خلال الأسابيع الأخيرة، صدر عن الحكومات الغربية – باستثناء الولايات المتحدة – إدانات متزايدة إزاء جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية. كان أبرزها البيان الصادر في 21 يوليو 2025 عن 25 دولة –منها المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وكندا وهولندا – استنكرت فيه «تفاقم معاناة المدنيين في غزة»، وأقرت بأن «نموذج إيصال المساعدات»، الذي ترعاه حكومة «بنيامين نتنياهو»، المتطرفة «خطير، ويُفاقم حالة عدم الاستقرار، ويسلب سكان غزة كرامتهم الإنسانية».
في الوقت الذي دعا فيه البيان إلى «الرفع الفوري للقيود المفروضة على تدفق المساعدات»، من دون أن يقترن ذلك بأي إجراء فعلي، جاء رد الفعل الغربي على التدهور المتواصل في الأوضاع الإنسانية بغزة، متمثلًا في محاولة تبرئة ائتلاف «نتنياهو»، اليميني المتطرف من المسؤولية، والتركيز بدلًا من ذلك، على طرح بدائل جديدة لإيصال المساعدات. غير أن خبراء حذروا من أن هذه البدائل لن تكون كافية لتلبية احتياجات أكثر من مليوني مدني يعانون الجوع، بل قد تُفاقم حجم الخطر الذي يواجهونه بالفعل.
وفي هذا السياق، أسفر الاجتماع الذي عقد في 25 يوليو بين رئيس الوزراء البريطاني «كير ستارمر»، والرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، والمستشار الألماني «فريدريش ميرتس»، عن توافق على المضي قدمًا في تنفيذ عمليات إسقاط جوي للمساعدات الإنسانية إلى غزة، وهي الخطوة التي وصفها «جيريمي بوين»، من شبكة «بي بي سي»، بأنها «بدائية»، و«غير كافية لإنهاء الجوع». وقد قوبلت هذه الخطوة برفض واسع من جانب عدد من العاملين في المجال الإنساني والمراقبين. وحذّر «فيليب لازاريني»، المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، من أن هذه العمليات «باهظة التكاليف وغير فعالة»، وقد «تنطوي على مخاطر تؤدي إلى مقتل مدنيين جوعى».
وعلى الرغم من أن القادة الأوروبيين يؤكدون أنهم سيعملون من أجل «تمهيد الطريق لحل طويل الأمد وتحقيق الأمن في المنطقة»؛ فإن هذه التصريحات تتناقض مع الرسالة التي بعث بها تأييدهم لعمليات الإنزال الجوي، التي تعجز عن تلبية الاحتياجات الإنسانية الملحّة للمدنيين الفلسطينيين، والتي تفاقمت جراء حملة التدمير الإسرائيلية المستمرة منذ 22 شهرًا. ووصف «أليكس دي وال»، من جامعة «تافتس»، مؤسسة غزة الإنسانية، بأنها «ذريعة لتجويع غزة». ووفقًا لـ«بوين»، فإن التوجه الأوروبي نحو تنفيذ عمليات إنزال جوي ليس سوى «خطوة يائسة»، لا تستهدف فقط إيصال مساعدات إضافية إلى الفلسطينيين الجائعين، بل تسعى أيضًا إلى توفير مبررات جديدة لتجاهل الانتهاكات الإسرائيلية الصارخة للقانون الدولي، أو تبريرها بشكل سافر.
وعلى نطاق واسع، تناولت وسائل الإعلام الغربية الظروف المروعة التي يحياها أكثر من مليوني مدني فلسطيني في ظل تفاقم جرائم الحرب الإسرائيلية، نقلاً عن الوكالات الإنسانية الرائدة في العالم العاملة في غزة. ومن بين تلك المنظمات، أثارت «منظمة أطباء بلا حدود»، (MSF) كيف أن «الاستخدام المتعمد للتجويع في القطاع كسلاح من قبل إسرائيل، قد بلغ مستويات غير مسبوقة»، حيث لا يقتصر الأمر على المرضى فحسب، بل طال أيضًا العاملين في مجال الرعاية الصحية «الذين يكافحون الآن من أجل البقاء».
علاوة على ذلك، سلط «برنامج الغذاء العالمي»، الضوء على أن ما يقرب من ثلث سكان غزة لم يتناولوا طعامًا لأيام متواصلة. وأشارت «أطباء بلا حدود»، إلى تضاعف معدلات سوء التغذية الحاد بين الأطفال دون سن الخامسة ثلاث مرات خلال الأسابيع الأخيرة فقط، حيث يعاني ربع الأطفال الذين فحصتهم من سوء التغذية. وذكرت صحيفة «الجارديان»، أن أكثر من 130 شخصًا سُجِّلوا رسميًا لقوا حتفهم جوعًا؛ مع أن الرقم الفعلي أعلى بكثير، فضلًا عن توقع زيادته بشكل كبير.
ورغم السماح بدخول 70 شاحنة مساعدات فقط إلى غزة يوميا -وهو رقم يقل كثيرًا عن الحد الأدنى البالغ نحو 500 شاحنة يوميًا لتلبية احتياجات السكان – تواصل «مؤسسة غزة الإنسانية»، المدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة، عملها عبر أربعة مراكز توزيع فقط، موزعة في مناطق باتت «عسكرية بالكامل»، ولا تُفتح إلا فترات محدودة وبإشعار قصير. وفي ظل هذا الوضع، اضطر عشرات الآلاف من المدنيين الجوعى إلى التخييم وسط الأنقاض، مترقبين لحظة فتح البوابات. وقد وصف «دي وال»، هذه السياسة بأنها «محاولة لتدمير مجتمع بأكمله»، مشبّهًا طريقة إدارتها بـ«رمي فتات الخبز».
ومن الواضح أن التحذيرات الجادة التي أطلقها العاملون في المجال الإنساني ووكالات الإغاثة، بشأن الانهيار المتسارع في غزة تحت وطأة الاحتلال العسكري الإسرائيلي والقصف العشوائي، لا تجد آذانًا صاغية لدى الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، الذي اكتفى في 28 يوليو بالإشارة إلى مشاهد أطفال «يتضورون جوعًا». وفي الوقت الذي يُفترض أن يوافق ائتلاف «نتنياهو» على هدنة يومية مدتها عشر ساعات لتسهيل وصول المساعدات، إلا أن التجارب السابقة تظهر أن حكومة الاحتلال غالبًا ما تنقض تعهداتها بشأن وقف إطلاق النار، بهدف تعظيم معاناة المدنيين الفلسطينيين، وهو ما يكشف عن فقدان الائتلاف اليميني المتطرف لأي مصداقية. وقد أشار «توم فليتشر»، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، إلى أن ما يحدث حتى الآن لا يتعدى «زيادة طفيفة في حجم المساعدات»، دون أن يرافقها أي ضمانات حقيقية لإغاثة المحاصرين الذين أنهكهم الجوع وسوء التغذية والأمراض والإصابات.
ورغم تأكيد «برنامج الغذاء العالمي»، امتلاكه كميات كافية من المواد الغذائية خارج غزة أو في طريقها إليه تكفي لإطعام جميع السكان لمدة تقارب ثلاثة أشهر، إلى جانب تصريح المفوض العام للأونروا «فيليب لازاريني»، بأن لدى الوكالة ما يقارب 6000 شاحنة تنتظر الحصول على الضوء الأخضر للدخول عبر المعابر البرية؛ فإن حكومات كل من المملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، اختارت دعم خيار إسقاط المساعدات جوًا، معتبرة إياه الوسيلة الأساسية لإيصالها.
وبشكل مباشر، يتعارض هذا التوجه مع التحذيرات والمناشدات التي أطلقتها «الوكالات الإنسانية الرائدة». وبرغم تأكيد «فليتشر»، على أن هناك «حاجة ماسة إلى كميات ضخمة من المساعدات»، من أجل «منع المجاعة» في القطاع، إلا أن العاملين في المجال الإنساني يتفقون على أن إسقاط المساعدات جواً، هو «وسيلة غير فعالة»، مقارنة بالنقل البري. وأوضح «سياران دونيلي»، من «اللجنة الدولية للإنقاذ»، أن هذه العمليات «لا يمكنها أبدًا توفير الكمية أو النوعية المطلوبة من المساعدات». بينما شدد «لازاريني»، على أن «نقل المساعدات عبر الطرق البرية أسهل وأكثر فاعلية وسرعة وأقل كلفة وأماناً»، فضلاً عن أنه «يحفظ كرامة سكان غزة أكثر بكثير».
ومن الناحية اللوجستية، وبناءً على تقديرات «القيادة المركزية الأمريكية»، التي أفادت بأن طائرات الشحن من طراز سي-130 قادرة على توصيل نحو 12,650 وجبة في الرحلة الواحدة؛ قدّرت شبكة «بي بي سي»، أن إيصال وجبة واحدة فقط لكل فرد من سكان غزة، البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، يتطلب أكثر من 160 رحلة. وبالنظر إلى امتلاك الأردن 10 طائرات من هذا الطراز، والإمارات 8 طائرات أخرى، فإن تحقيق هذا الهدف عبر الإنزال الجوي هو أمر غير ممكن من الناحية الإحصائية، بالمقارنة مع القدرات الأكبر لنقل المساعدات عبر البر.
وإضافة إلى محدودية الكمية، فإن طبيعة المساعدات نفسها تثير القلق. وبحسب «دي وال»، تحتوي صناديق الحصص الغذائية الخاصة «ببرنامج الغذاء العالمي»، عادة على الدقيق، والمعكرونة، والطحينة، وزيت الطهي، والأرز، والحمص، أو العدس، لكنها لا تتضمن «طعام أطفال»، ولا تترافق مع أي جهود من طواقم طبية أو مختصين في التغذية لمعالجة سوء تغذية الأطفال. كما أن عمليات الإسقاط الجوي التي تدعمها الحكومات الأوروبية، تبقى عاجزة عن تلبية احتياجات أكثر من 90 ألف امرأة وطفل قدّر «برنامج الغذاء العالمي»، أنهم بحاجة إلى علاج طبي عاجل.
وتبرز أيضاً المخاطر التي تهدد حياة المدنيين نتيجة لهذه العمليات. وأشار «شون بيل»، من قناة «سكاي نيوز»، إلى أن الإنزال الجوي «ينطوي على مخاطر كبيرة»، موضحاً أن الطرود حين تسقط على الأرض، يمكن أن تُصيب الناس مباشرة. وذكرت «شاينا لو»، من «المجلس النرويجي للاجئين»، أن بعض المدنيين غرقوا أثناء محاولتهم الوصول إلى المساعدات التي سقطت في البحر، كما أن الفوضى والاقتتال على الطرود أصبح مشهدًا متكرراً. ولهذا، تساءل «بوين»، عمّا إذا كانت هذه العمليات ستفضي إلى مشاهد يتزاحم فيها رجال يائسون حول كل منصة إنزال، في محاولة يائسة لتأمين الطعام لعائلاتهم.
وفي هذا السياق، شددت «بشرى الخالدي»، من «منظمة أوكسفام في الأراضي الفلسطينية المحتلة»، على ضرورة «الفتح الفوري لجميع المعابر لإيصال المساعدات بشكل كامل وآمن ودون عوائق إلى مختلف مناطق غزة»، بالإضافة إلى «وقف دائم لإطلاق النار»، محذّرة من أن أي بدائل لا تشمل هذه الخطوات قد تكون مجرد «لفتة تكتيكية». وتساءل «بوين»، عمّا إذا كانت الحكومات الغربية، كـ«لندن» و«باريس» و«برلين»، تسعى من خلال دعمها لعمليات الإنزال الجوي إلى «الظهور بمظهر إيجابي في الإعلام»، والتظاهر بأنها «تبذل جهداً»، حتى وإن كان هذا الجهد غير مجدٍ في إنقاذ الأرواح أو تحقيق السلام.
وفي تعليقه على هذا الوضع، قال الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش»، إن المعاناة الهائلة في غزة «ليست مجرد أزمة إنسانية، بل أزمة أخلاقية تتحدى ضمير العالم». ومع ذلك، فإن الحكومات الغربية فشلت مراراً في الدفاع عن حقوق الإنسان، أو احترام القانون الدولي، أو السعي لتحقيق العدالة. ووفقاً لما كتبته «سالي لوكوود»، من قناة «سكاي نيوز»، فإن هذه الحكومات «تعلم أيضاً أن الإنزال الجوي وسيلة معيبة لتوصيل المساعدات»، ما يشير إلى أن اعتمادها على هذا الخيار، هو تجنّب متعمد لمحاسبة حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة على جرائم الحرب التي ترتكبها في القطاع.
ورغم أن إعلان الرئيس «ماكرون»، نية بلاده الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر، يُعد خطوة ضرورية -وإن كانت متأخرة – نحو قيام دولة فلسطينية مستقلة؛ إلا أن الواقع الميداني يختلف كثيراً. ووثق «دي وال»، كيف أن «الانهيار الاجتماعي»، و«إهانة البشر»، الناتجة عن سياسات المساعدات التي تدعمها الولايات المتحدة وإسرائيل ليست ناتجة عن سوء التخطيط، بل عن نية إسرائيلية واضحة لـ«تدمير المجتمع الفلسطيني». وبالتالي، فإن مواقف الدول الغربية الكبرى لا تزال عاجزة عن إحداث أي تغيير حقيقي في الواقع القاسي الذي تشهده غزة، والضفة الغربية، وسائر الأراضي الفلسطينية المحتلة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك