على مدى اثنين وعشرين شهراً تقريباً، تعودنا على أن تسارع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية إلى إبداء التفاؤل الحذر والعادي والمتحفظ وغير المتحفظ بقرب التوصل إلى هدنة لوقف إطلاق النار، وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وتبدأ الأخبار السارة تتلاحق تباعاً لتأكيد هذا التفاؤل وترسيخه، وذلك على مدى أسبوع او أسبوعين، ثم ينتهي هذا التفاؤل من دون أي نتيجة، وخلال ذلك كله طبعاً يتم اتهام الطرف الفلسطيني بالتشدد وعدم التعاطي مع المرونة الإسرائيلية، وفي النهاية تتم معاقبة هذا الطرف على عدم ليونته أو مرونته، هذا «الفيلم» تكرر كثيراً خلال الفترة السابقة ولا يزال حتى كتابة هذه السطور، فما دوافع هذا وأسبابه وأهدافه أيضاً؟ نحاول هنا أن نفكك ملامح هذه الظاهرة قدر المستطاع.
أولاً: إن إبداء التفاؤل وإشاعته بقرب التوصل إلى تسوية تعمي العيون عن عشرات الشهداء الذين يسقطون في القصف والحرق والتدمير وأمام مراكز التوزيع، يصبح كل هذا مجرد تفاصيل أو ضرائب مستحقة، لأن هناك تفاؤلاً، إشاعة هذا الجو من ترقب التسوية تقوم بعملية مريعة، وهي تطبيع العين والسمع والقلب للمشاهد الفظيعة والكوارث المتلاحقة في قطاع غزة، أي يصبح الخبر هو التفاؤل وليس القتل وآلته، وهذه عملية إعلامية معروفة بتحويل الانتباه وتغيير الأولويات.
ثانياً: لا علاقة لإشاعة جو التفاؤل وحقيقة ما يجري من مفاوضات، وهذا يمكن إثباته من خلال تكذيب الطرف الفلسطيني لما يقال، ولامتناع الوساطات العربية عن تأكيده أيضاً، أي أن من يعرب عن التفاؤل هما الطرف الأمريكي والإسرائيلي فقط، وذلك لأهداف محلية، فمن جهة إسرائيل، يريد نتنياهو أن يقول لجمهوره إنه جاد في التفاوض، ولكن الطرف الفلسطيني هو الذي يرفض، أما الأمريكي فيريد أيضاً أن يحصد إنجازات وهمية تقوم على محادثات ثنائية مع الإسرائيلي أولاً، والوهم بإمكانية ممارسة ضغوط لا قبل لأحد بها ثانياً.
تفاؤل الأمريكي تفاؤل متسرع وساذج ويقوم على وهم أن لا أحد يستطيع رفض مطالبه أو شروطه، رغم أن هذا الأمريكي ظهر في عدة مناسبات أنه ضعيف جداً ومحكوم من جانب اللوبيات الصهيونية بطريقة مهينة.
ثالثاً: الهدف الأهم ربما من مكيدة التفاؤل هي شيطنة الطرف الفلسطيني وإظهاره أمام جمهوره والعالم بأنه المتطرف والعنيد الذي لا يتعاطى بمرونة مع المقترحات التي «تتعدل» بشكل مسرحي. التفاؤل هنا وسيلة أخرى من وسائل الحصار والشيطنة والتعرية للطرف الفلسطيني بإظهاره وكأنه يرغب في الانتحار، أو أنه لا يريد الاعتراف بالهزيمة، أو كأنه لا يرضخ لضغوط الأصدقاء ولا لضغوط الميدان.
إن المسارعة لإظهار التفاؤل وتسريب الأخبار التي تؤكده دون دليل أو تأكيد من الأطراف الأخرى يعني أن هذا التفاؤل جزء من عملية التفاوض وتضييق أطرافها وتحويلها إلى أداة إعلامية ونفسية ضاغطة على الأطراف جميعاً وليس على الطرف الفلسطيني فقط.
رابعاً: استخدام مكيدة التفاؤل متعدد المستويات، فهي كسب للوقت لإطالة الحرب، وبذر للخلاف بين الأطراف الأخرى، ومحاولة ابتزازها وضرب بعضها ببعض، وإحباط الجمهور ودفعه إلى اليأس ولوم الطرف الفلسطيني وتحميله مسؤولية الفشل، وظهور المتفائل بالصورة الإنسانية الرفيعة المستعدة «للتنازل» فيما الطرف الآخر هو المتطرف الرافض «للسلام».
كما أن مكيدة التفاؤل هنا تلعب دوراً أساسياً في التضليل الإعلامي والسياسي والأمني، والتخدير والإحباط وإشاعة الفوضى، وهي حالة مفضلة للحكومة الإسرائيلية الحالية لاختطاف القرار وصناعته، وهي حالة التقطتها عائلات الأسرى الإسرائيليين، فضلاً عن الشارع، حيث تتهم نتنياهو دائماً بأنه «كذاب».
{ رئيس مركز الدراسات
المستقبلية في جامعة القدس
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك