عام 2025، حيث وصلت نسبة التأييد لها إلى -48 في فرنسا، و-44 في ألمانيا، و-52 في إيطاليا، و-54 في الدنمارك.
وإدراكاً لهذا الغضب الشعبي، شدد جوزيب بوريل، وكاليبسو نيكولايديس، في مجلة فورين آفيرز، على ضرورة تحرك الدول الأوروبية للخروج من موقع التهميش في عملية السلام في الشرق الأوسط، من خلال إطلاق خطة أكثر حزماً لإنهاء الحرب في غزة، والمساهمة في تحقيق الاستقرار الإقليمي.
ونتيجة لذلك، ازداد الزخم الأوروبي نحو الاعتراف الجماعي بدولة فلسطينية بعد إعلان ماكرون، حيث شدد رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز –الذي يُعد من أكثر القادة الأوروبيين إدانة للجرائم الإسرائيلية في غزة– على أن علينا جميعا حماية ما يحاول نتنياهو تدميره.
أما في المملكة المتحدة، التي تتحمل مسؤولية تاريخية خاصة تجاه الشعب الفلسطيني، فقد طالب أعضاء لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم أواخر يوليو، بعد مراجعة بيانات مئات الخبراء القانونيين ومسؤولين حكوميين سابقين وخبراء حقوق الإنسان، بأن لا يُربط الاعتراف بالدولة الفلسطينية بشروط يفرضها السياسيون البريطانيون. وأكدت رئيسة اللجنة، إميلي ثورنبيري، في صحيفة الاندبندنت، أن تصرفات بريطانيا تجاه القضية الفلسطينية كانت دائماً قليلة جداً ومتأخرة جداً، وشددت على أنه ينبغي على لندن أن تحذو حذو باريس، طالما لا تزال هناك فلسطين يجب الاعتراف بها.
وعلى الرغم من أن ماكرون، يأمل في أن تلتحق دول أوروبية أخرى بمبادرته، ويعكس ذلك كون الشعب الفرنسي هو الأكثر تفاؤلاً في أوروبا بإمكانية حل القضية دبلوماسياً خلال العِقد المقبل (رغم أن النسبة لا تتجاوز 29%)، إلا أن جيمس لانديل، من شبكة بي بي سي، أشار إلى أن باريس تعتمد على لندن لتتبع خطاها، محذراً من أن عدم القيام بذلك قد يؤدي إلى انشقاقات تصويتية وتمردات في البرلمان، ضد حكومة ستارمر. ومع ذلك، فإن صناع القرار البريطانيين مازالوا يوازنون بين هذا الضغط الداخلي والضغوط الأمريكية المستمرة.
وفي المقابل، هناك دول أوروبية، مثل ألمانيا، تعارض الاعتراف بالدولة الفلسطينية حالياً بغض النظر عن التوجه الأوروبي العام أو الضغوط الأمريكية، حيث أكدت حكومتها أنها لا تخطط للاعتراف بفلسطين، معتبرة أن أمن إسرائيل، هو أولوية قصوى لها، حتى على حساب التزاماتها المعلنة بدعم القانون الدولي وحقوق الإنسان.
وفيما تستمر النقاشات بين صناع القرار الأوروبيين، حول إمكانية التوصل إلى موقف موحد بشأن الاعتراف بدولة فلسطين، أشار لينش، وتلحمي، إلى أن الواقع على الأرض في غزة يكشف عن حملة إسرائيلية ممنهجة من القصف العشوائي والاحتلال، تهدف إلى إعادة فرض السيطرة المباشرة، والتوسع الاستيطاني، والطرد للفلسطينيين، كما أن التهجير المنهجي للفلسطينيين من الضفة الغربية يمهد أيضاً لضم إسرائيلي شامل هناك.
ورغم أن ماكرون، تحدث عن الأولوية العاجلة لإنهاء الحرب في غزة وإنقاذ المدنيين، إلا أن الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية، لن يوقف وحده القتل والمعاناة التي يعاني منها ملايين المدنيين في القطاع اليوم. ومع إصدار 28 بلدا غربيا، بياناً مشتركاً، أدان المساعدات بالتنقيط، والقتل غير الإنساني للمدنيين، وأقر بوجود نظام إسرائيلي خطر يجرد سكان غزة من الكرامة الإنسانية، فإن هذه الدول لم تتخذ أي خطوات ملموسة لتلبية نداءات منظمات الإغاثة، بما في ذلك تحذيرات رئيس منظمة الصحة العالمية، تيدروس جيبريسوس، الذي وصف المجاعة الجماعية في غزة بأنها من صنع الإنسان بالكامل.
وتشير بيانات مؤسسة يوجوف إلى أن نحو 70% من الأوروبيين يحملون مواقف سلبية تجاه إسرائيل. ووفقًا للينش، وتلحمي، فإن حملة الاعتراف الدولي بدولة فلسطين لن تختفي. ويذهب بعض الأكاديميين إلى أن تحرك عدد كبير من الدول في وقت واحد للاعتراف بدولة فلسطين يشكّل رمزًا قويًا على تصاعد الإحباط الدولي، ويقدّم بديلاً ملموسًا لمسار الإبادة والضم الذي يبدو بلا نهاية.
وفي ضوء ذلك، ترى زاده، أن حجم الكارثة الإنسانية في غزة تجعل من الضروري أن تتجاوز القوى الأوروبية مواقف واشنطن وتل أبيب، وتتخذ خطوة الاعتراف بفلسطين. وفي هذا السياق، تبرز فرنسا باعتبارها أول من اتخذ زمام المبادرة، ولو أنها جاءت متأخرة 22 شهراً عن فرصة كان يمكن خلالها إنقاذ حياة الآلاف ومنع معاناة لا يمكن تصورها لملايين الفلسطينيين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك