يعد الذكاء الاصطناعي مجالا يتطور بسرعة فائقة ويتوقع أن يحدث تحولا جذريا في المجتمع والاقتصاد، فمن ناحية يحمل الذكاء الاصطناعي في طياته وعودا بخلق فرص عمل جديدة ومبتكرة، خاصة في قطاعات حيوية مثل تكنولوجيا المعلومات، والخدمات اللوجستية، والرعاية الصحية. هذه الوظائف الجديدة ستتطلب مهارات متخصصة وقد تفتح آفاقا مهنية لم تكن موجودة من قبل.
على الجانب الآخر، هناك توقعات بأن يتسبب الذكاء الاصطناعي في فقدان بعض الوظائف في مختلف القطاعات، بما في ذلك الصناعة، والزراعة، والنقل، وغيرها من المجالات التي تعتمد على المهام الروتينية والمتكررة، أي يعتمد مدى تأثير الذكاء الاصطناعي على معدلات البطالة على عاملين أساسيين: أولا، مدى انتشار وتعمق استخدام الذكاء الاصطناعي في الصناعات المختلفة، وثانيا، طبيعة الوظائف نفسها، فالمهام التي تتسم بالتكرار أو الملل أو الخطورة هي الأكثر عرضة لأن يتم أتمتتها بواسطة الذكاء الاصطناعي.
إن مستقبل الوظائف في ظل الذكاء الاصطناعي ليس قاتما بالكامل، فالوظائف التي تتطلب مهارات إبداعية، أو تحليلية عميقة، أو تفاعلا بشريا معقدا من المرجح أن تستمر في النمو والازدهار، وهذا يعني أن التركيز سينتقل إلى المهارات التي لا يمكن للآلة تقليدها بسهولة، مثل التفكير النقدي، وحل المشكلات المعقدة، والإبداع الفني، والذكاء العاطفي، والتواصل الفعال بين البشر.
بناء على ما سبق، من الواضح أن الذكاء الاصطناعي سيكون له تأثير كبير على سوق العمل في السنوات القادمة، لذلك من الضروري أن نكون واعين لهذه التحولات المحتملة وأن نبدأ في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحويل الآثار السلبية المحتملة إلى فرص لزيادة التوظف، ويمكن أن يشمل ذلك إعادة تدريب القوى العاملة، وتطوير برامج تعليمية جديدة تركز على المهارات المستقبلية، وتعزيز الابتكار لخلق وظائف جديدة تتكامل مع التقدم التكنولوجي.
إن رؤية القيادة في مملكة البحرين في تبني التقنيات الحديثة، وبالتحديد تقنيات الذكاء الاصطناعي، قد ساهمت بشكل كبير في تطوير الخدمات الحكومية وتعزيز مكانة البحرين الريادية في المنطقة. وإيمانا بإمكانات هذه التقنية، فقد وضعت المملكة الذكاء الاصطناعي في صميم أولوياتها الوطنية للاستفادة من هذه التقنية في مختلف القطاعات، ولا شك أن الذكاء الاصطناعي لا يلعب اليوم دورا أساسيا في تبسيط العمليات الحكومية وتحسين تقديم الخدمات الحكومية فحسب، بل يمتد ذلك إلى نطاق أوسع ليشمل إعادة تشكيل أجندة التحول الرقمي الشامل في مملكة البحرين، ولذلك وضعت المملكة الذكاء الاصطناعي أحد الممكنات الرئيسية للنمو الاقتصادي المستدام وتحسين جودة حياة المواطن والمقيم والتنمية الوطنية الشاملة.
تولي مملكة البحرين اهتماما بالغا بالابتكار الرقمي، لا سيما في مجال الذكاء الاصطناعي، وتسعى جاهدة لتهيئة بيئة حاضنة لهذه التقنيات المتطورة، ورغم هذا الاندفاع نحو تبني الذكاء الاصطناعي، تتبع المملكة نهجا حذرا ومنظما لضمان التطبيق الآمن والوضع الأمثل لهذه التقنيات، بما يعزز من المخرجات الإيجابية من دون التسبب في حدوث آثار سلبية غير مرغوبة، خاصة على القوى العاملة، ويتجلى هذا الالتزام في تشكيل اللجنة الوطنية للبحث في مجالات استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتبني الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي، التي تمثل خارطة طريق لتطوير الخدمات الحكومية في القطاعات ذات الأولوية التي تخدم التنمية البشرية والاقتصاد الوطني، كما أسهمت البحرين في إصدار الدليل الاسترشادي لأخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي بدول مجلس التعاون الخليجي، والذي يؤكد عدة مبادئ أساسية تضمن استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل يخدم الإنسان ولا يحل محله، بل يعزز من قدراته. فالمبدأ الأول يؤكد أن القرار للبشر، وأن أنظمة الذكاء الاصطناعي هي أدوات تمكين وليست بديلا للإنسان في اتخاذ القرارات المصيرية.
وتكرس مملكة البحرين جهودا حثيثة لتعزيز كفاءة وتنافسية قواها العاملة، وذلك عبر منظومة متكاملة من برامج التدريب والتطوير التي تشمل مبادرات حكومية وشراكات مع القطاع الخاص والمؤسسات التعليمية والتدريبية. يتصدر صندوق العمل «تمكين» المشهد حيث يدعم القطاع الخاص ويمكن القوى العاملة الوطنية من خلال برامج متنوعة تهدف إلى تطوير المهارات الفنية والأساسية، وتوفير فرص تدريب مرتبطة بالتوظيف المباشر أو التدريب على رأس العمل، بالإضافة إلى دعم ريادة الأعمال.
وتلعب وزارة العمل دورا محوريا في تنظيم سوق العمل، وتقديم خدمات التوظيف والتدريب، والإشراف على البرامج التي تعزز مهارات الباحثين عن عمل في تخصصات متعددة كالتحول الرقمي والمالية والضيافة، وفي سياق التحول الرقمي، تعمل هيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية على تعزيز المهارات الرقمية للمواطنين عبر مبادرات مثل برنامج قدرات وBBK Cares، لتمكينهم من استخدام الخدمات الحكومية والتطبيقات الرقمية بفاعلية. ولضمان جودة التعليم والتدريب، تتولى هيئة جودة التعليم والتدريب مسؤولية مراجعة المؤسسات والبرامج التدريبية، والإشراف على الإطار الوطني للمؤهلات، مما يضمن توافق المخرجات التدريبية مع متطلبات سوق العمل.
وإلى جانب هذه الجهات الحكومية، تسهم المعاهد والمراكز التدريبية الخاصة المعتمدة بشكل كبير في تقديم دورات متخصصة في مجالات واسعة تشمل تقنية المعلومات (كالذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني)، والإدارة، والمالية، وغيرها. كما تقدم الجامعات والكليات الرائدة في البحرين، مثل جامعة البحرين وبوليتكنك البحرين والمعهد المصرفي البحريني، برامج أكاديمية وتدريبية متطورة تلبي احتياجات السوق المتغيرة. وتُظهر مبادرات نوعية مثل برنامج جيل ICT من stc البحرين، وبرامج التدريب مع ضمان التوظيف (ضمان)، والبرنامج الوطني للتوظيف، التزام البحرين المستمر بتنمية كوادرها الوطنية، وتأهيلها للمنافسة بفعالية في سوق العمل المحلي والدولي، مع التركيز المتزايد على المهارات المستقبلية والتخصصات الناشئة.
من خلال هذه الاستراتيجية المتكاملة، التي تجمع بين التخطيط الاستباقي، والاستثمار في المهارات المستقبلية، والالتزام بالمبادئ الأخلاقية، تعد البحرين نفسها ليس فقط لمواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي، بل لتحويلها إلى فرص للنمو الاقتصادي المستدام، وتحسين ظروف التوظيف، وتأمين مستقبل البحرين كدولة رقمية رائدة ومرنة.
{ باحثة في العلوم السياسية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك