لا أذكر أن مفهوم ريادة الأعمال كان من المواضيع التي كنا نتناولها في أحاديثنا اليومية عندما كنا طلابا في المرحلة الجامعية، ولم تكن في نطاق تصوراتنا ولا محور اهتمامنا رغم أن أحد زملاء الدراسة كانت لديه مغسلة ملابس سريعة في البحرين، وكنت معجبا بخطوته غير المألوفة لنا كطلاب آنذاك، ولوقعها في نفسي مازلت أتذكرها حتى اللحظة. فلطالما انحصر تفكيرنا، نحن الطلبة الجامعيين بشكل عام والهندسة بشكل خاص، في تأمين المعدلات الأكاديمية المرتفعة والكفيلة بإلحاقنا بالشركات الهندسية المرموقة وبالتالي الاستمتاع بالمزايا المالية الممنوحة والارتقاء الوظيفي الآمن مع أدنى درجات المخاطرة الممكنة.
مع مرور الأيام، اتضح لي أن ما قام به زميلنا هو ما يطلق عليه اصطلاحا حاليا إدارة أعمال وليس ريادة أعمال، تلك الكلمة التي ذاع صيتها مؤخرا والتي يختلط على الكثيرين فهمها بالعربية ويصعب نطقها للوهلة الأولى بالإنجليزية (Entrepreneurship)! فرغم تداخل المعنيين، فهما يختلفان من حيث الهدف والمهارات المطلوبة. تركز «إدارة الأعمال» على تنظيم الأعمال اليومية في شركة أو نشاط تجاري معتمدة على فكرة (قائمة)، مثلا مغسلة ملابس سريعة، وتهدف في المقام الأول الى تسيير العمل بشكل فعال ضمن الموارد المتاحة وبالتالي تتطلب مهارات تنظيمية وإدارية مناسبة تضمن استدامة الشركة أو النشاط التجاري.
على الجانب الآخر، تركز «ريادة الأعمال» على ابتكار وتطوير أفكار (جديدة) وإنشاء شركات (من الصفر) تهدف بشكل مباشر إلى الاستجابة لتحديات قائمة أو فرص جديدة وطارئة في السوق. تتطلب ريادة الأعمال قدرة عالية على إدراك الفرص المتاحة والابتكار (استحداث أو تحسين شيء قائم بطرق جديدة) واتخاذ القرارات غير التقليدية وتحمل المخاطر المصاحبة لها خصوصا في المراحل التأسيسية الأولى والتمتع بالمرونة الكفيلة للتعامل مع ديناميكية السوق وتغييراته. يتضح أيضا من التعريف الأخير أن هناك علاقة نفعية متبادلة بين الابتكار وريادة الأعمال، فكلاهما يقتات على الآخر، إن صح التعبير.
سأحاول في هذا المقال الإجابة عن ثلاثة أسئلة في سياق عرض مشهد ريادة الأعمال الآني. أولا: هل نحن بحاجة إلى رواد أعمال في مملكة البحرين؟ بكل تأكيد نعم، وقد أدركت حكومتنا الرشيدة أهمية هذا النهج وضمنته بوضوح في برنامج عمل الحكومة (2023-2026) وذلك بتعزيز مكانة مملكة البحرين في الريادة والابتكار كجزء من محور التعافي الاقتصادي والاستدامة المالية، مما يبرز أهمية هذه الثقافة وأولويتها بالنسبة للمملكة.
ثانيا: لماذا نحن بحاجة إلى هؤلاء؟ تشير التقارير التنموية المعروفة إلى أن التنمية الاقتصادية في العديد من الدول المتقدمة لم تعد تعتمد على الثروات الطبيعية فحسب، بل أصبحت تعتمد بشكل كبير على التأهيل العلمي والمهارات التي يمتلكها أفرادها. لذا كان من الأجدر على الدول ذات الثروات الطبيعية القليلة نسبيا وفرص العمل المحدودة أن تولي اهتماما أكبر بثقافة ريادة الأعمال ولا سيما في خضم التحديات المتصاعدة التي تعاني منها الأنساق الاقتصادية التقليدية كقطاعات الطاقة والصناعات التحويلية وغيرها. هذا لا يعني بأي حال من الأحوال تنصل الدولة من مسؤولياتها تجاه مواطنيها بتوفير فرص العمل المناسبة، بل هو نهج داعم لسياسات الدولة في تنويع واستدامة مصادر الدخل واستجابة داخلية لاحتياجات سوق العمل الديناميكية.
من الأهمية بمكان أن نتفق بداية بأن ريادة الأعمال ليست بوصفة ملائمة للجميع، ولا يمكن تجرعها من قبل شريحة كبيرة من الناس بشكل آمن وناجع ينتج عنه نتائج مرضيه. رغم أن هناك أمثلة محلية ملفتة كشركة كالو البحرينية الناشئة.
ثالثا: ما مدى الاستعداد الحقيقي للطلبة المنخرطين في الجامعات لخوض عالم ريادة الأعمال بالشكل الذي يلبي الطموحات؟ بادرت الدولة مشكورة بتوفير المنصات والنظام البيئي الداعم لثقافة ريادة الأعمال وهناك أمثلة عديدة: «لوموفاي»، و«تنمو» و«صندوق الأمل» و«ريادات». ريادة الأعمال المؤسسية هي أيضا إحدى صور ريادة الأعمال اللافتة التي بدأت تظهر محليا مؤخرا، والتي تقوم فيها المؤسسات الكبيرة على تبني فكرة الابتكار ضمن هيكلها التنظيمي، مثال على ذلك شركة بي فينجر (BeVentures)، الذراع الاستثمارية لشركة بابكو للطاقة (Bapco Energies). على الجانب الآخر من المشهد وكما ذكرنا آنفا، مازالت فكرة وثقافة ريادة الأعمال بين طلبة التخصصات الهندسية ضمن نطاقها الضيق، وغالبا ما تندرج تحت بند إدارة الأعمال وليس ريادتها. برنامج عمل الحكومة (2023-2026) ومن خلال محور الخدمات المجتمعية حث على تشجيع الابتكار بالشراكة مع المؤسسات التعليمية والارتقاء به والذي ينسجم وأحد محاور التعليم الجامعي العالمي ألا وهو خدمة المجتمع. فقيمة الجامعة الحقيقية من منظورنا الشخصي هي بارتباطها بحياة وتفاصيل مجتمعها والانغماس في حل مشكلاته وقضاياه الملحة والتصدر لتحدياته.
في اعتقادي أننا بحاجة إلى توجيه واقعي يأخذ العقلية البحرينية في عين الاعتبار. توجيه يتفاعل مع هواجس الطلبة في خضم الحديث الإعلامي لريادة الأعمال. قد يتساءل أحدهم: أنا طالب متفوق، لماذا أقحم نفسي في خط تحفه المخاطر في وجود بديل آمن ومرموق؟ وقد يتساءل آخر: لماذا لم تقم أنت بخوض هذا الغمار وتقديم مثال حي يقتدى به في هذا السياق؟ لماذا ولماذا لن تجيب عليها دورات بسيطة في ريادة الأعمال ولا سرد إعلامي يحث الشباب على ريادة الأعمال، بل خطوات عملية تلامس هذه الهواجس بشكل مباشر تعزز من ثقافة ريادة الأعمال كنهج راسخ وطريقة تفكير غير مسبوقة. التعرف عن كثب عن تجربة رائد أعمال ناجح، تخرج في تخصص هندسي معين وحقق مكاسب مجزية مقارنة بالوظائف المرموقة وأصبح من أهم وجهات التوظيف لطلبة التخصص الحاليين قد يكون ذا أثر عند بعضهم والاقتداء بأستاذ أكاديمي طموح استطاع تحويل أبحاثه الأكاديمية المتراكمة إلى شركة ناشئة ربما تعيد طريقة تفكير البعض الآخر.
إن الجامعة منظمة تتأثر بمنظومة القيم السائدة في المجتمع، وهذه القيم قد تكون في حد ذاتها عائقا، فمثلا إذا كانت القيم السائدة في مجتمع ما هي التقليد، فإن هذا بلا شك يعرقل عملية التجديد ورغم هذا، غالبا ما ينتظر من الجامعات أن تقود عملية التطوير والإبداع في مجتمعاتها.
{ أكاديمي بحريني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك