أحدثت إيران قلقا في المحيط الإقليمي منذ أن نجح الملالي وعلى رأسهم الخميني في إسقاط نظام الشاه محمد رضا بهلوي عن عرشه وإعلان قيام الجمهورية الإسلامية.
في زمن الشاه لم تكن العلاقات الإيرانية-العربية في أحسن أحوالها إلا في حالات قليلة. غير أنها لم تكن سيئة إلى الدرجة التي وصلت إليها في زمن الملالي.
كانت تلك العلاقات سيئة لأن إيران أرادت أن تكون شرطي الخليج بقيادة الشاه الذي لديه أطماعه المحدودة. غير أن ذلك الشرطي كان منضبطا وملتزما بالقوانين الدولية التي يحترمها.
أما حين قام نظام الجمهورية بقيادة الخميني فلم تعد تلك القوانين الدولية التي تنظم علاقات الجوار والمصالح المشتركة لتحظى بأي احترام في سياق نظرية الهيجان العقائدي.
لقد حل مبدأ تصدير الثورة محل مبادئ حسن الجوار وأعلن الخميني بنفسه أنه لا يملك أن يمنع جيشه أو حرسه الثوري من الوصول إلى كربلاء في العراق.
وإذا ما كانت إيران الخمينية قد أعلنت منذ البدء عداءها للولايات المتحدة من خلال ضربها للقواعد التي تنظم العلاقات الدبلوماسية حين سمحت باحتلال مبنى السفارة الأمريكية واختطاف موظفيها، فإن الحرب التي اشتبكت من خلالها مع العراق وأصرت على استمرارها ثماني سنوات حتى بعد الانسحاب العراقي من الأراضي التي تم التوغل فيها داخل إيران، كانت تلك الحرب بمثابة حاضنة لعنف غير مسبوق ستعيشه المنطقة في الأربعين سنة اللاحقة. ذلك العنف كان ضروريا لاستمرار الثورة من جهة كونه الغطاء الذي استعملته إيران لتنفيذ مشروعها التوسعي في المنطقة.
بكل المعايير فإن إيران الجديدة مسؤولة عن كل ما شهدته المنطقة من انهيارات ساعدتها في ذلك قوى دولية كانت تتحين الفرص لإضعاف العالم العربي ونهب ثرواته بعد أن أفقدته القدرة على اتخاذ قراره السياسي الوطني المستقل في الحفاظ على سيادته.
وليس من قبيل المصادفة أن تكون إيران القوة الإقليمية الوحيدة التي قدمت الدعم لمشروع الغزو الأمريكي للعراق وساندته حين وضعت أتباعها في خدمته. لا يكف الإيرانيون عن الحديث عن فضل إيران على الولايات المتحدة في عملية إسقاط نظام صدام حسين والتخطيط للفتنة الداخلية في العراق من أجل حماية القوات الأميركية من ضربات المقاومة.
إلى وقت قريب كان هناك تخادم مبيت بين إيران والولايات المتحدة وكان الاتفاق النووي الذي تم توقيعه عام 2015 هو من بين ثمار عديدة لذلك التخادم. وليس سرا أن الإدارات الديمقراطية الأمريكية كانت تُدير ظهرها لنشر إيران مليشياتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن تمهيدا لإعلانها القوة الإقليمية الوحيدة التي يمكنها ضبط الأوضاع لضمان أمن إسرائيل.
لم يكن السلام والأمن والاستقرار في العالم العربي عناصر مهمة في العقل السياسي الأمريكي. كان المهم ضمان أمن إسرائيل وكانت إيران مستعدة للقيام بذلك لولا أن نظامها العقائدي بكل غروره كان قد وصل إلى مرحلة، شعر فيها بأنه قادر على فرض شروط هيمنته عالميا.
وعلى الرغم من أن إيران نفت مرارا مسؤوليتها عما حدث يوم السابع من أكتوبر عام 2023، فإن كل المعطيات كانت تشير إلى أنها كانت لها يد فيما حدث، بدليل أنها أمرت «حزب الله» بالاشتراك في تلك الحرب، متوهمة أن تلك الضغوط ستدفع بإسرائيل إلى أن تعيد النظر في طريقتها في التعامل مع الملف النووي بحيث تجبر إدارة الرئيس الأمريكي الجديد على تمرير الاتفاق الجديد بما يخدم المصلحة الإيرانية.
بسبب تعاليهم وغرورهم ارتكب الإيرانيون أخطاء جسيمة في قراءة المتغيرات في الساحة السياسية الدولية. لم يخطر في بالهم أن إسرائيل هي الأخرى قد وجدت فيما جرى يوم السابع من أكتوبر فرصة لإعادة ترتيب الأوضاع من حولها، بحيث تجعل العودة إلى ما قبل ذلك اليوم المشؤوم بالنسبة إليها أمرا مستحيلا وأن تتخلص من الخطر الذي يهدد أمنها إلى الأبد.
ألم يتوقع الإيرانيون شيئا من ذلك القبيل؟
هم ليسوا بتلك السذاجة غير أنهم حين ضحوا بأتباعهم لم يكونوا يتوقعون أن نار الحرب ستشتعل في الداخل الإيراني. كانت سياستهم قائمة دائما على تجنب الصدام المباشر مع الولايات المتحدة ومن خلالها إسرائيل. اعتقدوا بأن التهديد بإشعال المنطقة سيكون وسيلة لردع كل من تسول له نفسه مهاجمتهم. وكان ذلك خطأهم القاتل.
اليوم بعد أن تلقت إيران ضربات نوعية متقنة كشفت عن مأزقها التقني والاستخباراتي والعسكري لم تعد تأمل في استعادة الوضع الذي كانت عليه من قبل. لقد ذهبت هيمنتها على لبنان وسوريا وبطريقة مواربة في غزة من غير رجعة، كما أن داخلها بمشروعه النووي وحرسه الثوري ومخازن ومصانع أسلحته صار مكشوفا ومعرضا للضرب في أي لحظة في ظل غياب أي مظلة قوية للدفاع الجوي.
إيران التي أضرت بسلام المنطقة عبر أكثر من أربعين سنة وكانت السبب في انهيار مجتمعات وتدمير بنى اجتماعية ونشر القلاقل بعد أن تزعمت محور المقاومة، صارت اليوم مضطرة إلى أن تزيح عن وجهها القناع المذهبي لتعلن اكتفاءها بالدفاع عن أراضيها ونظامها السياسي ورغبتها في بيع نفطها أسوة بالدول المصدرة للنفط. صحيح أن إيران الضارة لم تنته غير أن زمنها انتهى.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك