في عالم يتسارع فيه التحول من الأحادية القطبية إلى نظام دولي متعدد القوى، تتزايد حدة المواجهات الاقتصادية والسياسية بين التكتلات الكبرى. ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لم تكن السياسات الأمريكية مجرد استمرارية لنهج سابق، بل جاءت كزلزال يعيد رسم خطوط المواجهة الجيوسياسية، مستهدفة خصومًا تقليديين ومتحدين جدد في آن واحد.
في قلب هذا الزلزال تقف مجموعة البريكس، التي باتت أكثر من مجرد تحالف اقتصادي، إذ تمثل طموحا جماعيا لإعادة توازن القوة العالمية. فهل تحركات ترامب هي محاولة استباقية لاحتواء هذا التهديد المتصاعد؟ أم أنها بداية لمرحلة جديدة من الانقسام الدولي الذي قد يعيد تشكيل خريطة الاقتصاد العالمي؟
مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بدأت ملامح نهج أكثر حدة تتشكل في تعاطيه مع الخصوم والمنافسين العالميين، وتركزت مواقفه العدائية هذه المرة على دول مجموعة البريكس، التي بدأت بعضويتها الأصلية، البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا، ثم توسعت لتشمل مصر، إثيوبيا، إندونيسيا، إيران، والإمارات العربية المتحدة.
ووفقًا للمنتدى الاقتصادي العالمي، تمثل دول البريكس مجتمعة أكثر من 40% من سكان العالم، وتسهم بنحو 37.3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي حسب مقياس تعادل القوة الشرائية. ومع هذه الحصة الضخمة من السكان والإنتاج، تُنظر إلى البريكس من قبل بعض المراقبين الغربيين كبديل صاعد لمجموعة الدول الصناعية السبع بقيادة الولايات المتحدة، رغم التشكيك في فعاليتها بسبب تباين أنظمة الحكم والأيديولوجيات بين أعضائها.
خلال القمة السنوية السابعة عشرة التي عُقدت في ريو دي جانيرو في يوليو 2025، أصدرت البريكس بيانا مشتركا أكدت فيه سعيها نحو نظام دولي أكثر عدالة وتمثيلا. وعلى الرغم من أن المؤتمر اتسم بالهدوء، وغياب عدد من رؤساء الدول الأعضاء، إلا أنه أثار غضب ترامب، وفقًا لتقارير مجلة فورين بوليسي الأمريكية.
أشار كارثيك سانكاران، الباحث في الجيواقتصاد بمعهد كوينسي، إلى أن إدارة ترامب تسعى لخفض العجز التجاري الأمريكي من خلال استخدام الضغوط الاقتصادية لتطويع مواقف الدول الأخرى بما يتماشى مع المصالح الأمريكية، إضافة إلى الإبقاء على تفوق الدولار عالميا عبر تشجيع تدفقات رؤوس الأموال والحفاظ على أسعار فائدة منخفضة.
ولتحقيق هذه الأهداف، تسعى واشنطن لتقويض نفوذ مجموعة البريكس، من خلال أدوات عدة، أبرزها فرض رسوم جمركية مرتفعة على الدول الأعضاء والدول المتعاملة معها، وهو ما يحذر خبراء غربيون من أنه قد يُفضي إلى تراجع المكانة العالمية للولايات المتحدة وتسريع وتيرة الابتعاد عن الدولار.
وقبل توليه المنصب رسميا في يناير 2025، عبّر ترامب بوضوح عن رفضه للبريكس، وهدّد بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على واردات الدول الأعضاء ما لم تمتنع عن طرح عملة موحدة أو دعم بدائل تهدد هيمنة الدولار. رغم أن محكمة التجارة الدولية في نيويورك قضت في مايو بعدم قانونية هذه الرسوم وفقًا للقانون الدولي، إلا أن العديد من المحللين، مثل هيذر هولبرت من المعهد الملكي للشؤون الدولية، اعتبروا ذلك بداية لتحولات بعيدة المدى في السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية.
خلال القمة، صعّد ترامب من تهديداته، مهددًا بفرض رسوم إضافية بنسبة 10% على واردات أي دولة تدعم سياسات البريكس، ووصل الأمر إلى إعلان فرض ضريبة بنسبة 50% على الواردات من البرازيل، بدءًا من أغسطس، في خطوة اعتبرها بعض المحللين محاولة للضغط السياسي على الحكومة البرازيلية بشأن ملاحقات الرئيس السابق بولسونارو، حليف ترامب.
وترى بعض التحليلات، مثل تلك التي قدمها سانكاران، أن هذه السياسات تقوض فكرة أمريكا كجهة موثوقة اقتصاديًا عالميًا، بينما أكدت سيمون مكارثي أن تركيز ترامب على العملة باعتبارها التهديد الأكبر، قد يؤدي إلى نتائج عكسية، وعلى رأسها تسريع إزالة الدولرة على مستوى العالم.
يُذكر أن الدولار الأمريكي بدأ عام 2025 بأسوأ أداء له منذ عام 1973، رغم أن بعض التقديرات، مثل تلك التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز، تشير إلى أن واشنطن ربما تعمدت هذا التراجع لتحفيز الصادرات. مع ذلك، يوضح خبراء مثل فرانشيسكو بيسول من بنك آي إن جي، أن تقلبات سياسة ترامب أضعفت الثقة بالدولار وشجعت التحول إلى عملات بديلة.
ولا يزال الدولار يحتفظ بنسبة تفوق 57% من احتياطات النقد الأجنبي عالميًا، مقابل 20% لليورو، و5.8% للين الياباني، و4.9% للجنيه الإسترليني، و2.1% لليوان الصيني. ومع أن التفوق الأمريكي يبدو ثابتًا حاليًا، إلا أن المحاولات البديلة مستمرة.
في هذا السياق، دعت كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، إلى ما وصفته باللحظة العالمية لليورو، مؤكدة أن عملة أوروبية قوية قد تعزز الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي، رغم أن هذه الطموحات ما زالت تصطدم بتحديات سياسية واقتصادية هيكلية.
أما الصين، فقد واصلت جهودها لتعزيز استخدام اليوان عالميا، رغم أن معظم اليوان المتداول خارجيا يُستخدم لشراء بضائع صينية أو سداد ديون، بحسب ما أورده كيث برادشر من صحيفة نيويورك تايمز. وفيما يتعلق بالبريكس، فإن فكرة إنشاء عملة موحدة لم تُحرز تقدما فعليا رغم مرور أكثر من عقد على طرحها، وهو ما أشار إليه محللون من بلومبرج مثل مارثا فيوتي بيك وميريت مجدي، الذين اعتبروا التقدم بطيئا ومخيبا.
من جانبه، يرى ترامب أن المجموعة تمثل تهديدا للهيمنة الأمريكية، وواصل حملته ضدها بتهديد الدول الراغبة في الانضمام برسوم جمركية عقابية، مؤكدًا أن أي دولة تنضم للبريكس ستدفع ثمنا باهظا وقد لا تبقى عضوا طويلا.
هذا الموقف المتشدد يضع العديد من الدول الناشئة في موقف معقد، خاصة تلك التي تسعى لاتباع سياسة خارجية متوازنة، مثل الهند التي تقترب من الولايات المتحدة بسبب خلافاتها التاريخية مع الصين.
وأشارت الباحثة إيرين ميا إلى أن التحدي الأكبر اليوم هو كيف يمكن للدول الناشئة حماية استقلالها الاستراتيجي مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الكبرى، خصوصًا في ظل نهج ترامب الذي يقوم على المعاملات والضغوط الجمركية بدلاً من التحالفات المستقرة. ورغم أن البرازيل، الدولة المستضيفة للقمة الأخيرة، حاولت تخفيف اللهجة العدائية للبريكس تجاه الغرب، إلا أن إدارة ترامب واصلت تصعيدها، حتى عبر التهديد بفرض تعريفات على أي دولة تنضم مستقبلاً للمجموعة.
يرى محللون أن سياسات ترامب العدوانية قد تؤدي إلى نتائج عكسية، وتدفع حتى حلفاء الولايات المتحدة إلى التفكير في تقليل الاعتماد عليها اقتصاديًا ودبلوماسيًا، وتسريع خطوات إزالة الدولرة من النظام المالي العالمي. وبينما سيستمر الدولار في الهيمنة عالميًا في المستقبل المنظور، فإن هذه التحولات قد تُضعف تدريجيًا الدور الأمريكي القيادي في الاقتصاد والسياسة العالميين.
وفي ظل رياح التحولات الكبرى التي تعصف بالنظام العالمي، تتجلى سياسات ترامب تجاه دول البريكس كعلامة فارقة في طبيعة المواجهة المقبلة بين القوى الاقتصادية الكبرى. لم تعد التحديات التي تواجه الاقتصادات الناشئة تنبع من هشاشة داخلية فحسب، بل أصبحت تتجسد في سلوكيات القوى العظمى التي تعيد تعريف قواعد اللعبة وفقًا لمصالحها الآنية.
وبينما تواصل مجموعة البريكس سعيها الحذر نحو تعزيز دورها العالمي، يزداد الضغط عليها من واشنطن، ما يضع هذه الدول أمام اختبار صعب بين الحفاظ على سيادتها الاقتصادية والسعي إلى شراكات بديلة. ما يتضح بجلاء هو أن عصر السيطرة المطلقة للدولار يواجه أولى ملامح التآكل، ليس بفعل بدائل جاهزة، بل نتيجة لسياسات قد تُسرع ولادة نظام نقدي أكثر تنوعًا.
في هذا السياق، لا يكمن التحدي الحقيقي فقط في مقاومة الضغوط الأمريكية، بل في قدرة هذه الاقتصادات الناشئة على بناء نموذج تعاوني قادر على الصمود والمنافسة في عالم شديد التقلب.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك