عقب فوز كير ستارمر، برئاسة وزراء بريطانيا في صيف 2024، تعهد بالاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، مشددًا على الأهمية البالغة، لهذه الخطوة لضمان سلام دائم في الشرق الأوسط، مؤكدًا إيمانه المطلق بها. غير أنّه، فور تسلمه منصبه، تراجع عن هذا التعهد وأسقطه من أجندته السياسية، وهو ما أرجعته وسائل إعلام بريطانية إلى رغبته في عدم إثارة حفيظة الولايات المتحدة.
وخلال العام التالي، التزم رئيس الوزراء وحكومته الصمت تجاه أي تصريحات حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية، متجاهلين تصاعد الدعوات من أعضاء البرلمان، وحقوقيين، وقانونيين، فضلاً عن مطالبات متنامية من الرأي العام البريطاني، لاتخاذ خطوات جدية لوقف المجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
غير أنّه، وفي أواخر يوليو2025، أصبح حجم الموت والدمار والمعاناة التي ألحقتها إسرائيل بالمدنيين الفلسطينيين، كفيلاً بجعل استمرار صمت لندن، أمرًا غير مقبول. وفي تطور لاحق، أعلنت الحكومة، التزامها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، مقتدية في ذلك بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وذلك خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل، استنادًا إلى شروط سلام لا يُرجَّح أن توافق عليها حكومة بنيامين نتنياهو، اليمينية المتطرفة.
وفي حين سلط جيريمي بوين، من شبكة بي بي سي، الضوء على القرار باعتباره تغييرًا كبيرًا في السياسة الخارجية للمملكة المتحدة؛ فقد رأت فيه برونوين مادوكس، من المعهد الملكي للشؤون الدولية، مجرد خطوة رمزية بحتة. وبينما أعرب ستارمر، عن أمله في أن يساعد إعلانه في تغيير الظروف على الأرض، والتأكد من وجود أمل في حل الدولتين مُستقبلًا؛ فإن الرفض الواضح من جانب إسرائيل -وداعميها الأمريكيين- يشير إلى أن الاعتراف وحده لا ينبغي أن يكون نهاية المساءلة الدولية عن جرائم الحرب الإسرائيلية.
ونظرًا إلى إصرار لندن، على تبرير توقيت قرارها، بالقول: إن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لم يكن خلافا من حيث المبدأ، وإنما كان مسألة متى يتم ذلك؛ يبرز تساؤل حول أسباب إحجامها عن الإقدام على هذه الخطوة فورًا، ولماذا ربطت تنفيذها بالحصول على تعهدات من إسرائيل تضمن التزامها بالمسار المطلوب. ومع تصاعد تحذيرات التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي التابع للأمم المتحدة (IPC)، التي وصلت إلى مستوى أسوأ سيناريو للمجاعة في غزة، بما يعني حدوث مجاعة واسعة النطاق؛ فإن التأخير غير المبرر للتحرك الدبلوماسي الغربي لمدة شهرين ينذر بسقوط آلاف الشهداء والجرحى من المدنيين دون أي مبرر.
ومع إبراز التغطية الإعلامية في بريطانيا لحجم الدمار الذي خلّفته حرب إسرائيل في غزة، واحتلالها، وتجويعها المتعمد للمدنيين الفلسطينيين؛ تزايدت الضغوط الشعبية والبرلمانية على الحكومة، لاتخاذ خطوات جدية وحاسمة لوضع حد لهذه المأساة الإنسانية. وأظهر استطلاع رأي أجرته شركة سرفيشن، بين البريطانيين تأييد 49% للاعتراف بالدولة الفلسطينية، مقابل معارضة 13% فقط. ويعتقد 49% أنه يجب على حكومتهم توجيه انتقاد أقوى لائتلاف نتنياهو المتطرف، بينما يوافق 44% أيضًا على تعليق لندن لتجارتها مع إسرائيل.
بالإضافة إلى ذلك، وجه أكثر من ثلث أعضاء مجلس العموم (220) من جميع الأحزاب الرئيسية، في 25 يوليو 2025، رسالة إلى رئيس الوزراء يدعونه للانضمام إلى إعلان فرنسا السابق للاعتراف بالدولة الفلسطينية. وداخل حكومة ستارمر، سمت صحيفة الجارديان، كلا من أنجيلا راينر، نائبة رئيس الوزراء، وإيفيت كوبر، وزيرة الداخلية، كأبرز الداعمين لهذا الاعتراف.
ومع ذلك، أوضح بوين، أنه وحتى الأسابيع القليلة الماضية، لم يبدو ستارمر، مقتنعًا، بمناسبة الوقت للاعتراف بدولة فلسطين؛ لكن إلى جانب صور الأطفال الذين يموتون جوعًا في غزة؛ خلقت السابقة التي أرساها ماكرون، بإعلانه للمرة الثانية نية باريس الاعتراف بالدولة الفلسطينية -وفقًا لـمارك لاندلر، في صحيفة نيويورك تايمز- زخمًا لبناء إجماع أوسع بين دول أوروبا الغربية.
ومع اعتزام بريطانيا الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ومراعاة أن إسرائيل لم تُبدِ أي استعداد لتنفيذ شروط السلام الدائم؛ كتبت بيبا كريرار، في صحيفة الجارديان، أن حكومة ستارمر، أعلنت الآن موافقتها على خارطة طريق للسلام في المنطقة؛ لكن مادوكس، حذّرت من أن هذه الخطوة تبقى رمزية فقط، وقد تؤدي إلى صرف الانتباه عن الأولوية العاجلة، المتمثلة في وقف أعمال الإبادة التي يرتكبها جيش الاحتلال في غزة، وهو ما تبنته أيضًا اللجنة البريطانية الفلسطينية، التي حثّت ستارمر، على ألا يجعل من هذا الاعتراف الرمزي وسيلة للهروب من مسؤولية محاسبة إسرائيل على جرائم الحرب، بما فيها الإبادة الجماعية، التي ارتكبتها وما تزال في القطاع.
ومن المرجح أن يكون التأثير المادي للإعلان البريطاني، بشأن التخفيف من معاناة الفلسطينيين في غزة محدودًا للغاية. وبينما استنكر برنامج الأغذية العالمي، عدم وصول سوى أقل من نصف شاحنات المساعدات الإنسانية المخصصة للقطاع إلى المحتاجين؛ تظل المملكة المتحدة، من بين الدول التي تعهدت بإسقاط المساعدات جوا، وهو النهج الذي تم انتقاده من قِبل المراقبين، مثل ياسمين كوزوي، من مؤسسة جمعية المساعدة الفورية الخيرية، التي صرّحت: بأنه لا يوجد مكان في العالم يُلقى فيه الطعام من السماء، وتُلقى القنابل في نفس الوقت.
علاوة على ذلك، فقد تم إدانة بريطانيا أيضًا لتأجيلها الاعتراف حتى انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر القادم، وهو ما اعتُبر بمثابة منْح الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، مزيدا من الوقت لتغيير نهجها الإبادي، مقابل تأخير لندن، لاتخاذ موقف واضح. ومن بين الشروط التي وضعتها الأخيرة للاعتراف، مطالبة إسرائيل باتخاذ خطوات جوهرية، لإنهاء الحرب في غزة، وعدم ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، والموافقة على مسار سلام طويل الأمد. فيما اشترطت في المقابل أيضا إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس، ونزع سلاح الحركة بشكل كامل، وقبولها بوقف إطلاق النار، وعدم مشاركتها سياسيًا في حكم غزة مستقبلاً.
وفي هذا السياق، صرّحت سارة شامبيون، رئيسة لجنة التنمية الدولية في مجلس العموم، بأنها تشعر بـالارتياح، لتحرّك ستارمر، نحو الاعتراف بدولة فلسطين، لكنها في الوقت ذاته عبرت عن انزعاجها من أن هذا الاعتراف يبدو مشروطًا بأفعال إسرائيل. وأكد زعيم حزب العمال السابق، جيريمي كوربين، أن الاعتراف ليس ورقة مساومة، بل حق غير قابل للتصرف للشعب الفلسطيني. فيما وصفت سارة الحسيني، مديرة اللجنة البريطانية الفلسطينية، وضع مثل هذه الشروط بأنه سخيف، ومصطنع، مشددة على أن المطلوب هو المساءلة الفورية عن الإبادة الجماعية في غزة، ووقف الدعم العسكري البريطاني للدولة التي ترتكب هذه الجرائم.
ومع رفض الخارجية الإسرائيلية، بيان ستارمر، واعتباره بمثابة مكافأة لحركة حماس، علّق جيريمي بوين، من شبكة بي بي سي، بأن معدي خطابات ستارمر، يمكنهم الآن البدء في إعداد ما سيقوله خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر. ومع ذلك، تبقى النتيجة المحتملة لهذا التأخير غير واضحة، باستثناء تزايد أعداد الضحايا من المدنيين الفلسطينيين.
وخلال مشاركته في مؤتمر الأمم المتحدة، بشأن حل الدولتين –الذي استضافته فرنسا والسعودية في 28 يوليو– أقر وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، بأن لندن تتحمل عبئًا خاصًا من المسؤولية، في دعم هذا الحل؛ نظرًا إلى دورها التاريخي في إعلان بلفور، وانتدابها على فلسطين. وبالرغم من تصريح رئيس الوزراء، بأن الوضع أصبح لا يُطاق في غزة؛ ما دفعه إلى الالتزام أخيرًا بالاعتراف بدولة فلسطين، يُطرح سؤال جوهري: لماذا تطلّب الأمر 22 شهرًا من الدمار الشامل والموت والمعاناة حتى تصل حكومته إلى هذا القرار؟
ومع تشديده على أن حكومته تنتظر لحظة التأثير الأقصى، لتنفيذ الاعتراف ضمن إطار حل الدولتين؛ فإن الواقع يُظهر أن بريطانيا، ما زالت تحمي إسرائيل من المساءلة الدولية عن الجرائم المرتكبة، بما في ذلك الإبادة الجماعية. ويتجلى هذا في تصريح رئيس الوزراء المرافق لإعلان الاعتراف، والذي أكد فيه أن أولوية حكومته تبقى ضمان أمن إسرائيل.
وعند تقييم هذا القرار، واحتمال أن تنضم دول غربية أخرى له خلال الجمعية العامة؛ ينبغي الإشارة إلى أن هناك معارضة سياسية كبيرة ما زالت قائمة داخل بريطانيا. وذكرت شبكة سكاي نيوز، أن الغالبية العظمى من نواب حزب العمال لم يعلّقوا على إعلان ستارمر. بينما وصفته كيمي بادنوخ، زعيمة حزب المحافظين، بأنه موقف سياسي في أسوأ صوره. وفي السياق نفسه، حمّلت مجموعة أصدقاء إسرائيل في حزب العمال، الفلسطينيين مسؤولية الدمار الذي خلّفته الحرب، وأعلنت أن التزام ستارمر، بالاعتراف سيكون مجرد عمل رمزي، ما لم تستخدم بريطانيا، نفوذها لفرض مسار ذي معنى نحو الدولة الفلسطينية.
من جانبه، أشار بوين، إلى أن نافذة السلام، عبر حل الدولتين، بدت مغلقة تمامًا بعد انهيار المفاوضات بين الجانبين. واعتبر أن الاعتراف البريطاني بدولة فلسطين هو حيلة دبلوماسية؛ تهدف إلى محاولة إعادة فتح هذه النافذة. ويعتمد نجاح هذا الإعلان على مدى وفاء حكومة ستارمر بالتزاماتها، لا سيما إذا استمر ائتلاف نتنياهو في رفض وقف تدمير غزة.
وفي رسالتها إلى رئيس الوزراء البريطاني، شددت اللجنة البريطانية الفلسطينية، على أن الأزمة المتفاقمة في غزة والضفة الغربية هي نتيجة الإفلات من العقاب، الذي وفرته الحكومات الغربية، لا سيما بريطانيا، عبر دعمها العسكري، والاقتصادي، والدبلوماسي، المتواصل لإسرائيل.
وبينما يرفض ستارمر، حتى الآن الاعتراف بحدوث إبادة جماعية ضد الفلسطينيين؛ فقد أعلن أن حكومته ستجري تقييمًا في سبتمبر، حول مدى التزام الأطراف بشروطها. وفي حين رأت مادوكس، أن الرسالة من هذا الإعلان واضحة -وهي أن وقف إطلاق النار الفوري ضرورة– يبقى من المرجح أن تكون نتائج هذا الاعتراف رمزية فقط، في ظل الرفض الإسرائيلي والأمريكي لوقف إطلاق النار، أو الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، واستمرار غياب المساءلة الدولية لإسرائيل، والذي كرّسته الحكومات الغربية، بما فيها الحكومة البريطانية، على مدى عقود.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك