العدد : ١٧٣٠١ - الثلاثاء ٠٥ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٠١ - الثلاثاء ٠٥ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ صفر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

في حضرة فيروز.. وداعٌ يليق بزياد الرحباني

بقلم: نبيلة رجب

الاثنين ٠٤ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

لا‭ ‬أعرف‭ ‬متى‭ ‬بدأ‭ ‬حبي‭ ‬لفيروز‭ ‬والرحبانية،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬دائما‭ ‬هناك،‭ ‬كنت‭ ‬أسمع‭ ‬فيروز‭ ‬منذ‭ ‬زمن،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أعرف‭ ‬متى‭ ‬بدأ‭ ‬هذا‭ ‬التعلق‭ ‬تحديدا‭. ‬كان‭ ‬صوتها‭ ‬دائما‭ ‬حولي،‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬في‭ ‬السيارة‭ ‬وكأنها‭ ‬حاضرة‭ ‬طول‭ ‬الوقت،‭ ‬وما‭ ‬زالت‭.‬

كنت‭ ‬أسمع،‭ ‬‮«‬كان‭ ‬الزمان‭ ‬وكان‮»‬‭ ‬وأشعر‭ ‬بشيء‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬اسميه‭. ‬ثم‭ ‬كبرت،‭ ‬وكبرت‭ ‬معي‭ ‬الأغاني،‭ ‬وكأنها‭ ‬تتغير‭ ‬كلما‭ ‬تغيرت‭. ‬ومع‭ ‬الوقت،‭ ‬بدأت‭ ‬أُميز‭ ‬أغاني‭ ‬فيروز‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬الأخوان‭ ‬رحباني،‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬ابنها‭. ‬زياد‭.‬

هناك‭ ‬نبرة‭ ‬مختلفة،‭ ‬فيها‭ ‬صدق‭ ‬أكثر،‭ ‬ووجع‭ ‬لا‭ ‬يختبئ،‭ ‬وكلمات‭ ‬كأنها‭ ‬كتبت‭ ‬عنا‭. ‬أحببت‭ ‬في‭ ‬زياد‭ ‬شجاعته‭. ‬وطريقته‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬ما‭ ‬نخجل‭ ‬أن‭ ‬نقوله‭. ‬موسيقاه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الإعجاب،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة،‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬قاسية‭.‬

لهذا‭ ‬كنت‭ ‬أقدر‭ ‬ما‭ ‬يقدمه‭. ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يجمل‭ ‬شيئا‭ ‬لكنه‭ ‬جعلنا‭ ‬نحب‭ ‬الحياة‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬ألم‭. ‬لهذا‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬زياد‭ ‬الرحباني‭. ‬لا‭ ‬رثاءً‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬تركه‭ ‬فينا‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يقال‭ ‬ويروى‭ ‬ويستمر‭.‬

ما‭ ‬حسبنا‭ ‬أن‭ ‬الرحيل‭ ‬سيكون‭ ‬بهذه‭ ‬السرعة،‭ ‬ليس‭ ‬لأن‭ ‬الموت‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬أمثاله،‭ ‬بل‭ ‬لأننا‭ ‬لم‭ ‬نتخيله‭ ‬يوما‭ ‬ساكنا‭. ‬فحضوره،‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬تناقض‭ ‬وصراحة‭ ‬وفوضى،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حضورًا‭ ‬فنيا‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬مزاجا‭ ‬رافقنا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ننتبه‭.‬

كان‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يُعرف‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬الفنانة‭ ‬فيروز‮»‬‭. ‬زياد‭ ‬وُلد‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬الفن،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭ ‬كامتداد‭ ‬لما‭ ‬قبله،‭ ‬بل‭ ‬شق‭ ‬طريقه‭ ‬الخاص،‭ ‬بفكر‭ ‬مختلف‭ ‬وصوت‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬أحدا،‭ ‬وكمن‭ ‬يرى‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى‭ ‬تماما‭. ‬بدأ‭ ‬عازفا‭ ‬على‭ ‬البيانو،‭ ‬ثم‭ ‬أصبح‭ ‬كاتبا،‭ ‬ومؤلفا‭ ‬موسيقيا،‭ ‬ومسرحيا،‭ ‬وممثلا‭ ‬يطل‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬الخشبة‭ ‬بسخرية‭ ‬لاذعة‭. ‬وفي‭ ‬السبعينيات،‭ ‬قدم‭ ‬أولى‭ ‬مسرحياته‭ ‬التي‭ ‬خلطت‭ ‬السياسة‭ ‬بالفن‭ ‬والضحك،‭ ‬وهو‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬العشرين‭. ‬كتب‭ ‬لوالدته‭ ‬فيروز‭ ‬أغاني‭ ‬حملت‭ ‬نبرة‭ ‬جديدة‭ ‬عليها‭. ‬نبرة‭ ‬فيها‭ ‬صدق‭ ‬وتمرد‭ ‬وحنين،‭ ‬جعلت‭ ‬صوتها‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ ‬كما‭ ‬هو‭.‬

وفي‭ ‬المسرح،‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬الحرب،‭ ‬عن‭ ‬الفقر،‭ ‬عن‭ ‬الطائفية،‭ ‬عن‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬تكتبهم‭ ‬الصحف‭ ‬ولا‭ ‬تنشر‭ ‬لهم‭ ‬ولا‭ ‬يظهرون‭ ‬في‭ ‬نشرات‭ ‬الأخبار‭. ‬كان‭ ‬صوته‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يطلب‭ ‬ضوءًا،‭ ‬لكنه‭ ‬ساطع‭ ‬لا‭ ‬يُطفأ‭. ‬تجاوز‭ ‬حدود‭ ‬التمثيل،‭ ‬وكان‭ ‬يتكلم‭ ‬كما‭ ‬يتكلم‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الشارع‭. ‬حتى‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يتابع‭ ‬أعماله‭ ‬كاملة،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أنه‭ ‬شاهد‭ ‬مقطعا‭ ‬أو‭ ‬سمع‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬مسرحياته‭. ‬‮«‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬بكرا‭ ‬شو؟‮»‬،‭ ‬‮«‬نزل‭ ‬السرور‮»‬،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬عروضا‭ ‬للضحك‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬مرآة‭ ‬لوجع‭ ‬مشترك‭. ‬كان‭ ‬يمرّر‭ ‬المعنى‭ ‬والرسالة‭ ‬وسط‭ ‬النكتة،‭ ‬ويترك‭ ‬المشاهد‭ ‬يفكر‭ ‬بعد‭ ‬الضحكة‭.‬

ودّعته‭ ‬بيروت‭ ‬بصمت‭ ‬يشبهه‭. ‬لا‭ ‬بخطب،‭ ‬لا‭ ‬صخب،‭ ‬لا‭ ‬استعراض‭. ‬وفي‭ ‬قلب‭ ‬ذلك‭ ‬الصمت،‭ ‬ظهرت‭ ‬هي‭.‬

فيروز‭. ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬كلمات‭ ‬ولا‭ ‬عدسات‭. ‬دخلت‭ ‬بوقار‭ ‬لقاعة‭ ‬العزاء‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يدخلها‭ ‬أحد‭. ‬صمتت،‭ ‬فبكى‭ ‬الجميع‭. ‬ووقفت،‭ ‬فشعر‭ ‬الحاضرون‭ ‬أن‭ ‬الزمن‭ ‬نفسه‭ ‬قد‭ ‬انحنى‭. ‬الفنانة‭ ‬ماجدة‭ ‬الرومي‭ ‬انحنت‭ ‬أمامها‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬لافت،‭ ‬لا‭ ‬لأنها‭ ‬‮«‬السيدة‭ ‬فيروز‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬لأنها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬كانت‭ ‬الأم‭. ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬فقدت،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬يوما‭ ‬مستعدة‭ ‬للفقد‭ ‬كأي‭ ‬أم‭.‬

كان‭ ‬ابنها‭ ‬زياد،‭ ‬أقرب‭ ‬الناس‭ ‬إليها،‭ ‬وأبعدهم‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬حيث‭ ‬افترق‭ ‬عنها‭ ‬فنيا‭ ‬وإنسانيا‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬بسبب‭ ‬خلافات‭ ‬عائلية،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يمس‭ ‬حبه‭. ‬منحها‭ ‬كلمات‭ ‬لم‭ ‬يكتبها‭ ‬أحد‭ ‬لحنجرتها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وألحانا‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الراحة‭. ‬‮«‬أنا‭ ‬عندي‭ ‬حنين‮»‬،‭ ‬‮«‬كيفك‭ ‬أنت؟‮»‬،‭ ‬‮«‬بما‭ ‬إنّو‮»‬،‭ ‬‮«‬مش‭ ‬شايفة‭ ‬غيرك‮»‬،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أغنيات‭ ‬عابرة،‭ ‬بل‭ ‬رسائل‭ ‬بين‭ ‬أم‭ ‬وابن،‭ ‬فيها‭ ‬حب‭ ‬وغصة‭ ‬وشيء‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التعبير‭ ‬عنه‭ ‬بالكلام‭ ‬العادي‭. ‬كأنهما‭ ‬لم‭ ‬يجتمعا‭ ‬في‭ ‬حوارٍ‭ ‬كامل،‭ ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يُقال‭. ‬قيل‭ ‬في‭ ‬الأغاني‭.‬

أما‭ ‬السياسة،‭ ‬فلم‭ ‬يتجمل‭ ‬يوما‭. ‬قال‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يُقال،‭ ‬وربما‭ ‬بالغ‭ ‬احيانا،‭ ‬إذ‭ ‬عارضه‭ ‬الكثيرون،‭ ‬وغامر‭ ‬بمكانته‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬أن‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬رأيه‭ ‬كما‭ ‬هو‭. ‬

وبرغم‭ ‬أن‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬لم‭ ‬يعاصروه،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬حضوره‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬واضحا‭ ‬في‭ ‬يومهم‭. ‬قد‭ ‬يصادفون‭ ‬مقطعا‭ ‬من‭ ‬مسرحية‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل،‭ ‬أو‭ ‬يسمعون‭ ‬أغنية‭ ‬بصوته‭ ‬تحمل‭ ‬نبرة‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬باقي‭ ‬الأغاني‭. ‬ما‭ ‬كان‭ ‬حاضرا‭ ‬في‭ ‬جيله‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬جيل‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الكثير‭ ‬عن‭ ‬لبنان،‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬الحروب‭ ‬التي‭ ‬كتب‭ ‬عنها،‭ ‬لكنه‭ ‬فهم‭ ‬من‭ ‬كلماته‭ ‬شيئا‭ ‬عن‭ ‬الحياة،‭ ‬والتعب،‭ ‬والحنين،‭ ‬والقلق‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُقال‭.‬

قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬بعضهم‭ ‬مهتما‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬الموسيقية،‭ ‬لكنهم‭ ‬يحفظون‭ ‬جملته‭: ‬‮«‬شو‭ ‬دخلني‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬مش‭ ‬مبسوط؟‮»‬‭ ‬وكأنها‭ ‬كُتبت‭ ‬بلسانهم‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬باقٍ،‭ ‬لأنه‭ ‬كتب‭ ‬للناس‭ ‬كما‭ ‬هم‭.‬

آمن‭ ‬بأن‭ ‬القيمة‭ ‬في‭ ‬الكلمة،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬التصفيق‭. ‬كان‭ ‬يمشي‭ ‬في‭ ‬الزاوية،‭ ‬ويكتب‭ ‬كما‭ ‬يشعر،‭ ‬ويتركنا‭ ‬نكتشف‭ ‬أنفسنا‭ ‬من‭ ‬خلاله‭.‬

وداعا‭ ‬زياد‭. ‬ما‭ ‬قلته‭ ‬في‭ ‬فنك‭ ‬كان‭ ‬أعمق‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬رثاء،‭ ‬وما‭ ‬كتبته‭ ‬لا‭ ‬اعتقد‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يقدر‭ ‬على‭ ‬مواصلته‭ ‬بعدك‭. ‬نكتب‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬لنرثيك،‭ ‬بل‭ ‬لنقول‭ ‬إنك‭ ‬بقيت‭.‬

ذلك‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬كتبته‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬أغنياتك،‭ ‬صار‭ ‬اليوم‭ ‬سؤال‭ ‬الغياب‭ (‬كيفك‭ ‬أنت؟‭) ‬لكنه‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬بلا‭ ‬جواب‭.. ‬لأنك‭ ‬لست‭ ‬هنا‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

 

 

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا