أبرزت حرب غزة التفوق الغربي العلمي التكنولوجي بوضوح تجلى في القدرات الصهيونية المدعومة بالغرب في الاعتداء على جبهات عدة واستباحة الأراضي اللبنانية والسورية والسيطرة على الفضاء الإيراني، هذا لم يمنع من تكبدها خسائر غير مسبوقة جراء الردود الإيرانية المؤثرة. كيف تنظر الأمة العربية إلى هذه الحرب؟ هل ستجعلها تعيد طرح السؤال لماذا هذا التخلف العلمي والتكنولوجي الذي أدى إلى اختلال موازين القوى في صالح الأعداء؟ وهل بدأ التخلف نتيجة العمل الإجرامي الذي تم التخطيط له منذ بداية القرن العشرين للسيطرة على الشرق الأوسط، أم أنه كان نتيجة طبيعية للتخلف. في الحالتين، فإن ذلك أدى إلى تبديد موارد الدول العربية في معالجة نتائج الدمار الناتج من أزمات متتالية تفتعلها القوى الصهيونية العالمية. كما أدى التخلف العلمي إلى تبديد الطاقة الفكرية والدبلوماسية للأمة العربية في قضايا أخرى.
دعنا نكون منصفين ونضع بعض اللوم على أنفسنا. كانت الأمة العربية الإسلامية في مقدمة الشعوب حتى نهاية الالفية الاولى. تدريجيا بدأ الغرب يتقدم اقتصاديا وتجاريا وماليا بفعل ابتكار مؤسسات وتنظيمات اقتصادية وتجارية ومالية، وتحولات فكرية وعلمية. هذه التحولات كانت نتيجة مباشرة لعصر النهضة الأوروبية في القرن الثاني عشر والثورة الدينية اللوثرية الإصلاحية في القرن الرابع عشر ومرحلة التنوير التي بدأت في القرن السابع عشر، تلتها الثورة العلمية. لم تتمكن الأمة من مجاراة هذه التحولات، ولا حتى الاقتباس منها بسبب جمود فكري وعوامل ثقافية ومفاهيم فقهية تناولها كُتاب ومفكرون في بداية القرن العشرين.
لذلك، ومنذ القرن السابع عشر أخذ الغرب يبتعد ويتقدم في المجالات الانتاجية والمالية والتنظيمية مدعوما بتقدم علمي وتكنولوجي مكنها من الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط لما لها من أهمية استراتيجية، فزرع فيها الكيان الصهيوني الاستيطاني لحماية هذه المصالح.
تم طرح سؤال التخلف من قبل كثير من الكتاب والمفكرين أمثال شكيب أرسلان ومالك بن نبي ومحمد عابد الجابري ورجال دين أمثال محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وغيرهم من مفكري النهضة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ وما زال السؤال نفسه يُطرح في الحوارات المسجلة، وتُقدَّم مقترحات للخروج من حالة التخلف. فمثلا، في مقابلة مع وزيرة التعليم المغربية (الدكتورة أمينة ماء العينين) أكدت فيها أهمية تطوير التعليم في الوطن العربي من خلال تعزيز المناهج وإدخال مادة الفلسفة في المراحل الأولى من التعليم لبناء الفرد والمجتمع الواعي الناقد القادر على طرح الأسئلة المهمة والتحليل العقلاني المنطقي. كذلك حذرت وزيرة الثقافة المغربية السابقة (الدكتورة مليكة بن دودة) من الاهتمام فقط بالعلوم التطبيقية، وأكدت هي الأخرى أهمية تدريس مادة الفلسفة لبناء العقلية العربية من جديد، والعلاقة بين السياسة والحرية في مفهومها الأوسع وهي توفر الحياة الكريمة كحق دستوري للتحرر من عبودية الحاجة. والدكتور جمال الشايع من السعودية الذي حرص على ضرورة بناء العقلية الناقدة المطالِبة بالأدلة والبراهين، ليس فقط في المراحل الدراسية، ولكن كذلك في الحياة العامة ورَبط بينها وبين الحرية والعدالة واعتبرهما من شروط المواطنة والمشاركة.
يتضح من الكتابات في الصحافة العربية أن غالبية كبيرة من المجتمع والمثقفين ترى أن مشكلة الأمة هي في وأد قدرتها النقدية والإبداعية على المستوى العملي والفكري منذ قرون؛ والآن بعد أن رأت الجماهير والمثقفون والسياسيون وأعلام الأمة وجماهيرها ما يحدث لها من خذلان واستهانة واستباحة لجميع قيمها وقيمتها، أصبح التشخيص يدل على أمر واحد، واحد فقط، وهو إطفاء قدرات العقل في وقت مبكر من تاريخ الأمة، وجعل العقل والتفكير رديفين للعصيان المدني، وانقلابا على الشريعة والشرعية؛ والنقد ذنب يستحق العقاب المادي والمعنوي في أضعف الحالات.
يطرح المجتمع ومثقفوه وكتابه وقياداته كيف يمكن أن تتخلص الأمة من كبوتها وتستعيد مهابتها وقدرتها على الفعل دفاعا عن حرمتها وحقها في الحياة الكريمة كباقي الأمم؟ السؤال ليس جديدا فقد طُرح بكثرة منذ القرن التاسع عشر، وطُرحت افكار عدة كتشخيص للمرض المزمن. ازدادت الكتابات والندوات وطرح الأسئلة منذ العدوان الصهيوني الأخير على غزة، وشن حرب إبادة جماعية على اطفالها ونسائها وشيوخها. تنوعت المقاربات بين ثقافية وفكرية ودينية وسياسية، وجميعها يدعو إلى التغيير وإلى تحرير العقل العربي من القيود المفروضة عليه إما بفعل التقاليد والعادات وإما بحجة مخالفة الدين أو بقرارات سياسية متوشحة بالأمن والاستقرار. والسؤال مازال يُطرح، لماذا هذا التخلف والعجز تجاه ما يقرره الغير ويرسمه العدو من استمرار في التحييد والتقسيم والتفتيت.
سؤال آخر بدأ يُطرح: عندما نتحدث عن الأمة هل نحن نتكلم عن الأمة الإسلامية أم العربية، وهل يمكن فصل إحداهما عن الأخرى؟ أم أن التسمية عمليا غير موجودة، وإنما هناك دول غير متجانسة كل منها قد تكون اللقمة السائغة المقبلة للصهيونية العالمية، مصداقا للمقولة المنسوبة إلى الإمام علي ابن أبي طالب -كرم الله وجهه- «أكلت يوم أُكل الثور الأبيض».
الخروج من هذا المأزق الحضاري مسؤولية الأنظمة والمجتمعات بمنظماتها وأحزابها. الوقت قد لا يتسع لزيادة التنظير والتحليل، فما كتب حتى الآن من تشخيص كاف لكي تبدأ الأمة بوضع المعالجات التي نوهت الكتابات عن تفاصيل كثيرة حولها، وقد يتفق الكثيرون بأن نقطة البداية هي إصلاح التعليم وبناء مجتمعات حيوية فاعلة، تعتمد على الإنسان الايجابي المشارك في الحياة العامة ضمن إطار ديمقراطي. إصلاح التعليم يبدأ بتحديد الصفات والقدرات الرئيسية التي تتطلبها المرحلة في الخريجين من مختلف المراحل. يجب أن يجيب الإصلاح على سؤالين: أي نوع من المجتمع نريد؟ وأي إنسان نحتاج إلى اجتياز المرحلة هذه؟ وأن توضع المواصفات للإجابة عن السؤالين.
نستخلص مما تقدم ان النهوض مرة أخرى يجب أن يكون من منطلق معرفي علمي، وهذا لا يكون الا بقيادة معرفية علمية تؤمن بأن الفلسفة تلعب دورًا أساسيًا في فهم وتعزيز قيم الحرية والتسامح والعدالة والتضامن الإنساني. وبها يمكن صقل العقلية العربية وجعلها فاعلة في بناء مجتمع حيوي ناقد ومتفاعل مع الأحداث قادر على طرح الأسئلة. وبها يتم إعداد مجتمع معرفي مبتكر وقيادات قادرة على تقبل النقد وتفهم دوافعه والاستفادة منه في تصويب السياسات والبرامج والمشاريع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
drmekuwaiti@gmail.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك