نجح الرئيس ترامب في اقناع الشعب الأمريكي أثناء حملته الانتخابية الرئاسية لعام 2016 بأن جهوده وسياساته ستتوجه كلياً نحو المواطن وبعيداً عن الاهتمامات والدعم للدول والمنظمات الأممية والأجنبية، وسيكون المواطن الأمريكي هو الأساس الذي يبني عليه كل قراراته ومواقفه. ولذلك رفع شعار «أمريكا أولاً»، وأسس حركة شعبوية أَطلق عليها «لنجعل أمريكا عظيمة مرة ثانية» (MAGA). وهذه العقيدة والسياسة التي تبناها ترامب تكررت مرة ثانية عندما رشح نفسه للدخول في البيت الأبيض مرة ثانية بعد أن فشل في هزيمة بايدن في الانتخابات الرئاسية عام 2020.
ولكن هذه الفكرة ليست وليدة هذه الحقبة الزمنية من التاريخ الأمريكي، وليست من الإبداعات السياسية الجديدة والفريدة للرئيس ترامب، ولم تكن ايحاءً من عقل ترامب وثقافته، وإنما هي فكرة وحركة قديمة ضاربة في أعماق التاريخ الأمريكي. فقد رفع الرئيس الأمريكي الأسبق «وودرو ويلسون» شعار أمريكا أولاً أثناء حملته الانتخابية الرئاسية عام 1916 من أجل تجنيب أمريكا الدخول في الحروب الخارجية، ثم تَرَدد هذا الشعار مرة ثانية، وتشكلت لجنة أمريكية اتحادية خاصة في الرابع من سبتمبر 1940 لمنع أمريكا من الدخول في الحرب العالمية الثانية تحت مسمى: «حركة أمريكا أولاً».
ومن أجل أن يفي ترامب بوعوده أثناء حملاته الانتخابية أمام الشعب الأمريكي، ومن أجل أن يحول الأقوال والشعارات إلى أفعال وأعمال، فقد انسحب من بعض المعاهدات الدولية التابعة للأمم المتحدة، مثل انسحابه مرتين من تفاهمات باريس لعام 2015 المتعلقة بالتغير المناخي، والخروج من بعض المنظمات الأممية، كمنظمة الصحة العالمية، إضافة إلى وقف الدعم المالي لبعض المنظمات الخارجية والمساعدات التي تقدمها أمريكا تحت مسمى: «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية» (USAID).
ولكن تبين مع الوقت أن الكثير من هذه القرارات التي اتخذها، والأعمال التي قام بها «مسيسة»، وتدخل في أجندة خاصة به، وبقناعاته الشخصية، ولا تتوافق كلها مع شعار «أمريكا أولاً»، بحيث تشمل التعامل مع كافة الدول والمنظمات بالمساواة وجعل الهم الأمريكي فوق كل شيء مع الجميع من دون استثناء. فقد أكد المحللون السياسيون، وبعض التابعين والموالين لحركة «لنجعل أمريكا عظيمة مرة ثانية»، أن هناك انحرافاً قد وقع على سياسة ترامب، وأن تركيزه لم ينصب كلياً على «أمريكا أولاً» وعلى المبادئ والعقيدة التي قامت عليها، فقد دخلت فيها شوائب سياسية أعطت أولوية واهتماماً شديداً وكبيراً ولافت للنظر للصهاينة، وبالتحديد الدولة اليهودية الصهيونية، حتى أن الاهتمام بهذه الدولة طغى على الاهتمام بالشعب الأمريكي، أي في تقديري فإن شعار «أمريكا أولاً» قد استُبدل بشعار جديد هو «إسرائيل أولاً».
وهذه السياسة في الاهتمام والعناية بإسرائيل ليست جديدة على الحكومات الأمريكية المتعاقبة، ولكنها بين مد وجزر، وزيادة ونقصان، وتتغير في شدتها ودعمها من رئيس أمريكي إلى آخر. فكلهم يتفقون على رعاية هذا الورم الصهيوني الخبيث الذي زرعوه في قلب الأمة العربية، وذلك بالدعم المالي والعسكري والدبلوماسي.
ولذلك عندما قاطع العرب الكيان الصهيوني سياسياً وتجارياً واقتصادياً قامت أمريكا فوراً بسن تشريعات تواجه المقاطعة العربية وتخفف من تأثيراتها، مثل قانون: «إدارة الصادرات»
(Export Administration Act) لعام 1979، وقانون: «بنك الاستيراد والتصدير» (Export- Import Bank Act)، ثم في عام 2017 بدأت سياسة «إسرائيل أولاً» تتضح أكثر عندما أقرت أمريكا قانون: (مكافحة المقاطعة لإسرائيل) أو (مناهضة مقاطعة إسرائيل) (Israel Anti-Boycott Act). وفي هذا القانون الغريب يُفضل إسرائيل والشركات الصهيونية الإسرائيلية على الشعب الأمريكي وشركاته، كما يقيد حرية الاختيار والرأي والتعبير للمواطن الأمريكي والمكفولة في التعديل الأول للدستور الأمريكي. فهذا القانون يجرم ويعاقب ويغرم كل من يقاطع إسرائيل، أو يدعو إلى مقاطعتها، وكل من يقاطع الشركات الإسرائيلية، حتى الموجودة في المستوطنات المخالفة للقوانين الدولية. فبعبارة أخرى يحق للأمريكي مقاطعة فرد أمريكي آخر، أو شركة أمريكية، أو جامعة، أو بضاعة أمريكية، أو حتى أية ولاية أمريكية، ولكن حسب هذا القانون لا يحق له في الوقت نفسه، بل ويعاقب، إذا قاطع إسرائيل، أو أي شيء من إسرائيل.
واليوم جاء ترامب ليعزز هذه الثقافة ويقويها، ويحمي هذه الفكرة ويدعمها بكل ما أوتي من قوة تنفيذية، وقوة تشريعية، وقوة مالية. فهو يقوم الآن بتنفيذ عدة سياسات صهيونية في آن واحد، فالأولى تبَني سياسة تجريم «معاداة السامية»، والثانية تجريم «معاداة الصهيونية»، حيث جعل معاداة الصهيونية في مرتبة معاداة السامية، ولم يفرق بينهما كفكر وإيديولوجية مختلفة، ثم المرحلة الثالثة والخطيرة جداً هي تجريم «معاداة إسرائيل» بأي صورة كانت، فانتقاد أو الدعوة لانتقاد إسرائيل فيه عقاب أليم، وإبداء أي رأي يشوه سمعة إسرائيل ويتهمها بالإبادة الجماعية الشاملة، أو جرائم ضد الإنسانية، وخاصة بعد السابع من أكتوبر 2023، أيضاً قد يدخل صاحبه في متاهات العقوبات والسجن. وكل هذا يعني ويؤشر بما لا يدعو الى الشك بأن أفعال ترامب وسياساته التنفيذية تقول إن «إسرائيل أولاً»، و «أمريكا ثانياً». والأدهى من ذلك كله والأمر أن ترامب لا يسعى إلى تنفيذ هذه السياسة على المستوى الاتحادي فحسب وإنما يفرض تعميمها على المستوى الدولي على حدٍ سواء. فترامب يعمل على مقاطعة ومعاقبة كل دولة ذات سيادة، وكل منظمة أممية تعمل تحت إشراف الأمم المتحدة، وكل اتحاد وتكتل سياسي أو اقتصادي في حالة أنها أبدت رأيها، أو اتخذت أي إجراء يمس شعرة من إسرائيل. فعلى سبيل المثال لا الحصر أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية في 6 يوليو 2025 قراراً بفرض عقوبات ومقاطعة المسؤولة الأممية والمقررة الخاصة لمجلس حقوق الإنسان حول الضفة الغربية وغزة «فرانشيسكا ألبانيز»، فقط لأنها كتبت تقريراً ضد ممارسات الإبادة الشاملة للكيان الصهيوني في غزة والضفة الغربية.
فهذا القرار الأمريكي المتحيز والجائر يؤكد عدم اعتراف ترامب بالشرعية الدولية، والقوانين الدولية ومنظماتها، كما يضع الكيان الصهيوني فوق القانون الدولي، فلا رقابة، ولا محاسبة، ولا عقاب، بل يعاقب كل من يجرؤ على الكتابة ضد ممارسات الصهاينة، من أفراد، أو حكومات دول، أو منظمات أممية. كما هدَّدت أمريكا، ممثلة في المستشار القانوني لوزارة الخارجية في 8 يوليو 2025، وبأسلوب وكلمات وعبارات واضحة وصريحة جداً في اجتماع دولي لأعضاء محكمة الجنايات الدولية، بأن على المحكمة سحب وإلغاء جميع التحقيقات ومذكرات الاعتقال الصادرة بحق نتنياهو ووزير الدفاع في 21 نوفمبر 2024، وحذَّر المسؤول الأمريكي المجتمع الدولي».
فسياسة إسرائيل أولاً وأمريكا ثانياً تتضح يوماً بعد يوم على مستوى الولايات كلٌّ على حدة، وعلى المستوى الاتحادي، فهناك حتى اليوم 38 ولاية أمريكية قامت بتمرير تشريعات وقرارات تنفيذية تهدف إلى «منع مقاطعة إسرائيل»، آخرها كان في 7 يوليو 2025 عندما أعلنت حاكمة ولاية «إيوا» عن توقيع أمر تنفيذي حول معادة السامية ودعم إسرائيل في «قمة معاداة السامية ودعم إسرائيل» التي عُقدت في 6 يوليو بمدينة كنساس سيتي بولاية ميسوري، والبقية من الولايات سيأتي عليها الدور.
وهذه الجهود التي يقف وراءها اللوبي اليهودي الصهيوني في أمريكا، وبالتحديد «لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية» (إيبك)، وينفذها ترامب تتصاعد سنة بعد سنة، وتتسع دائرة تنفيذها، وربما يوماً ما إذا صمت العالم ولم يقف ضدها فستتخطى هذه القوانين دائرة أمريكا، أي أن الهدف النهائي في تقديري بأن دول العالم، ومنظمات الأمم المتحدة يسمح لها بانتقاد ممارسات أي فرد، أو جماعة، أو دولة، ولكن يُحرم عليهم جميعاً وبصفة قطعية انتقاد الكيان الصهيوني مهما فعل.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك