لا أعرف متى بدأ حبي لفيروز والرحبانية، لكنه كان دائما هناك، كنت أسمع فيروز منذ زمن، من دون أن أعرف متى بدأ هذا التعلق تحديدا. كان صوتها دائما حولي، في البيت، في السيارة وكأنها حاضرة طول الوقت، وما زالت.
كنت أسمع، «كان الزمان وكان» وأشعر بشيء لا أعرف أن اسميه. ثم كبرت، وكبرت معي الأغاني، وكأنها تتغير كلما تغيرت. ومع الوقت، بدأت أُميز أغاني فيروز التي كتبها الأخوان رحباني، عن تلك التي كتبها ابنها. زياد.
هناك نبرة مختلفة، فيها صدق أكثر، ووجع لا يختبئ، وكلمات كأنها كتبت عنا. أحببت في زياد شجاعته. وطريقته في قول ما نخجل أن نقوله. موسيقاه لم تكن تبحث عن الإعجاب، بل عن الحقيقة، مهما كانت قاسية.
لهذا كنت أقدر ما يقدمه. لأنه لم يجمل شيئا لكنه جعلنا نحب الحياة رغم كل ما فيها من ألم. لهذا أكتب عن زياد الرحباني. لا رثاءً فقط، بل لأن ما تركه فينا يستحق أن يقال ويروى ويستمر.
ما حسبنا أن الرحيل سيكون بهذه السرعة، ليس لأن الموت بعيد عن أمثاله، بل لأننا لم نتخيله يوما ساكنا. فحضوره، بكل ما فيه من تناقض وصراحة وفوضى، لم يكن حضورًا فنيا فقط، بل مزاجا رافقنا من دون أن ننتبه.
كان هو أكثر بكثير من أن يُعرف بأنه «ابن الفنانة فيروز». زياد وُلد في بيت الفن، لكنه لم يتعامل مع نفسه كامتداد لما قبله، بل شق طريقه الخاص، بفكر مختلف وصوت لا يشبه أحدا، وكمن يرى العالم من زاوية أخرى تماما. بدأ عازفا على البيانو، ثم أصبح كاتبا، ومؤلفا موسيقيا، ومسرحيا، وممثلا يطل من فوق الخشبة بسخرية لاذعة. وفي السبعينيات، قدم أولى مسرحياته التي خلطت السياسة بالفن والضحك، وهو لم يتجاوز العشرين. كتب لوالدته فيروز أغاني حملت نبرة جديدة عليها. نبرة فيها صدق وتمرد وحنين، جعلت صوتها يعبر عن الواقع كما هو.
وفي المسرح، تحدث عن الحرب، عن الفقر، عن الطائفية، عن الناس الذين لا تكتبهم الصحف ولا تنشر لهم ولا يظهرون في نشرات الأخبار. كان صوته من النوع الذي لا يطلب ضوءًا، لكنه ساطع لا يُطفأ. تجاوز حدود التمثيل، وكان يتكلم كما يتكلم الناس في الشارع. حتى من لم يتابع أعماله كاملة، لا بد أنه شاهد مقطعا أو سمع جملة من مسرحياته. «بالنسبة إلى بكرا شو؟»، «نزل السرور»، لم تكن عروضا للضحك فقط، بل مرآة لوجع مشترك. كان يمرّر المعنى والرسالة وسط النكتة، ويترك المشاهد يفكر بعد الضحكة.
ودّعته بيروت بصمت يشبهه. لا بخطب، لا صخب، لا استعراض. وفي قلب ذلك الصمت، ظهرت هي.
فيروز. لا تحتاج إلى كلمات ولا عدسات. دخلت بوقار لقاعة العزاء كما لا يدخلها أحد. صمتت، فبكى الجميع. ووقفت، فشعر الحاضرون أن الزمن نفسه قد انحنى. الفنانة ماجدة الرومي انحنت أمامها في مشهد لافت، لا لأنها «السيدة فيروز»، بل لأنها في تلك اللحظة كانت الأم. المرأة التي فقدت، والتي لم تكن يوما مستعدة للفقد كأي أم.
كان ابنها زياد، أقرب الناس إليها، وأبعدهم عنها في الوقت نفسه. حيث افترق عنها فنيا وإنسانيا في فترات بسبب خلافات عائلية، دون أن يمس حبه. منحها كلمات لم يكتبها أحد لحنجرتها من قبل، وألحانا فيها من القلق أكثر من الراحة. «أنا عندي حنين»، «كيفك أنت؟»، «بما إنّو»، «مش شايفة غيرك»، لم تكن أغنيات عابرة، بل رسائل بين أم وابن، فيها حب وغصة وشيء لا يمكن التعبير عنه بالكلام العادي. كأنهما لم يجتمعا في حوارٍ كامل، لكن كل ما لم يُقال. قيل في الأغاني.
أما السياسة، فلم يتجمل يوما. قال ما لا يُقال، وربما بالغ احيانا، إذ عارضه الكثيرون، وغامر بمكانته بين الناس في سبيل أن يعبر عن رأيه كما هو.
وبرغم أن كثيرا من الشباب لم يعاصروه، إلا أن حضوره ما زال واضحا في يومهم. قد يصادفون مقطعا من مسرحية له على مواقع التواصل، أو يسمعون أغنية بصوته تحمل نبرة مختلفة عن باقي الأغاني. ما كان حاضرا في جيله فقط، بل وصل إلى جيل لا يعرف الكثير عن لبنان، ولا عن الحروب التي كتب عنها، لكنه فهم من كلماته شيئا عن الحياة، والتعب، والحنين، والقلق الذي لا يُقال.
قد لا يكون بعضهم مهتما بالتفاصيل الموسيقية، لكنهم يحفظون جملته: «شو دخلني إذا كنت مش مبسوط؟» وكأنها كُتبت بلسانهم. وهذا ما جعله باقٍ، لأنه كتب للناس كما هم.
آمن بأن القيمة في الكلمة، لا في التصفيق. كان يمشي في الزاوية، ويكتب كما يشعر، ويتركنا نكتشف أنفسنا من خلاله.
وداعا زياد. ما قلته في فنك كان أعمق من أي رثاء، وما كتبته لا اعتقد هناك من يقدر على مواصلته بعدك. نكتب اليوم لا لنرثيك، بل لنقول إنك بقيت.
ذلك السؤال الذي كتبته في واحدة من أجمل أغنياتك، صار اليوم سؤال الغياب (كيفك أنت؟) لكنه هذه المرة بلا جواب.. لأنك لست هنا.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك