يتخبط الطرف الشمالي من العالم العربي في حالة من الفوضى العارمة أنى نظرنا إلى هذا الجزء المضطرب. في الأثناء نجد أن بعض السياسيين الأمريكيين، الذين يحاكون الموقف الإسرائيلي، يتحدثون بعفوية (وبشكلٍ غير صادق) عن مخاض نظام إقليمي متحول أو جديد.
وفي الواقع، فقد ازداد الوضع سوءًا في هذه المنطقة من العالم. فقد صعّدت إسرائيل حربها على الفلسطينيين في قطاع غزة، واستولت على الأراضي التي تحتلها في الضفة الغربية بمنتهى العنف والعدوانية، كما ظلت تقصف لبنان وسوريا قصفا مدمرا.
في هذه الأثناء، يفتقر الفلسطينيون إلى قيادة مُلهمة قادرة على طرح رؤية استراتيجية، بل إنهم ما يزالون غارقون في وحل الإيديولوجيات الفاشلة أو هياكل الحكم المفروضة.
قبل أن يتحدث أي أحد عن تحول منطقة الشرق الأوسط، لا بد من حدوث أمرين: يجب وقف احتلال إسرائيل وسياساتها العدوانية الوحشية الخارجة عن السيطرة، ويجب ظهور قيادة عربية جديدة قادرة على طرح رؤية مستقبلية قادرة على إلهام وتحويل السياسة في لبنان وسوريا وفلسطين.
يُذكرني هذا النقاش حول الرؤية باجتماعٍ عُقد قبل عقدٍ من الزمان في مكتبي مع رئيس الائتلاف الوطني السوري. كان حديثنا لطيفًا، وإن كان لا يُنسى، حتى أنه أوشك يومها على المغادرة. فقد توقف برهة عند الباب والتفت ليسألني: «ما هي رؤيتك بعيدة المدى للمنطقة – من العراق إلى لبنان؟ وماذا تتوقع لنا في السنوات الثلاث المقبلة؟».
هذه هي الأسئلة تحديدًا التي ينبغي أن يطرحها ويجيب عنها القادة على جميع مستويات الحكومة والمجتمع المدني في جميع أنحاء الشرق الأوسط. من الأهمية بمكان أن تكون لدينا رؤية استراتيجية شاملة للمستقبل تُجسّد قيم وتطلعات شعوبنا. ومن المهم أيضًا أن نتمكن من استشراف كيفية تنفيذ هذه الرؤية على المدى القصير.
وكان رد فعلي الأولي متسرعا بعض الشيء، حيث قلت إنني إذا نظرت إلى المستقبل بعد مائة عام، أستطيع أن أتخيل شابا عربيا من عمان يتزوج فتاة إسرائيلية من تل أبيب ويحصل على وظيفة ويستقر في ضواحي دمشق.
استدركت الأمر وأضفت بسرعة أن ما قصدته هو أنني أتخيل منطقة تعيش في سلام مع نفسها، مع مجتمعات متكاملة، واقتصادات، وحدود مفتوحة (أو بدون حدود على الإطلاق) تسمح بحرية حركة الناس والتجارة.
وبالنظر إلى الحروب الدامية التي شهدتها العقود الماضية والاضطرابات والتوترات المستمرة، قد تبدو هذه الرؤية ضربًا من الخيال، وسيذهب المتشائمون إلى حد القول بأنه ليس من طبيعة أيٍّ من الجانبين قبول السلام أو التكامل.
لكنني مقتنع في قرارة نفسي بأن أصحاب هذا الموقف المتشائم مخطئون إذ لا توجد فئة من الناس مُعرضة عن السلام والتكامل بشكل خاص، كما أنه لا يوجد شعب بمنأى عن ضغوط التاريخ الحتمية.
وفي هذا الصدد، ليست منطقة الشرق الأوسط استثناءً. صحيح أن هذه المنطقة ظلت تعاني من الحروب والاضطرابات، ولكن أي منطقة من العالم لم تُبتلى بهذا القدر؟ لقد انتشر اليأس نفسه في جميع أنحاء أوروبا.
كانت تلك القارة العجوز، على مدى قرون من التاريخ، مسرحًا لصراعات دامية بين الأمم والطوائف، بلغت ذروتها في الحربين العالميتين المدمرتين في القرن العشرين. فمن كان ليتخيل، في خضم تلك الأهوال، أن أوروبا ستنعم بالسلام وتتصالح يوما مع نفسها؟
في العقود القليلة الماضية، شكلت أوروبا اتحادًا اقتصاديًا، ثم أنهت حربًا باردة قسمت القارة. ورغم أنها لم تصل بعد إلى «اتحاد مثالي»، فإن التحولات العميقة والإيجابية التي حدثت ولا تزال تتكشف في تلك المنطقة التي كانت تعاني من أزمات لا يمكن تجاهلها.
المهم هو أن يُمنح الناس، في خضم الصراع، رؤيةً للمستقبل وإمكانية التغيير، حتى لا يستسلموا لليأس. إن بثّ هذه الرؤية من شأنه أن يُلهم المجتمعات ويحفزها على المضي قدمًا، رافضًة الشلل الناتج عن الشعور بالحصار في «حقائق» الحاضر.
ومن خلال عرض رؤية تقدمية للمستقبل، يصبح القادة قادرين أيضاً على تقديم تباين صارخ بين فكرة العالم الذي يسعون إلى بنائه والمفاهيم التي يدافع عنها أولئك الذين يعملون من دون أن تكون لهم مثل هذه الرؤية. عند تطبيق ذلك على الصراعات الدائرة في بلاد الشام، تتضح الصورة أكثر.
على سبيل المثال، ما هي رؤى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أو حماس للمستقبل؟ ومن سيرغب في العيش في المستقبل الذي رسمته القيادة السورية السابقة أو الحالية؟
هل هناك من يأمل أن يظل لبنان بعد مائة عام من الآن مقسماً على أسس طائفية، مع احتكار السلطة في أيدي نفس العائلات التي حكمت عشائرها أو مناطقها طيلة القرن الماضي؟
إن الرؤية التقدمية للمستقبل تُمكّن المرء من تحدي أولئك الذين لا يستطيعون التفكير خارج حدود قيود الحاضر المُغلقة. إنها ترفض أولئك الذين يسعون، لأسباب تتعلق بالسلطة والامتياز الشخصي، إلى تجميد الواقع الحالي أو رفعه إلى مصافّ الأبدية، وأولئك الذين تدفعهم تفسيراتهم للدين إلى تصور المستقبل كعودة إلى ماضٍ مثالي.
إن التفكير في المستقبل يعني ألا نصنع «أصنامًا زائفة» للماضي أو الحاضر، أو أن نصبح متكبرين لدرجة أن نُسقط إيديولوجياتنا على البعد الديني، سعيًا لتبرير أهوائنا وخيالاتنا. كما يتطلب منا رفض إغراء استخدام وسائل تتعارض مع الغايات التي نسعى لتحقيقها.
هذا يدفعني إلى التفكير في السؤال الثاني الذي طرحه صديقي السوري، والذي لا يقل أهمية: تصور المشرق بعد ثلاث سنوات. هذا التحدي الأصعب يُجبرنا على مواجهة قيود الحاضر مباشرةً.
أعتقد أنه بعد مائة عام من الآن، لن يكون هناك «أسد» معاصر على الساحة، ولا متعصبون يسيئون معاملة «الأقل نقاءً»، ولا زعماء عشائر أو قوميون متطرفون – تحديدًا الشخصيات التي تُحدد ملامح الحياة اليوم. يجب دحر هؤلاء لكن المهم هو كيف يتحقق ذلك.
لهذا السبب، تُعدُّ الرؤية المستقبلية القائمة على القيم أمرًا بالغ الأهمية. فمحاربة الشر بالشر، والقمع بالقمع، والتعصب بالتعصب، كلها خيارات خاسرة. الأفكار الجديدة مهمة، وكذلك وسائل تجسيدها.
أشكر صديقي السوري على أسئلته القيّمة وعلى النقاش الذي أعقبها. لقد أتاحت لنا فرصةً للتأمل في الوسائل والغايات والأهداف. إن مجرد طرحه لهذه الأسئلة جعلني أُقدّر قيادته. أتمنى لو أُطرح هذا التحدي على قادة آخرين، على جميع المستويات، في جميع أنحاء بلاد الشام. ستكون إجاباتهم بلا شك قيّمة.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك