قد يبدو هذا المصطلح «الاتجار بالبشر» بعيدا، ثقيلا، موصولا بصور لا نراها إلا في نشرات الأخبار أو وثائقيات التحقيقات الدولية. نتخيله يحدث هناك، في مكان آخر، وسط عصابات منظمة وظروف قصوى لا تشبه ما نراه في حياتنا. ومع ذلك، من المهم أن نبقى منتبهين إلى صور أقل وضوحا قد تظهر حولنا، حتى نظل أوفياء لقيمنا الإنسانية، واعين لما يمكن أن يتسلل أحيانا إلى التفاصيل في صورة مشوشة وغير مكتملة.
وعلى الرغم من أن بلدنا، لله الحمد، قطعت شوطا مشهوداً في مكافحتها لهذه الجريمة وحماية ضحاياها ضمن أطر قانونية ومؤسساتية متقدمة، فإن رفع الوعي المجتمعي يبقى ضروريا، حتى نتمكن جميعا من التعرف إلى الممارسات الرمادية التي قد تتسلل من دون أن نلحظها.
قبل أشهر، وقعت على خبر في إحدى الصحف المحلية عن تسليم امرأة مطلوبة دوليا بتهمة الاتجار بالبشر، وذلك من خلال إدارة الشؤون الدولية في النيابة العامة. لم يكن الخبر صادما في حد ذاته، لكنه ترك في داخلي شيئا يشبه السؤال، ما الذي يعنيه الاتجار بالبشر حقا؟ وهل نحن نملكه فقط كتعريف قانوني.. أم أننا نعي أبعاده في واقعنا اليومي بشكل دائم؟
بحسب القانون البحريني رقم (1) لسنة 2008، يُعرّف الاتجار بالبشر على أنه تجنيد أو نقل أو استقبال أشخاص باستخدام وسائل مثل الإكراه أو الخداع أو استغلال الحاجة، بهدف الاستغلال، سواء في العمل القسري، أو الاستعباد، أو حتى نزع الأعضاء. والتشديد في العقوبة وارد إذا كانت الضحية طفلا، أو كان الجاني ممن لهم سلطة عليها.
لكن القوانين –مهما بلغت دقتها– لا تصف كل ما نراه حولنا. أحيانا، ما لا يُصنّف قانونيا كجريمة، قد يكون أخلاقيا مقلقا. خذ مثلا عاملا يُطلب منه أن يواصل العمل لساعات دون استراحة، أو عاملة تُمنع من التواصل مع عائلتها، بذريعة الحفاظ على الانضباط داخل البيت أو مكان العمل. هذه المواقف قد لا تندرج تحت بند الاتجار بالبشر، لكنها تمسّ جوهر ما يحاول هذا القانون حمايته: الكرامة الإنسانية.
في قطاعات كخدمات التوصيل، أو النظافة، أو غيرها من المهن التي تقوم على الجهد البدني المستمر، قد يُطلب من العامل ما يتجاوز ما اتُفق عليه، دون شرح كافٍ أو وعي بحقوقه. ليس من باب النية السيئة دائما، بل أحيانا من باب الاعتياد، أو غياب التنظيم. ومع الوقت، تصبح هذه التجاوزات «أمرا طبيعيا»، لا تُطرح فيه أسئلة.
حتى في المساحات التي تبدو حديثة ومفتوحة، مثل التدريب المهني أو الإنتاج الرقمي، قد يجد بعض الشباب أنفسهم يقدمون جهدا حقيقيا دون إشراف واضح أو اتفاق صريح، تحت شعارات مثل «كسب الخبرة» أو «بناء الاسم». وبينما لا يُنظر إلى هذه التجارب باعتبارها استغلالا مباشرا، إلا أنها تحتاج إلى وضوح، إلى اعتراف بأن العمل –أيا كان شكله– لا يستقيم من دون توازن في العلاقة ومراعاة الطرف الاضعف.
لست هنا بصدد اتهام أحد، بل على العكس، هذا المقال ليس سوى محاولة هادئة للبحث في التفاصيل التي تمرّ، أحيانا، من دون انتباه. مجتمعنا البحريني يعتز بقيم الإنصاف والتراحم، وما يميّزه أن بإمكانه دائما أن يراجع نفسه من الداخل، لا لأن القانون يفرض ذلك، بل لأن الوعي هو ما يضبط الميزان.
وبين هذه التجارب الرمادية التي لا تقع دائما تحت مظلة القانون، تنشأ الحاجة إلى فهم أوسع لما يحاول النظام القانوني أن يحيط به، حتى لا نغفل عن مقدمات الانتهاك وهي لا تزال في مهدها.
وعلى الجانب الآخر، يحسن أن نتوقف عند جهود الجهات المختصة، من خلال جهود تُبذل عبر وحدة مكافحة الاتجار بالبشر في وزارة الداخلية، والنيابة العامة ممثلة في إدارة الشؤون الدولية، التي تتعامل مع هذه القضايا ضمن إطار التعاون الدولي. هذه التحركات تُشكّل جزءًا من منظومة وقائية أوسع، لكنها لا تكتمل دون وعي يُشارك فيه المجتمع، ويرى الإنسان قبل الدور، والعدالة قبل الشكل.
الاتجار بالبشر، كما نتصوره، ليس بالضرورة جريمة واضحة المعالم. أحيانا، يبدأ في مكان رمادي، بين صمتين، بين علاقة عمل غامضة، أو معاملة غير منصفة لا تجد من يسميها. وحين لا نرى في الإنسان سوى موقعه أو دوره، فإننا نبتعد عن جوهر إنسانيته.
حماية الإنسان تبدأ بالقوانين، لكنها تكتمل حين نعترف بأن بعض الهشاشة لا تُرى بسهولة. وأن أكثر ما نحتاج إليه اليوم، هو ضوء صغير يبقى مضاءً في زوايا لا يلتفت إليها أحد.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك