تمثل فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في فلسطين المحتلة، شهادة حية في العالم على مفهوم الإصداع بالحقيقة للقوة الماسكة بدفة الأمور.
إن هذه «القوة» لا تتجسد فقط في إسرائيل أو حتى الولايات المتحدة الأمريكية، بل في المجتمع الدولي الذي فشلت قوته الجماعية بشكل مأساوي في وقف الإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة.
يُمثل التقرير الأخير الذي أعدته فرانشيسكا ألبانيزي بعنوان، «من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية»، الذي قُدِّم إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 3 يوليو 2025م، حدثا مزلزلاً يعري الحقائق. فهو يُسمّي ويُورّط بلا تردد شركاتٍ لم تسمح لإسرائيل بمواصلة حربها وإبادة الفلسطينيين فحسب، بل يواجه أيضاً أولئك الذين التزموا الصمت في وجه هذا الرعب المتواصل الذي يستهدف غزة.
إن تقرير فرانشيسكا ألبانيزي «اقتصاد الإبادة الجماعية» يتجاوز بكثير مجرد تمرين أكاديمي أو بيان أخلاقي في عالمٍ يخضع ضميره الجماعي إلى اختبار حقيقي في قطاع غزة. يكتسب التقرير أهميته لأسباب متعددة ومتشابكة.
والأهم من ذلك، أن هذا التقرير يوفر مسارات عملية للمساءلة تتجاوز مجرد الخطاب الدبلوماسي والقانوني، كما يقدم نهجًا جديدًا للقانون الدولي، لا بوصفه عملية موازنة سياسية دقيقة، بل أداة فعّالة لمواجهة التواطؤ في جرائم الحرب وكشف الإخفاقات الفادحة للآليات الدولية القائمة في غزة.
هناك سياقان حيويان مهمان لفهم أهمية هذا التقرير، الذي يعتبر بمثابة إدانة لاذعة للتورط المباشر للشركات، ليس فقط في الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة في غزة، بل في المشروع الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي بشكل عام.
أولا، في شهر فبراير 2020، وبعد سنوات من التأخير، أصدر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قاعدة بيانات تضم 112 شركة تعمل في أنشطة تجارية داخل المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في فلسطين المحتلة.
وتكشف قاعدة البيانات عن العديد من الشركات العملاقة - بما في ذلك Airbnb، وBooking.com، وMotorola Solutions، وJCB، وExpedia - لمساعدتها إسرائيل في الحفاظ على احتلالها العسكري ونظام الفصل العنصري.
وكان هذا الحدث مزلزلاً بشكل خاص، نظراً الى فشل منظمة الأمم المتحدة المستمر في كبح جماح إسرائيل، أو محاسبة أولئك الذين يدعمون جرائم الحرب التي ترتكبها في فلسطين على مرأى ومسمع من الجميع.
وكانت قاعدة البيانات خطوة مهمة سمحت للمجتمعات المدنية بالتعبئة حول مجموعة محددة من الأولويات الأساسية والجوهرية، وبالتالي الضغط على الشركات والحكومات الفردية لاتخاذ مواقف موجّهة أخلاقيا.
تجلّت فعالية هذه الاستراتيجية بوضوح من خلال ردود الفعل المبالغ فيها والغاضبة للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. فقد وصفت الولايات المتحدة الأمريكية ذلك بأنه يمثل محاولة من المجلس «المُشوّه» بهدف «تأجيج الانتقام الاقتصادي»، بينما وصفته إسرائيل بأنه «استسلام مُخزٍ» للضغوط.
ولكن الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، التي بدأت في السابع من شهر أكتوبر 2023م، كانت بمثابة تذكير صارخ بالفشل الذريع لجميع آليات الأمم المتحدة القائمة في تحقيق حتى أكثر التوقعات تواضعا لإطعام السكان الجائعين خلال زمن الإبادة الجماعية.
ومن المثير للدهشة أن هذا هو نفس الاستنتاج الذي توصل إليه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي صرح في شهر سبتمبر 2024م بأن العالم «فشل في مساعدة سكان غزة».
واستمر هذا الفشل عدة أشهر أخرى، وتجلى ذلك في عجز الأمم المتحدة عن إدارة توزيع المساعدات في القطاع، وإسناد المهمة إلى ما يسمى «مؤسسة غزة الإنسانية»، وهي جهاز عنيف يديره مرتزقة، حيث قتل وجرح الآلاف من الفلسطينيين.
وبطبيعة الحال، كانت فرانشيسكا ألبانيزي نفسها قد توصلت إلى استنتاج مماثل عندما واجهت المجتمع الدولي في شهر نوفمبر 2023م بسبب «فشله الذريع» في وقف الحرب وإنهاء «القتل العشوائي للمدنيين الأبرياء».
ويذهب تقرير فرانشيسكا ألبانيزي الجديد إلى خطوة أبعد من ذلك، إذ يناشد هذه المرة البشرية جمعاء اتخاذ موقف أخلاقي ومواجهة أولئك الذين جعلوا الإبادة الجماعية ممكنة وغضوا الطرف عنها.
ويؤكد التقرير أن «المساعي التجارية التي تمكن من محو حياة الأبرياء والاستفادة منها يجب أن تتوقف»، ويطالب التقرير بشكل واضح بأن «ترفض الشركات التواطؤ في انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم الدولية أو أن تُحاسب».
وبحسب التقرير، تنقسم فئات التواطؤ في الإبادة الجماعية إلى شركات تصنيع الأسلحة، وشركات التكنولوجيا، وشركات البناء والتشييد، والصناعات الاستخراجية والخدمية، والبنوك، وصناديق التقاعد، وشركات التأمين، والجامعات، والجمعيات الخيرية.
تشمل هذه الشركات لوكهيد مارتن، ومايكروسوفت، وأمازون، وبالانتير، وآي بي إم، وحتى عملاق الشحن الدنماركي ميرسك، من بين ما يقرب من ألف شركة أخرى. لقد مكّنت معرفتهم التكنولوجية وآلاتهم وتقنياتهم في جمع البيانات إسرائيل من قتل أكثر من 57 ألف شخص وإصابة أكثر من 134 ألفًا في غزة حتى الآن، ناهيك عن الحفاظ على نظام الفصل العنصري في الضفة الغربية.
إن ما يحاول تقرير فرانشيسكا ألبانيزي القيام به ليس مجرد تسمية شركاء إسرائيل في الإبادة الجماعية وفضحهم، بل إخبارنا، كمجتمع مدني، بأننا أصبح لدينا الآن إطار مرجعي شامل يسمح لنا باتخاذ قرارات مسؤولة، والضغط على هذه الشركات العملاقة ومحاسبتها.
كتبت فرانشيسكا ألبانيزي تقول مستدلة بالزيادة الهائلة في الإنفاق العسكري الإسرائيلي، والتي تقدر بنحو 65% من عام 2023 إلى عام 2024، ليصل إلى 46.5 مليار دولار، «إن الإبادة الجماعية المستمرة كانت مشروعاً مربحاً».
إن الميزانية العسكرية الإسرائيلية التي تبدو بلا حدود هي عبارة عن حلقة غريبة من المال، قدمتها في الأصل حكومة الولايات المتحدة، ثم أعيد تدويرها من خلال الشركات الأمريكية، وبالتالي توزيع الثروة بين الحكومات والسياسيين والشركات والعديد من المقاولين.
ومع ازدياد تضخم هذه الحسابات المصرفية، تتراكم المزيد من الجثث الفلسطينية في ثلاجات الموتى، والمقابر الجماعية، أو تنتشر في شوارع جباليا وخان يونس وغيرها من مناطق قطاع غزة.
يجب أن يتوقف هذا الجنون ويوضع حد لجرائم الإبادة الجماعية، وبما أن منظمة الأمم المتحدة غير قادرة على وقفه، فإن الحكومات الفردية ومنظمات المجتمع المدني والناس العاديين يجب أن يقوموا بهذه المهمة، لأن حياة الفلسطينيين يجب أن تكون ذات قيمة أكبر بكثير من أرباح الشركات وجشعها.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك