تتخبط الأحزاب السياسية التي تنشط في الولايات المتحدة الأمريكية في حالة من الفوضى. فبدلاً من أن تكون هي المحرك الرئيسي لسياسة البلاد، فقد حلّت محلها شخصيات مؤثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وجماعات سياسية غير ربحية، ولجان عمل سياسي كبيرة – إضافة إلى المليارديرات الذين يمولونها، والمجموعات الاستشارية التي توظفها هذه الأحزاب.
قبل بضعة أجيال، كانت الأحزاب السياسية هي التي تُنظّم الحياة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي العديد من المجتمعات، كانت هناك صلة عضوية بين الأحزاب السياسية وأعضائها، وقد وفرت الأحزاب هيكلًا تنظيميًا وأتاحت فرصًا للوصول إلى المناصب والمواقع، بالإضافة إلى توفير بعض المزايا لمن انضموا إليها وشاركوا في عملها.
لم يعد هذا هو الحال بالنسبة إلى معظم الأمريكيين. لقد أصبحت الأحزاب السياسية اليوم عبارة عن «علامات تجارية» يُطلب من الناخبين دعمها وتأييد برامجها. إن الأحزاب السياسية أدوات لجمع التبرعات لتمويل عملياتها وتمويل المجموعات الاستشارية التي تُقدم الآن «الخدمات» التي تشمل رسائل الناخبين، وملفات بياناتهم، والإعلانات، والاتصالات.
وبعبارة أخرى، فإن العلاقة بين معظم الناخبين والأحزاب السياسية تقتصر إلى حد كبير على هوية فضفاضة مع العلامة التجارية والتواجد في قوائم رسائل البريد الإلكتروني لجمع التبرعات، والرسائل النصية، والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي أو المكالمات الآلية التي تطلب المال أو الأصوات.
ورغم أن هذه الجهود تسهم في جمع بعض الأموال، فإن المبالغ تتضاءل مقارنة بمئات الملايين من الدولارات التي يسهم بها المانحون من المليارديرات الذين يملؤون خزائن الأحزاب وجماعات المصالح «غير التابعة» الليبرالية أو المحافظة المتنامية القوة ولجان العمل السياسي.
في الانتخابات الرئاسية التي جربت سنة 2024، جمعت إحدى هذه اللجان المستقلة الليبرالية وأنفقت مبالغ ضخمة تكاد تضاهي ما أنفقته حملة كامالا هاريس (حوالي مليار دولار) على رسائل كانت في بعض الأحيان متعارضة مع حملة مرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس التي من المفترض أنها تدعمها.
قامت جماعات الإنفاق المستقلة الجمهورية بالشيء نفسه تقريبًا، حيث أنفقت إحداها ربع مليار دولار على استهداف الناخبين العرب واليهود برسائل بريدية وإعلانات مضللة تهدف إلى قمع أصواتهم. وفي النهاية، أغرقت المليارات التي أنفقتها الحملات الانتخابية والجماعات المستقلة الناخبين برسائل ورسائل مضادة، مما تسبب في إرباكهم وعزلهم.
وحتى عندما قدمت الأحزاب التمويل للمستشارين لإجراء اتصالات شخصية مع الناخبين من خلال تعيين أشخاص يقومون بحملات انتخابية من باب إلى باب أو العمل على الحصول على قوائم الناخبين، فقد كانت الجهود سطحية وغير مقنعة لأن الأشخاص الذين يقومون بحملات انتخابية أو المتصلين لم تكن لديهم أي روابط عضوية مع الناخبين الذين كانوا يتعاملون معهم.
يتناقض هذا الأمر بشكل واضح مع الوضع الذي كان سائدا قبل عقود من الزمن عندما كان القائمون على الحملات الانتخابية والمتصلون بها هم قادة أحزاب منتخبون محلياً يتعاملون مع جيرانهم الذين تربطهم بهم علاقات شخصية.
إن هذا الافتقار إلى الاتصال العضوي مع الناخبين، وضعف البنية الأساسية للحزب، وطوفان التلفزيون ووسائل الإعلام الاجتماعية وغيرها من أشكال الرسائل الرقمية تمثل بعض الأسباب التي تجعل الهوية الحزبية في أدنى مستوياتها على الإطلاق، حيث يعتبر 43% من الأمريكيين الآن مستقلين، بينما يتعادل الجمهوريون والديمقراطيون بنسبة 27% لكل منهما.
فقدت الأحزاب السياسية أيضًا دورها في إدارة عملياتها الانتخابية لصالح المليارديرات وجماعات المصالح. يكفي أن ننظر إلى الدور الذي لعبه المليارديرات وجماعات المصالح في هزيمة أعضاء الكونغرس الديمقراطيين الحاليين في الانتخابات الأخيرة، أو كيف يتخطى المانحون المليارديرات إرادة الناخبين الديمقراطيين في سباق عمدة مدينة نيويورك المقبل.
خلال المنافسة الأولية، أنفقت جماعات ولوبيات المصالح ما لا يقل عن 30 مليون دولار على الإعلانات في محاولة لتشويه سمعة المرشح التقدمي، زهران ممداني، وإلحاق الهزيمة به.
والآن، وعلى الرغم من الفوز الحاسم الذي حققه ازهران ممداني كمرشح للحزب الديمقراطي، فقد حشد نفس المليارديرات ولوبيات المصالح أموالهم لدعم مرشح مستقل في الانتخابات التي ستجري في شهر نوفمبر والتي ستحسم اسم الفائز بمنصب عمدة مدينة نيويورك.
لعل ما يلاحظ أنه حتى الآن لم ينتقد المسؤولون الديمقراطيون هذه الخطوة، علما بأن قانون الحزب ينص على أن المستشارين الذين يعملون ضد المرشحين أو شاغلي المناصب الذين يدعمهم الناخبون الديمقراطيون لن يكونوا مؤهلين للحصول على عقود ممولة من الحزب.
ولم يتم تطبيق هذه العقوبة على تلك المجموعات التي قبلت عقوداً من أجل إلحاق الهزيمة بالديمقراطيين في الكونجرس من المؤيدين للفلسطينيين، وهو ما يشكل دليلاً واضحاً على ضعف الحزب «الرسمي» في مواجهة ما ينفقه المليارديرات ولوبيات المصالح من أموال طائلة.
وبعد خسارة 1200 مقعد في المجلس التشريعي الفيدرالي ومجالس الولايات خلال عهد باراك أوباما وتكبد المزيد من الانتكاسات والهزائم في اثنتين من الانتخابات الرئاسية الثلاث الأخيرة، كنت متفائلاً في البداية عندما رأيت عنوانين رئيسيين في صحيفة نيويورك تايمز في أحد أعدادها الصادر مؤخرا، وأحدهما يقول: الديمقراطيون يفكرون في تغيير مسار الحملة الانتخابية لعام 2026: نحن بحاجة إلى إعادة التفكير في الأمور.
يبدو أن عمليات «التشريح» تُجرى على قدم وساق لفهم سبب خسارة الديمقراطيين. لكن بعد قراءة المقال، اتضح أن بعض الجهات التي تقوم بعمليات المراجعة هذه هي جهات استشارية مستقلة للغاية، ممولة من أموال التبرعات، وتلك هي أصل المشكلة وسبب المعضلة.
يقترح هؤلاء المستشارين كحل للخروج من هذا الوضع العمل على تحسين الرسائل التي تستهدف الناخبين، وتطوير استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والرسائل الرقمية، إلخ. بمعنى آخر، ادفعوا لنا أكثر، وسنحفر جبًّا أكثر عمقا يغرقنا في مشاكل أكبر. إننا لم نتعلم أي دروس!
ما يجب أن يحدث ومازال غير مدرج على جدول الأعمال هو أن تقوم الأحزاب بإصلاح نفسها وإعادة الاتصال بالناخبين وكسب ثقتهم من خلال إعادة بناء البنية التحتية على مستوى الولاية والمستوى المحلي.
هناك دفعٌ في هذا الاتجاه يُبذل داخل الحزب الديمقراطي من قِبَل بعض قادته المنتخبين حديثًا. وبتشجيعٍ من مُصلحي الحزب، زادوا بشكلٍ كبيرٍ الأموال المُخصصة لأحزاب الولايات، مُقلِّلين بذلك المبالغ المُرسَلة إلى المُستشارين الخارجيين.
ولكن ما دامت المجموعات الممولة من المليارديرات هي اللاعب المهيمن في العملية السياسية، فسوف يستمر الإصلاحيون الديمقراطيون في مواجهة معركة شاقة لاستعادة السيطرة على الانتخابات وإدارة شؤون الحزب.
في هذه الأثناء، يبدو أن الجانب الجمهوري سيخسر بدوره الكثير. فقد تمكّن الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب وحركته «ماغا» من استغلال ضعف تنظيم حزبهم الجمهوري، وإجباره على الخضوع، وتحويله إلى شركة تابعة مملوكة بالكامل لترامب.
لقد تم التقليل من شأن الجمهوريين الذين عارضوا هيمنة دونالد ترامب وإسكاتهم أو ابتعدوا عن تشكيل لجان العمل السياسي التي ركزت مواردها على الحملات الإعلانية «المناهضة لترامب» والتي على الرغم من احتفال بعض الديمقراطيين بها، فإنها لم يكن لها أي تأثير على إعادة بناء الحزب الجمهوري.
خلاصة القول لم تعد السياسة الأمريكية صراعًا بين حزبين منظمين متنافسين، بل أصبحت منافسة بين كيانات ممولة من مليارديرات تشن حملات افتراضية تسعى لجذب الناخبين لتأييد «علاماتها التجارية».
وفي انتظار أن تُبذل جهود جادة وحقيقية ترمي إلى تنظيم وتأطير الدور المدمر الذي تلعبه الأموال الطائلة في الحياة السياسة الأمريكية، سيستمر هذا الوضع على حاله، وكذلك سيستمر استياء الناخبين ونفورهم من المشاركة في الحياة السياسية.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك