التدبر دعوة واضحة المعالم إلى التفكر، ومحاولة لإدراك مقاصد الإسلام، وتحقيق النهج الذي نزل القرآن لتحقيقه، وإنشاء علاقة خاصة بين القرآن وآياته وسوره والإنسان الذي تحدثت سورة الإنسان عن فضائله وقيمه التي يريد الإسلام تجسيدها في حياة الإنسان الذي ينشده القرآن الكريم، قال تعالى: «وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفَّار» (إبراهيم/34).
ومعلوم أن التدبر لفهم مقاصد القرآن هو الغاية المنشودة من التلاوة لأن العبرة في تلاوة القرآن ليس بعدد الختمات، وبطول الصحبة للقرآن، بل بما يحصله القارئ للقرآن من معارف وعلوم تعينه على تحويل القيم والمبادئ إلى حياة زاخرة بالبذل والعطاء، قال سبحانه: «كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب». سورة (ص/29). وتأكيدًا لحرص القرآن على التزام المسلم نهج التدبر وعدم الاكتفاء بمجرد التلاوة فقط، بل يجب على المسلمين أن يتتبعوا الكلمة القرآنية حتى يتبين أصلها وفصلها ليتحقق من ذلك الفهم الصحيح، ومن ثم صالح العمل الذي يؤكد عليه دائمًا القرآن في قوله تعالى: «الذين آمنوا وعملوا الصالحات»، ونجد ذلك في قوله تعالى: «ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25)» سورة إبراهيم.
وحين يكون الغرس صالحًا يتحقق صلاح العمل، فيجتمع الإيمان والعمل الصالح، فيثمرا هذا الغرس الطيب ثمارًا يانعة قطوفها دانية، يقول سبحانه وتعالى: «من كان يريد العزة فلله العزة جميعًا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور» (فاطر/10).
والكلم مهما كان طيبًا، وفيه من القيم والمبادئ السامية ما يعلو بها الإنسان إلا أنه يحتاج إلى قوة رافعة تُفَعِلْ الكلم الطيب وتبلغ به الغاية التي يريدها الإنسان ويسعى إليها.
والقوة الرافعة التي ينشدها الكلم الطيب لتصل به إلى الغاية المطلوبة هي في المعادلة الإيمانيّة التي يجتمع فيها الإيمان والعمل الصالح، والذي يتكرر ذكره دائمًا في القرآن الكريم لأن الإيمان بلا عمل لا يحقق الغاية المطلوبة، وكذلك العمل بلا إيمان لا يتحقق به ما يطلبه المؤمن ويلح في طلبه دومًا، لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يكرر قوله تعالى في سورة القمر: «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر» (القمر/17) ويكرر ذكر ذلك أربع مرات في الآيات: (22،32، 40) والتكرار في هذه الآيات من سورة القمر ليس لمجرد التكرار، بل لتأكيد أهمية القضية وخطورتها،
ومن أجل استنطاق الكلمة القرآنية في أقصى حدودها وهذا قد يكون مستحيلا لأن مراد الله سبحانه لا يدركه بشر، بل هو شيء أقرب من المستحيل إلا ما قد يلقيه الله تعالى في قلب عبدٍ من عباده سبحانه حتى إذا وردت اللفظة القرآنية في موضع من مواضع القرآن تجد المعاني الكثيرة حاضرة في عقولنا فيعيننا هذا الفهم على إدراك مراد الله تعالى، وتتكامل اللفظة القرآنية بجميع معانيها التي باتت حاضرة واضحة المعالم في الآية المتلوة فضلًا عن التي لم يأت الوقت لتلاوتها، وتبقى مخزونة في الوعي المعرفي يستدعيها القارئ للقرآن متى يشاء، وفي ذلك أيضًا دعوة صريحة للتدبر، ولولا أن الله تعالى يريد من عباده المؤمنين أن يدبروا آيات هذا الكتاب الحكيم لما تولى بذاته سبحانه أمر تيسيره ولم يدع ذلك لأحدٍ من خلقه.
ومن الدلالات التي يقدمها لنا الله تعالى بتيسيره للقرآن بأنه لن يأتي مستدركا، ليستدرك على القرآن، وللدلالة على أن هذا القرآن وحي يوحى من عند الله تعالى، يقول سبحانه: «أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرا» (النساء/82).
وهذا يعني أن هذا القرآن الذي اختاره الله تعالى ليكون المعجزة الأخيرة التي اختارها الله تعالى لتكون خاتمة المعجزات لخاتم رسله محمد (صلى الله عليه وسلم )، وأنها ستظل معجزة متجددة بتجدد الزمان وتجدد المكان، وتجدد الأمم والأقوام، وأنها لن تكون معجزة موقوتة ينتهي إعجازها بانتهاء الزمان والمكان، والإنسان، وتحديها قائم ومستمر، وهذا لا يتحقق إلا من خلال معجزة لن تتكرر على مدى الزمان كله، والمكان كله والإنسان بعمومه وخصوصه، قال تعالى: «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا» (الإسراء/88).
وللقرآن مفاتيح إذا علمها المسلمون يستطيعون بها أن يفضوا إلى عالم القرآن، بل إلى عوالمه الرحبة، هذه المفاتيح هي أن يفتحوا قلوبهم قبل أن يفتحوا مصاحفهم.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك