العدد : ١٧٢٩٦ - الخميس ٣١ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٩٦ - الخميس ٣١ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ صفر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

«الاتجار بالبشر».. وملاحظات في تعميق الوعي بالقضية

بقلم: نبيلة رجب

الثلاثاء ٢٩ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

قد‭ ‬يبدو‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬‮«‬الاتجار‭ ‬بالبشر‮»‬‭ ‬بعيدا،‭ ‬ثقيلا،‭ ‬موصولا‭ ‬بصور‭ ‬لا‭ ‬نراها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬نشرات‭ ‬الأخبار‭ ‬أو‭ ‬وثائقيات‭ ‬التحقيقات‭ ‬الدولية‭. ‬نتخيله‭ ‬يحدث‭ ‬هناك،‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر،‭ ‬وسط‭ ‬عصابات‭ ‬منظمة‭ ‬وظروف‭ ‬قصوى‭ ‬لا‭ ‬تشبه‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬نبقى‭ ‬منتبهين‭ ‬إلى‭ ‬صور‭ ‬أقل‭ ‬وضوحا‭ ‬قد‭ ‬تظهر‭ ‬حولنا،‭ ‬حتى‭ ‬نظل‭ ‬أوفياء‭ ‬لقيمنا‭ ‬الإنسانية،‭ ‬واعين‭ ‬لما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتسلل‭ ‬أحيانا‭ ‬إلى‭ ‬التفاصيل‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬مشوشة‭ ‬وغير‭ ‬مكتملة‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬بلدنا،‭ ‬لله‭ ‬الحمد،‭ ‬قطعت‭ ‬شوطا‭ ‬مشهوداً‭ ‬في‭ ‬مكافحتها‭ ‬لهذه‭ ‬الجريمة‭ ‬وحماية‭ ‬ضحاياها‭ ‬ضمن‭ ‬أطر‭ ‬قانونية‭ ‬ومؤسساتية‭ ‬متقدمة،‭ ‬فإن‭ ‬رفع‭ ‬الوعي‭ ‬المجتمعي‭ ‬يبقى‭ ‬ضروريا،‭ ‬حتى‭ ‬نتمكن‭ ‬جميعا‭ ‬من‭ ‬التعرف‭ ‬إلى‭ ‬الممارسات‭ ‬الرمادية‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تتسلل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نلحظها‭.‬

قبل‭ ‬أشهر،‭ ‬وقعت‭ ‬على‭ ‬خبر‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الصحف‭ ‬المحلية‭ ‬عن‭ ‬تسليم‭ ‬امرأة‭ ‬مطلوبة‭ ‬دوليا‭ ‬بتهمة‭ ‬الاتجار‭ ‬بالبشر،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إدارة‭ ‬الشؤون‭ ‬الدولية‭ ‬في‭ ‬النيابة‭ ‬العامة‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الخبر‭ ‬صادما‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته،‭ ‬لكنه‭ ‬ترك‭ ‬في‭ ‬داخلي‭ ‬شيئا‭ ‬يشبه‭ ‬السؤال،‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يعنيه‭ ‬الاتجار‭ ‬بالبشر‭ ‬حقا؟‭ ‬وهل‭ ‬نحن‭ ‬نملكه‭ ‬فقط‭ ‬كتعريف‭ ‬قانوني‭.. ‬أم‭ ‬أننا‭ ‬نعي‭ ‬أبعاده‭ ‬في‭ ‬واقعنا‭ ‬اليومي‭ ‬بشكل‭ ‬دائم؟

بحسب‭ ‬القانون‭ ‬البحريني‭ ‬رقم‭ (‬1‭) ‬لسنة‭ ‬2008،‭ ‬يُعرّف‭ ‬الاتجار‭ ‬بالبشر‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬تجنيد‭ ‬أو‭ ‬نقل‭ ‬أو‭ ‬استقبال‭ ‬أشخاص‭ ‬باستخدام‭ ‬وسائل‭ ‬مثل‭ ‬الإكراه‭ ‬أو‭ ‬الخداع‭ ‬أو‭ ‬استغلال‭ ‬الحاجة،‭ ‬بهدف‭ ‬الاستغلال،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬القسري،‭ ‬أو‭ ‬الاستعباد،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬نزع‭ ‬الأعضاء‭. ‬والتشديد‭ ‬في‭ ‬العقوبة‭ ‬وارد‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الضحية‭ ‬طفلا،‭ ‬أو‭ ‬كان‭ ‬الجاني‭ ‬ممن‭ ‬لهم‭ ‬سلطة‭ ‬عليها‭.‬

لكن‭ ‬القوانين‭ ‬مهما‭ ‬بلغت‭ ‬دقتها‭ ‬لا‭ ‬تصف‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬حولنا‭. ‬أحيانا،‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يُصنّف‭ ‬قانونيا‭ ‬كجريمة،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬أخلاقيا‭ ‬مقلقا‭. ‬خذ‭ ‬مثلا‭ ‬عاملا‭ ‬يُطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يواصل‭ ‬العمل‭ ‬لساعات‭ ‬دون‭ ‬استراحة،‭ ‬أو‭ ‬عاملة‭ ‬تُمنع‭ ‬من‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬عائلتها،‭ ‬بذريعة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الانضباط‭ ‬داخل‭ ‬البيت‭ ‬أو‭ ‬مكان‭ ‬العمل‭. ‬هذه‭ ‬المواقف‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تندرج‭ ‬تحت‭ ‬بند‭ ‬الاتجار‭ ‬بالبشر،‭ ‬لكنها‭ ‬تمسّ‭ ‬جوهر‭ ‬ما‭ ‬يحاول‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬حمايته‭: ‬الكرامة‭ ‬الإنسانية‭.‬

في‭ ‬قطاعات‭ ‬كخدمات‭ ‬التوصيل،‭ ‬أو‭ ‬النظافة،‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬المهن‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الجهد‭ ‬البدني‭ ‬المستمر،‭ ‬قد‭ ‬يُطلب‭ ‬من‭ ‬العامل‭ ‬ما‭ ‬يتجاوز‭ ‬ما‭ ‬اتُفق‭ ‬عليه،‭ ‬دون‭ ‬شرح‭ ‬كافٍ‭ ‬أو‭ ‬وعي‭ ‬بحقوقه‭. ‬ليس‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬النية‭ ‬السيئة‭ ‬دائما،‭ ‬بل‭ ‬أحيانا‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الاعتياد،‭ ‬أو‭ ‬غياب‭ ‬التنظيم‭. ‬ومع‭ ‬الوقت،‭ ‬تصبح‭ ‬هذه‭ ‬التجاوزات‭ ‬‮«‬أمرا‭ ‬طبيعيا‮»‬،‭ ‬لا‭ ‬تُطرح‭ ‬فيه‭ ‬أسئلة‭.‬

حتى‭ ‬في‭ ‬المساحات‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬حديثة‭ ‬ومفتوحة،‭ ‬مثل‭ ‬التدريب‭ ‬المهني‭ ‬أو‭ ‬الإنتاج‭ ‬الرقمي،‭ ‬قد‭ ‬يجد‭ ‬بعض‭ ‬الشباب‭ ‬أنفسهم‭ ‬يقدمون‭ ‬جهدا‭ ‬حقيقيا‭ ‬دون‭ ‬إشراف‭ ‬واضح‭ ‬أو‭ ‬اتفاق‭ ‬صريح،‭ ‬تحت‭ ‬شعارات‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬كسب‭ ‬الخبرة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬بناء‭ ‬الاسم‮»‬‭. ‬وبينما‭ ‬لا‭ ‬يُنظر‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬التجارب‭ ‬باعتبارها‭ ‬استغلالا‭ ‬مباشرا،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬وضوح،‭ ‬إلى‭ ‬اعتراف‭ ‬بأن‭ ‬العمل‭ ‬أيا‭ ‬كان‭ ‬شكله‭ ‬لا‭ ‬يستقيم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬توازن‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬ومراعاة‭ ‬الطرف‭ ‬الاضعف‭.‬

لست‭ ‬هنا‭ ‬بصدد‭ ‬اتهام‭ ‬أحد،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬محاولة‭ ‬هادئة‭ ‬للبحث‭ ‬في‭ ‬التفاصيل‭ ‬التي‭ ‬تمرّ،‭ ‬أحيانا،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬انتباه‭. ‬مجتمعنا‭ ‬البحريني‭ ‬يعتز‭ ‬بقيم‭ ‬الإنصاف‭ ‬والتراحم،‭ ‬وما‭ ‬يميّزه‭ ‬أن‭ ‬بإمكانه‭ ‬دائما‭ ‬أن‭ ‬يراجع‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬لا‭ ‬لأن‭ ‬القانون‭ ‬يفرض‭ ‬ذلك،‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬الوعي‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يضبط‭ ‬الميزان‭.‬

وبين‭ ‬هذه‭ ‬التجارب‭ ‬الرمادية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقع‭ ‬دائما‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬القانون،‭ ‬تنشأ‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬أوسع‭ ‬لما‭ ‬يحاول‭ ‬النظام‭ ‬القانوني‭ ‬أن‭ ‬يحيط‭ ‬به،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬نغفل‭ ‬عن‭ ‬مقدمات‭ ‬الانتهاك‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬في‭ ‬مهدها‭.‬

وعلى‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر،‭ ‬يحسن‭ ‬أن‭ ‬نتوقف‭ ‬عند‭ ‬جهود‭ ‬الجهات‭ ‬المختصة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬جهود‭ ‬تُبذل‭ ‬عبر‭ ‬وحدة‭ ‬مكافحة‭ ‬الاتجار‭ ‬بالبشر‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الداخلية،‭ ‬والنيابة‭ ‬العامة‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬الشؤون‭ ‬الدولية،‭ ‬التي‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭ ‬ضمن‭ ‬إطار‭ ‬التعاون‭ ‬الدولي‭. ‬هذه‭ ‬التحركات‭ ‬تُشكّل‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬منظومة‭ ‬وقائية‭ ‬أوسع،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تكتمل‭ ‬دون‭ ‬وعي‭ ‬يُشارك‭ ‬فيه‭ ‬المجتمع،‭ ‬ويرى‭ ‬الإنسان‭ ‬قبل‭ ‬الدور،‭ ‬والعدالة‭ ‬قبل‭ ‬الشكل‭.‬

الاتجار‭ ‬بالبشر،‭ ‬كما‭ ‬نتصوره،‭ ‬ليس‭ ‬بالضرورة‭ ‬جريمة‭ ‬واضحة‭ ‬المعالم‭. ‬أحيانا،‭ ‬يبدأ‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬رمادي،‭ ‬بين‭ ‬صمتين،‭ ‬بين‭ ‬علاقة‭ ‬عمل‭ ‬غامضة،‭ ‬أو‭ ‬معاملة‭ ‬غير‭ ‬منصفة‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬يسميها‭. ‬وحين‭ ‬لا‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬الإنسان‭ ‬سوى‭ ‬موقعه‭ ‬أو‭ ‬دوره،‭ ‬فإننا‭ ‬نبتعد‭ ‬عن‭ ‬جوهر‭ ‬إنسانيته‭.‬

حماية‭ ‬الإنسان‭ ‬تبدأ‭ ‬بالقوانين،‭ ‬لكنها‭ ‬تكتمل‭ ‬حين‭ ‬نعترف‭ ‬بأن‭ ‬بعض‭ ‬الهشاشة‭ ‬لا‭ ‬تُرى‭ ‬بسهولة‭. ‬وأن‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬نحتاج‭ ‬إليه‭ ‬اليوم،‭ ‬هو‭ ‬ضوء‭ ‬صغير‭ ‬يبقى‭ ‬مضاءً‭ ‬في‭ ‬زوايا‭ ‬لا‭ ‬يلتفت‭ ‬إليها‭ ‬أحد‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا