حينما عجزت قريش عن إضعاف عزيمة وهمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه أو ثنيهم عن التمسك بالإسلام والعدالة والحق والحرية، قررت أن تقضي بطريقة أو بأخرى على قائد الدعوة الإسلامية عليه السلام وبقية المسلمين، فقد كان اعتقادهم أنه يمكنهم القضاء على الإسلام نفسه ببعض الأفكار التي كانوا يتداولونها في دار الندوة وهم سكارى. وفي لحظة ما من عمر الزمن تفتقت أذهانهم عن المقاطعة العظمى، إذ تعاهدوا على ألا يتعاملوا مع المسلمين بأي شكل من المعاملات كالبيع والشراء والزواج أي اقتصاديًا واجتماعيًا، وحتى يضمنوا استمرارية وبقاء المعاهدة فيما بينهم وألا يخونهم أحد كتبوا صحيفة وعلقوها بهذا المضمون في الكعبة، وكانت الصحيفة تنص على التالي: «ألا يناكحوهم ولا يتزوجوا منهم، وألا يبايعوهم، ولا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم، وألا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، وألا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلموا الرسول لهم للقتل».
عندما علم أبو طالب بن عبدالمطلب جمع بني هاشم وأخبرهم بمكيدة قريش، فقرروا – كلهم حتى المشركون منهم – أن ينحازوا للنبي صلى الله عليه وسلم في شعب بمكة يقال له: شعب أبي طالب، وانحاز معهم حمية بنو المطلب بن عبد مناف.
وبدأ الحصار، واستمر 3 سنوات، ومن أشهر مظاهر الجوع والتجويع ما قاله سعد بن أبي وقاص، حيث قال: «خرجت ذات يوم ونحن في الشعب لأقضي حاجتي فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا هي قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها فغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء فتقويت بها ثلاث ليال». وخلال السنوات الثلاث كان بعض الأفراد يسربون بعض الأغذية والمؤن في الليل خفيه حتى لا يراهم حراس قريش، ولكن كانت المواد المسربة لا تفي بالغرض والتجويع الكبير.
وذات ليلة بعد 3 سنوات اجتمع نفر من المشركين الذين أخذتهم النخوة العربية وهو هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية وغيرهم بهدف رفع الحصار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمحاصرين في الشعب، وبعدما اتفقوا جاءوا في الصباح وفي الحرم المكي صرخ زهير بن أبي أمية بين جموع قريش: «يا أهل مكة أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة».
وقبيل هذا الحادث نزل الوحي من الله على النبي صلى الله عليه وسلم يخبره أن الصحيفة قد سلط عليها دويبة ضعيفة (ربما النمل الأبيض أو أي نوع من الحشرات التي تأكل الورق) فأكلت ورقتها إلا ما كان فيها من ذكر الله. لما أخبر الرسول عليه السلام عمه أبو طالب بذلك، انطلق إلى قريش يخبرهم بأمر الصحيفة وأن الأرضة قد أكلتها إلا (اسم الله)، ثم ساومهم على الخبر فقال: «إن كان كلام ابن أخي حقًا فانتهوا عن قطيعتنا، وإن يك كاذبًا دفعته إليكم، فقالوا: قد أنصفتنا». ومشوا إلى جوف الكعبة وفي تلك اللحظة التي كان زهير يتحدث، فوجدوا الصحيفة قد أكلتها الأرضة ولم يبق منها إلا (اسم الله)، حينئذ سطع نور الحق فخرج بنو هاشم من الشعب، وانتصر الإسلام، إلا أن أهل الكفر لا يتغيرون.
واليوم تعود تلك المشاهد بصورة أو بأخرى إلى واجهة الأحداث، فاليوم يعيش أخوة لنا في غزة في واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية فتكًا في العصر الحديث كما تشير كافة التقديرات، حيث يُستخدم التجويع الممنهج كسلاح إبادة جماعية ضد أكثر من مليوني إنسان. فمنذ أكتوبر 2023، فرضت سلطات الاحتلال الصهيوني حصارًا شاملًا تمثل في إغلاق المعابر ومنع إدخال الغذاء والماء والدواء، وذلك في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.
ولكن ليكن معلومًا أن هذا التجويع لم يبدأ منذ 7 أكتوبر 2023 وإنما تشير كافة الدلائل الى أنه بدأ منذ عام 2006، حيث خضعت غزة لحصار صهيوني متدرج فخنق الاقتصاد وأفقر السكان. إذ تشير الإحصائيات الى أنها تجاوزت نسبة البطالة 45%، وبلغت في أوساط الشباب والجامعيين 67%، وكانت معظم الأسر تعتمد على المعونات لتلبية الحد الأدنى من احتياجاتها. إلا أن العدوان الذي بدأ منذ 7 أكتوبر 2023 مثّل انتقالًا نوعيا إلى مستوى غير مسبوق من التدمير المتعمد والممنهج، حيث أعلنت دولة الاحتلال صراحة استخدام التجويع كسلاح، من خلال إغلاق المعابر، ومنع إدخال الغذاء، واستهداف مباشر للمخازن والمطاحن والمخابز، والأراضي الزراعية، والأسواق، وحتى المطابخ المجتمعية وتكايا الطعام، وهذه السياسة لم تكن عشوائية في يوم ما وإنما كانت هندسة ممنهجة، ففي 9 أكتوبر 2023 صرّح وزير الجيش الإسرائيلي آنذاك يوآف غالانت: «نفرض حصارًا كاملاً على غزة، لا كهرباء، لا طعام، لا ماء، لا غاز، كل شيء مغلق. نحن نقاتل حيوانات بشرية ونتصرف وفقًا لذلك»، وهذا تصريح من عشرات التصريحات من كبار المسؤولين الإسرائيليون التي يُعد اعترافًا رسميًا مباشرًا باستخدام الحصار والتجويع كأداة من أدوات الإبادة الجماعية.
ولقد وجدنا أن المنظمات الدولية تعتمد معايير واضحة لإعلان المجاعة، وتتمثل في تحقق ثلاثة شروط، هي:
{ أن يواجه 20% على الأقل من السكان مستويات شديدة من الجوع.
{ أن يعاني 30% من الأطفال من الهزال الحاد.
{ أن يبلغ معدل الوفيات حالة وفاة واحدة على الأقل لكل 10 آلاف بالغ يوميًا، أو حالتين للأطفال.
ومن الملاحظ أن كل هذه المؤشرات أو حتى تلك التي تعتبر أكثر تفاؤلاً، تشير بما لا يقبل مجالاً للجدال من أن هذا التجويع المطبق حاليًا في غزة مهندس بصورة احترافية حتى بلغت حالة من استيفاء كافة تلك المؤشرات منذ مطلع عام 2024، مما يجعلها في أكثر حالة مجاعة موثقة قانونيًا وإنسانيًا على مستوى الكرة الأرضية.
إذ أدى التجويع إلى وفاة المئات نتيجة الجوع والإجهاد وسوء التغذية، وتفاقمت حالات الهزال الحاد بين الأطفال، وانخفضت قدرة الأسر على تأمين الحد الأدنى من الغذاء، كما تسببت المجاعة في انهيار البنية الاجتماعية، ودفعت السكان نحو النزوح القسري أو الموت البطيء.
وتقول كافة وسائل الإعلام إن ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان، تُرتكب أمام أعين العالم. فالتجويع كسلاح حرب يجب أن يُدان دوليًا، ويجب أن تتحرك المؤسسات الدولية لوقف هذه المأساة، ومحاسبة المسؤولين عنها، وضمان وصول الغذاء والماء والدواء إلى السكان المدنيين، هذا على الرغم من تحذيرات أممية من خطر المجاعة الشاملة، إلا أننا لم نشهد حتى الآن إرادة دولية جادة في فرض ممرات إنسانية حقيقية أو وقف العدوان. إن هذا التراخي يعكس تفاهمًا غير معلن بين الولايات المتحدة ودولة الاحتلال وبعض القوى الغربية على إبقاء غزة تحت الضغط، ضمن ترتيبات ما يُعرف بـ(الشرق الأوسط الجديد).
وكذلك فإن هذه النوعية من الحروب، ونقصد حرب التجويع، يمكن أن تُعد أداة دعائية تُستخدم في الإعلام الدولي لتسطيح الواقع والقضية الفلسطينية، عبر تسويق المجاعة كأزمة إنسانية بلا سياق، وبلا فاعل، في حين يتم تغييب الاحتلال كمسبب مباشر، كما يُستخدم التجويع كوسيلة لإعادة هندسة الواقع السياسي الفلسطيني، وفرض وقائع جيوسياسية جديدة تحت غطاء (الضغط الإنساني).
نحن ما بين الهولوكوست النازي والهولوكوست الصهيوني
والان، دعونا نقوم بعمل مقارنة بسيطة بين الهولوكوست النازي الذي حدث بين عامي 1939 إلى 1945 إبان الحرب العالمية الثانية، والهولوكوست الصهيوني والمستمر في قطاع غزة من عام 2007 حتى اليوم،
أولًا: الهولوكوست النازي:
{ الجهة المسؤولة؛ النظام النازي بقيادة أدولف هتلر.
{ الضحايا؛ حوالي 6 ملايين يهودي قُتلوا في معسكرات الإبادة، بالإضافة إلى ملايين من الغجر، المثليين، المعاقين، والمعارضين السياسيين. وكانت الأساليب المستخدمة: غرف الغاز، التجويع، العمل القسري، وبعض التجارب الطبية.
{ وكانت النتيجة الاعتراف الدولي، على أنها جريمة إبادة جماعية موثقة، ومحاكمات نورمبرغ أدانت المسؤولين، وما زالت بعض الدول تدفع تبعات تلك الجريمة.
ثانيًا: الهولوكوست الصهيوني:
{ الجهة المسؤولة؛ الدولة الصهيونية، بدعم من الولايات المتحدة وبعض القوى الدولية، وقد بدأت منذ حوالي 2007 ومازالت مستمرة.
{ الضحايا؛ منذ 2008 حتى 2024، قُتل أكثر من 40 ألف إنسان، معظمهم من المدنيين، بينهم آلاف الأطفال والنساء، ومئات الآلاف من الجرحى والمصابين بإعاقات دائمة.
{ وكانت الأساليب المستخدمة؛ حصار شامل، منع على أثرها: الغذاء، الدواء، الكهرباء، والوقود، بالإضافة إلى قصف جوي وبري وبحري، وتدمير للبنية التحتية.
{ وكانت النتيجة الإنسانية الأساسية؛ أكثر من 2 مليون شخص يعيشون في ظروف إنسانية كارثية، انهيار النظام الصحي، نقص حاد في المياه النظيفة والغذاء.
{ وكانت نتيجة الاعتراف الدولي؛ أن وصفت منظمات حقوقية بعض الأفعال بأنها قد ترقى إلى جرائم حرب، والقضية مطروحة أمام محكمة العدل الدولية، ولقد تم البت فيها، ولكن دول العالم مازالت تتفرج وربما تقوم ببعض الأعمال هنا وهناك، ولكن كل تلك الأفعال لا ترقى إلى مستوى الحدث.
عمومًا، هذه حقائق وكل الذي نحتاج إليه هو بعض من لديهم النخوة الإنسانية ليفكوا الحصار عن أهل غزة.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك