منذ عودته إلى البيت الأبيض في مطلع عام 2025، انتهج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سياسة خارجية تصادمية تجاه النظام الدولي، ضاربًا بعقود من التعاون والتعددية عرض الحائط. وفي خضم هذه التحولات، باتت المؤسسات الدولية، ولا سيما الإنسانية والتنموية منها، ضحية مباشرة لنهج «أمريكا أولاً»، مما أثار تساؤلات جوهرية حول مستقبل المساعدات العالمية والدور الأمريكي القيادي فيها.
في ظل التحولات العميقة التي يشهدها النظام الدولي، أعادت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد عودته إلى البيت الأبيض في يناير 2025، تموضع الولايات المتحدة على الساحة العالمية من خلال نهج يتسم بالانعزالية والمواجهة مع المؤسسات الدولية، مكرّسة بذلك شعار «أمريكا أولاً» الذي لطالما شكّل حجر الزاوية في خطاب ترامب السياسي. غير أن هذه السياسات التصادمية لم تقتصر على الإعلانات الرمزية، بل اتخذت أشكالًا عملية أثّرت بعمق على طبيعة المساعدات الإنسانية والتنموية التي لطالما قادتها واشنطن في العقود الماضية، ما أدى إلى هزات عنيفة في بنية النظام الإنساني الدولي وترك ملايين الفقراء حول العالم من دون دعم أو حماية.
جاءت أولى الخطوات التصعيدية بقرار إدارة ترامب قطع العلاقات مع منظمة الصحة العالمية، ثم الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ للمرة الثانية، ما شكّل مؤشرًا مبكرًا إلى عزم الإدارة على إعادة النظر في مجمل التزاماتها الدولية. وقد أمر الرئيس ترامب وزارة الخارجية بإجراء مراجعة شاملة خلال 90 يومًا لكافة العلاقات والاتفاقيات الدولية التي تشارك فيها الولايات المتحدة، مع توجيه واضح بإنهاء التعاون مع أي جهة تُعد في نظر الإدارة غير مفيدة للمصالح الأمريكية. هذه الخطوات أثارت انتقادات واسعة من قبل مسؤولين ومراقبين غربيين، ووصفت بأنها تضرب النظام الدولي في مقتل. واعتبر ستيوارت باتريك، مدير برنامج النظام العالمي في مؤسسة كارنيجي، أن هذه التحركات «مضللة وخطيرة»، في إشارة إلى حجم الخسائر التي قد تنجم عنها على صعيد الحوكمة العالمية والمساعدات الإنسانية.
مع اقتراب موعد انتهاء فترة المراجعة التي أمر بها ترامب، يترقب العالم قرارات مصيرية قد تُغيّر ملامح الدور الأمريكي في العالم. وتشير دلائل مبكرة إلى أن إدارة ترامب لن تكتفي بخفض المساهمات المالية، بل تسير نحو خطوات أكثر راديكالية، من ضمنها الانسحاب المرتقب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، للمرة الثالثة، بحجة أن الوكالة «تروّج لأجندات لا تخدم المصالح القومية الأمريكية». وقد وجّهت الإدارة اتهامات غير مدعومة إلى اليونسكو بتشجيع «قضايا ثقافية واجتماعية مثيرة للانقسام»، وهي مزاعم انتُقدت على نطاق واسع من قبل خبراء العلاقات الدولية.
وترى هيذر هورلبورت، الباحثة في المعهد الملكي للشؤون الدولية، أن نتائج هذه المراجعة ستكون اختبارًا مفصليًا لجميع المعاهدات والمؤسسات التي تشارك فيها واشنطن. وبينما يعاني العالم من أزمات متلاحقة في الصحة والمناخ والفقر والنزاعات، فإن أي تراجع من قبل الولايات المتحدة عن دعم المؤسسات الدولية يُنذر بكارثة إنسانية واسعة النطاق. وقد بدأت بالفعل تداعيات هذه السياسات تظهر بوضوح، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، حيث أدى وقف التمويل الأمريكي لوكالة الأونروا إلى تعطيل خدمات أساسية لملايين اللاجئين الفلسطينيين، ما فاقم الوضع الإنساني في أعقاب الهجوم الإسرائيلي الواسع على غزة منذ أكتوبر 2023، والذي حظي بدعم غير مشروط من إدارة ترامب، على حساب المبادئ الإنسانية الأساسية.
وفي سياق متصل، أصدرت إدارة ترامب أمرًا تنفيذيًا في يناير 2025 لإعادة هيكلة مساعدات التنمية الأمريكية، وقد أسفر ذلك عن تقليص ميزانية الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بنسبة 83% وتسريح أكثر من 94% من موظفيها. هذه الخطوة تُمثل انهيارًا فعليًا لمنظومة الدعم الإنساني الخارجي الأمريكي، خصوصًا أن الوكالة كانت مسؤولة عن برامج إنقاذ حياة امتدت لعقود، حيث أشارت دراسة نُشرت في مجلة «لانسيت» إلى أن هذه البرامج أسهمت في إنقاذ أكثر من 90 مليون شخص خلال العقدين الماضيين، وأن التخفيضات الجديدة قد تؤدي إلى وفاة ما يقرب من 14 مليون شخص بحلول 2030 نتيجة نقص المساعدات.
وقد شملت المراجعة أيضًا مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الذي قررت واشنطن الانسحاب منه بدعوى «التحيّز»، إلى جانب منظمة الأونروا التي توقف تمويلها، في حين باتت اليونسكو على وشك خسارة دعم واشنطن بشكل كامل. وتُشير الاتهامات التي تطلقها الإدارة الأمريكية إلى أن هذه المؤسسات الدولية «تعادي إسرائيل» و«تخالف السياسة الخارجية الأمريكية»، بينما يرى مراقبون أن الدافع الحقيقي وراء هذه السياسات هو اعتراف اليونسكو بفلسطين كعضو كامل عام 2011، وهو الأمر الذي لم تتقبله الإدارات الجمهورية المتعاقبة.
إن الاتهامات الأمريكية لهذه المؤسسات تتّخذ طابعًا سياسيًا أكثر من كونها مهنية، إذ تزعم الخارجية الأمريكية أن أجندات الأمم المتحدة في التنمية المستدامة وحقوق الإنسان «لا تتماشى مع المصالح الأمريكية»، متجاهلة في ذلك أن هذه الأجندات تشمل قضايا إنسانية مثل القضاء على الجوع والفقر وتعزيز التعليم والصحة. وبدلًا من أن تلعب واشنطن دورًا قياديًا في هذه القضايا كما في السابق، باتت إدارة ترامب تسعى إلى تقويضها. وقد عزّز ترامب هذا التوجه مؤخرًا من خلال فرض رسوم إضافية على السياح الأجانب الراغبين في زيارة المتنزهات الوطنية المصنفة كمواقع تراث عالمي، مبررًا ذلك بأن هذه المتنزهات أيضًا يجب أن «تجسد شعار أمريكا أولًا».
كما استُخدم اتهام المؤسسات الدولية بـ«معاداة السامية» لتبرير الانسحاب من اليونسكو، رغم أن هذه الاتهامات لا تستند إلى أدلة واضحة، وتستهدف بالأساس المواقف التي عبّرت عنها اليونسكو لصالح حقوق الفلسطينيين. ويبدو أن هذا النهج أصبح جزءًا من العقيدة السياسية للحزب الجمهوري، خاصة بعد إطلاق «مشروع 2025» الذي يُنظّر لإعادة تشكيل الدولة الفيدرالية على أسس أكثر قومية وتشددًا، ويتضمن انسحابًا من عدد من المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتجميد الالتزام بمعاهدات دولية لم يُصادق عليها الكونغرس.
إن الميزانية المقترحة لإدارة ترامب لعام 2026 تعكس هذا التوجه بوضوح، حيث تتضمن خفضًا حادًا بنسبة 83% في المساهمات الأمريكية للمنظمات الدولية، إلى جانب تقليص بنسبة 93% في دعم بعثات حفظ السلام. هذه التخفيضات الكبيرة لن تُضعف فقط المنظومة الأممية، بل ستُسهم في تقليص قدرة المجتمعات النامية على الاستجابة للأزمات الصحية والبيئية والتعليمية، ما يعمّق الفجوة بين الشمال والجنوب ويزيد من مخاطر النزوح والفقر وعدم الاستقرار.
وقد أعربت منظمات أمريكية ودولية، مثل «تحالف القيادة العالمية الأمريكية»، عن قلقها من أن هذه التخفيضات تهدد مكانة الولايات المتحدة العالمية، وتُضعف نفوذها في مواجهة قوى مثل الصين التي تستثمر بقوة في «القوة الناعمة» وتعزيز حضورها في المؤسسات متعددة الأطراف. وعبّر ديفيد تي. كيليون، الممثل الأمريكي السابق لدى اليونسكو، عن أسفه لانحسار الدور الثقافي الأمريكي، بينما حذّرت الصحفية مارا هفيستندال من أن الفراغ الذي تخلّفه أمريكا سيملأه منافسوها بسرعة.
ومن جهة أخرى، رفضت إدارة ترامب علنًا الإصلاحات المقترحة على اللوائح الصحية الدولية بعد جائحة كوفيد-19، ما أثار انتقادات حادة من خبراء الصحة العالميين، خاصة في ظل دروس الجائحة التي أودت بحياة أكثر من 70 مليون شخص حول العالم. فقد اتهم وزراء في الإدارة الجديدة منظمة الصحة العالمية بمحاولة فرض سياسات داخلية على أمريكا، في تجاهل تام لحقيقة أن التنسيق العالمي هو السبيل الوحيد لمواجهة أوبئة مستقبلية محتملة.
وفي 17 يوليو 2025، أُغلِقت رسميًا الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، لتكون أول وكالة اتحادية يتم حلها بالكامل منذ عقود. ورغم محاولات بعض الأطراف الدولية سدّ هذا الفراغ، لا يبدو أن المساعدات الأوروبية وحدها قادرة على تعويض هذا الانسحاب الأمريكي، خاصة مع بروز مظاهر ازدواجية المعايير لدى الحكومات الغربية في تعاطيها مع القضايا الإنسانية، كما في حالة دعمها لأوكرانيا في وجه الغزو الروسي، مقابل صمتها المطبق تجاه الكارثة الإنسانية في غزة.
وفي خضم هذا التراجع الأمريكي غير المسبوق عن الالتزامات الدولية، تزداد المخاوف من أن يؤدي هذا النهج إلى تفكك تدريجي للنظام متعدد الأطراف، وإضعاف أدوات القانون الدولي، وترك ملايين البشر عرضة للفقر، والمرض، والتهميش. ومع بقاء أسئلة حاسمة مطروحة حول مدى استعداد المجتمع الدولي لمواجهة هذا الانكماش الأمريكي، تتكشف ملامح مرحلة جديدة من الاضطراب في العلاقات الدولية، حيث تُصبح المصالح الضيقة للدول الكبرى مهيمنة على حساب التضامن الإنساني العالمي.
بينما تواصل إدارة ترامب تقليص التزاماتها تجاه العالم، تتفاقم الأزمات الإنسانية في غياب أكبر ممول دولي تقليدي. وإذا استمرت هذه السياسات دون توازن دولي بديل، فقد يشهد العالم تراجعًا خطيرًا في آليات الإغاثة والتنمية، ويُفتح المجال لقوى بديلة لصياغة نظام عالمي جديد، لا يُلزم بالضرورة بمبادئ العدالة والإنسانية التي لطالما ادّعتها واشنطن.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك