العدد : ١٧٢٩٣ - الاثنين ٢٨ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٣ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٩٣ - الاثنين ٢٨ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٣ صفر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

انسحاب ترامب من المؤسسات الدولية وتأثيراته على المساعدات الإنسانية

مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية

الاثنين ٢٨ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

منذ‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬عام‭ ‬2025،‭ ‬انتهج‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬سياسة‭ ‬خارجية‭ ‬تصادمية‭ ‬تجاه‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬ضاربًا‭ ‬بعقود‭ ‬من‭ ‬التعاون‭ ‬والتعددية‭ ‬عرض‭ ‬الحائط‭. ‬وفي‭ ‬خضم‭ ‬هذه‭ ‬التحولات،‭ ‬باتت‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬الإنسانية‭ ‬والتنموية‭ ‬منها،‭ ‬ضحية‭ ‬مباشرة‭ ‬لنهج‭ ‬‮«‬أمريكا‭ ‬أولاً‮»‬،‭ ‬مما‭ ‬أثار‭ ‬تساؤلات‭ ‬جوهرية‭ ‬حول‭ ‬مستقبل‭ ‬المساعدات‭ ‬العالمية‭ ‬والدور‭ ‬الأمريكي‭ ‬القيادي‭ ‬فيها‭.‬

في‭ ‬ظل‭ ‬التحولات‭ ‬العميقة‭ ‬التي‭ ‬يشهدها‭ ‬النظام‭ ‬الدولي،‭ ‬أعادت‭ ‬إدارة‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب،‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬2025،‭ ‬تموضع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬العالمية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نهج‭ ‬يتسم‭ ‬بالانعزالية‭ ‬والمواجهة‭ ‬مع‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية،‭ ‬مكرّسة‭ ‬بذلك‭ ‬شعار‭ ‬‮«‬أمريكا‭ ‬أولاً‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬لطالما‭ ‬شكّل‭ ‬حجر‭ ‬الزاوية‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬ترامب‭ ‬السياسي‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السياسات‭ ‬التصادمية‭ ‬لم‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬الإعلانات‭ ‬الرمزية،‭ ‬بل‭ ‬اتخذت‭ ‬أشكالًا‭ ‬عملية‭ ‬أثّرت‭ ‬بعمق‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬المساعدات‭ ‬الإنسانية‭ ‬والتنموية‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬قادتها‭ ‬واشنطن‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الماضية،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬هزات‭ ‬عنيفة‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬النظام‭ ‬الإنساني‭ ‬الدولي‭ ‬وترك‭ ‬ملايين‭ ‬الفقراء‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬دعم‭ ‬أو‭ ‬حماية‭.‬

جاءت‭ ‬أولى‭ ‬الخطوات‭ ‬التصعيدية‭ ‬بقرار‭ ‬إدارة‭ ‬ترامب‭ ‬قطع‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية،‭ ‬ثم‭ ‬الانسحاب‭ ‬من‭ ‬اتفاقية‭ ‬باريس‭ ‬للمناخ‭ ‬للمرة‭ ‬الثانية،‭ ‬ما‭ ‬شكّل‭ ‬مؤشرًا‭ ‬مبكرًا‭ ‬إلى‭ ‬عزم‭ ‬الإدارة‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬مجمل‭ ‬التزاماتها‭ ‬الدولية‭. ‬وقد‭ ‬أمر‭ ‬الرئيس‭ ‬ترامب‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬بإجراء‭ ‬مراجعة‭ ‬شاملة‭ ‬خلال‭ ‬90‭ ‬يومًا‭ ‬لكافة‭ ‬العلاقات‭ ‬والاتفاقيات‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬تشارك‭ ‬فيها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬مع‭ ‬توجيه‭ ‬واضح‭ ‬بإنهاء‭ ‬التعاون‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬جهة‭ ‬تُعد‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الإدارة‭ ‬غير‭ ‬مفيدة‭ ‬للمصالح‭ ‬الأمريكية‭. ‬هذه‭ ‬الخطوات‭ ‬أثارت‭ ‬انتقادات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مسؤولين‭ ‬ومراقبين‭ ‬غربيين،‭ ‬ووصفت‭ ‬بأنها‭ ‬تضرب‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬مقتل‭. ‬واعتبر‭ ‬ستيوارت‭ ‬باتريك،‭ ‬مدير‭ ‬برنامج‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬مؤسسة‭ ‬كارنيجي،‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التحركات‭ ‬‮«‬مضللة‭ ‬وخطيرة‮»‬،‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬حجم‭ ‬الخسائر‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تنجم‭ ‬عنها‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الحوكمة‭ ‬العالمية‭ ‬والمساعدات‭ ‬الإنسانية‭.‬

مع‭ ‬اقتراب‭ ‬موعد‭ ‬انتهاء‭ ‬فترة‭ ‬المراجعة‭ ‬التي‭ ‬أمر‭ ‬بها‭ ‬ترامب،‭ ‬يترقب‭ ‬العالم‭ ‬قرارات‭ ‬مصيرية‭ ‬قد‭ ‬تُغيّر‭ ‬ملامح‭ ‬الدور‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬وتشير‭ ‬دلائل‭ ‬مبكرة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬إدارة‭ ‬ترامب‭ ‬لن‭ ‬تكتفي‭ ‬بخفض‭ ‬المساهمات‭ ‬المالية،‭ ‬بل‭ ‬تسير‭ ‬نحو‭ ‬خطوات‭ ‬أكثر‭ ‬راديكالية،‭ ‬من‭ ‬ضمنها‭ ‬الانسحاب‭ ‬المرتقب‭ ‬من‭ ‬منظمة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬للتربية‭ ‬والعلم‭ ‬والثقافة‭ (‬اليونسكو‭)‬،‭ ‬للمرة‭ ‬الثالثة،‭ ‬بحجة‭ ‬أن‭ ‬الوكالة‭ ‬‮«‬تروّج‭ ‬لأجندات‭ ‬لا‭ ‬تخدم‭ ‬المصالح‭ ‬القومية‭ ‬الأمريكية‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬وجّهت‭ ‬الإدارة‭ ‬اتهامات‭ ‬غير‭ ‬مدعومة‭ ‬إلى‭ ‬اليونسكو‭ ‬بتشجيع‭ ‬‮«‬قضايا‭ ‬ثقافية‭ ‬واجتماعية‭ ‬مثيرة‭ ‬للانقسام‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬مزاعم‭ ‬انتُقدت‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬واسع‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬خبراء‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭.‬

وترى‭ ‬هيذر‭ ‬هورلبورت،‭ ‬الباحثة‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬الملكي‭ ‬للشؤون‭ ‬الدولية،‭ ‬أن‭ ‬نتائج‭ ‬هذه‭ ‬المراجعة‭ ‬ستكون‭ ‬اختبارًا‭ ‬مفصليًا‭ ‬لجميع‭ ‬المعاهدات‭ ‬والمؤسسات‭ ‬التي‭ ‬تشارك‭ ‬فيها‭ ‬واشنطن‭. ‬وبينما‭ ‬يعاني‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬أزمات‭ ‬متلاحقة‭ ‬في‭ ‬الصحة‭ ‬والمناخ‭ ‬والفقر‭ ‬والنزاعات،‭ ‬فإن‭ ‬أي‭ ‬تراجع‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬عن‭ ‬دعم‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية‭ ‬يُنذر‭ ‬بكارثة‭ ‬إنسانية‭ ‬واسعة‭ ‬النطاق‭. ‬وقد‭ ‬بدأت‭ ‬بالفعل‭ ‬تداعيات‭ ‬هذه‭ ‬السياسات‭ ‬تظهر‭ ‬بوضوح،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬حيث‭ ‬أدى‭ ‬وقف‭ ‬التمويل‭ ‬الأمريكي‭ ‬لوكالة‭ ‬الأونروا‭ ‬إلى‭ ‬تعطيل‭ ‬خدمات‭ ‬أساسية‭ ‬لملايين‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬ما‭ ‬فاقم‭ ‬الوضع‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬الهجوم‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬الواسع‭ ‬على‭ ‬غزة‭ ‬منذ‭ ‬أكتوبر‭ ‬2023،‭ ‬والذي‭ ‬حظي‭ ‬بدعم‭ ‬غير‭ ‬مشروط‭ ‬من‭ ‬إدارة‭ ‬ترامب،‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬المبادئ‭ ‬الإنسانية‭ ‬الأساسية‭.‬

وفي‭ ‬سياق‭ ‬متصل،‭ ‬أصدرت‭ ‬إدارة‭ ‬ترامب‭ ‬أمرًا‭ ‬تنفيذيًا‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬2025‭ ‬لإعادة‭ ‬هيكلة‭ ‬مساعدات‭ ‬التنمية‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وقد‭ ‬أسفر‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬تقليص‭ ‬ميزانية‭ ‬الوكالة‭ ‬الأمريكية‭ ‬للتنمية‭ ‬الدولية‭ ‬بنسبة‭ ‬83%‭ ‬وتسريح‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬94%‭ ‬من‭ ‬موظفيها‭. ‬هذه‭ ‬الخطوة‭ ‬تُمثل‭ ‬انهيارًا‭ ‬فعليًا‭ ‬لمنظومة‭ ‬الدعم‭ ‬الإنساني‭ ‬الخارجي‭ ‬الأمريكي،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬الوكالة‭ ‬كانت‭ ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬برامج‭ ‬إنقاذ‭ ‬حياة‭ ‬امتدت‭ ‬لعقود،‭ ‬حيث‭ ‬أشارت‭ ‬دراسة‭ ‬نُشرت‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬لانسيت‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬البرامج‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬إنقاذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬90‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬خلال‭ ‬العقدين‭ ‬الماضيين،‭ ‬وأن‭ ‬التخفيضات‭ ‬الجديدة‭ ‬قد‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬وفاة‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬14‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬بحلول‭ ‬2030‭ ‬نتيجة‭ ‬نقص‭ ‬المساعدات‭.‬

وقد‭ ‬شملت‭ ‬المراجعة‭ ‬أيضًا‭ ‬مجلس‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬التابع‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬الذي‭ ‬قررت‭ ‬واشنطن‭ ‬الانسحاب‭ ‬منه‭ ‬بدعوى‭ ‬‮«‬التحيّز‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬منظمة‭ ‬الأونروا‭ ‬التي‭ ‬توقف‭ ‬تمويلها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬باتت‭ ‬اليونسكو‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬خسارة‭ ‬دعم‭ ‬واشنطن‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭. ‬وتُشير‭ ‬الاتهامات‭ ‬التي‭ ‬تطلقها‭ ‬الإدارة‭ ‬الأمريكية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية‭ ‬‮«‬تعادي‭ ‬إسرائيل‮»‬‭ ‬و‮«‬تخالف‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬الأمريكية‮»‬،‭ ‬بينما‭ ‬يرى‭ ‬مراقبون‭ ‬أن‭ ‬الدافع‭ ‬الحقيقي‭ ‬وراء‭ ‬هذه‭ ‬السياسات‭ ‬هو‭ ‬اعتراف‭ ‬اليونسكو‭ ‬بفلسطين‭ ‬كعضو‭ ‬كامل‭ ‬عام‭ ‬2011،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تتقبله‭ ‬الإدارات‭ ‬الجمهورية‭ ‬المتعاقبة‭.‬

إن‭ ‬الاتهامات‭ ‬الأمريكية‭ ‬لهذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬تتّخذ‭ ‬طابعًا‭ ‬سياسيًا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬مهنية،‭ ‬إذ‭ ‬تزعم‭ ‬الخارجية‭ ‬الأمريكية‭ ‬أن‭ ‬أجندات‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬التنمية‭ ‬المستدامة‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تتماشى‭ ‬مع‭ ‬المصالح‭ ‬الأمريكية‮»‬،‭ ‬متجاهلة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأجندات‭ ‬تشمل‭ ‬قضايا‭ ‬إنسانية‭ ‬مثل‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬الجوع‭ ‬والفقر‭ ‬وتعزيز‭ ‬التعليم‭ ‬والصحة‭. ‬وبدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تلعب‭ ‬واشنطن‭ ‬دورًا‭ ‬قياديًا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬السابق،‭ ‬باتت‭ ‬إدارة‭ ‬ترامب‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬تقويضها‭. ‬وقد‭ ‬عزّز‭ ‬ترامب‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬مؤخرًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬فرض‭ ‬رسوم‭ ‬إضافية‭ ‬على‭ ‬السياح‭ ‬الأجانب‭ ‬الراغبين‭ ‬في‭ ‬زيارة‭ ‬المتنزهات‭ ‬الوطنية‭ ‬المصنفة‭ ‬كمواقع‭ ‬تراث‭ ‬عالمي،‭ ‬مبررًا‭ ‬ذلك‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬المتنزهات‭ ‬أيضًا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬‮«‬تجسد‭ ‬شعار‭ ‬أمريكا‭ ‬أولًا‮»‬‭.‬

كما‭ ‬استُخدم‭ ‬اتهام‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية‭ ‬بـ‮«‬معاداة‭ ‬السامية‮»‬‭ ‬لتبرير‭ ‬الانسحاب‭ ‬من‭ ‬اليونسكو،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الاتهامات‭ ‬لا‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬أدلة‭ ‬واضحة،‭ ‬وتستهدف‭ ‬بالأساس‭ ‬المواقف‭ ‬التي‭ ‬عبّرت‭ ‬عنها‭ ‬اليونسكو‭ ‬لصالح‭ ‬حقوق‭ ‬الفلسطينيين‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬أصبح‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬العقيدة‭ ‬السياسية‭ ‬للحزب‭ ‬الجمهوري،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬إطلاق‭ ‬‮«‬مشروع‭ ‬2025‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يُنظّر‭ ‬لإعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬الدولة‭ ‬الفيدرالية‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬أكثر‭ ‬قومية‭ ‬وتشددًا،‭ ‬ويتضمن‭ ‬انسحابًا‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬المالية‭ ‬الدولية‭ ‬مثل‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭ ‬والبنك‭ ‬الدولي،‭ ‬وتجميد‭ ‬الالتزام‭ ‬بمعاهدات‭ ‬دولية‭ ‬لم‭ ‬يُصادق‭ ‬عليها‭ ‬الكونغرس‭.‬

إن‭ ‬الميزانية‭ ‬المقترحة‭ ‬لإدارة‭ ‬ترامب‭ ‬لعام‭ ‬2026‭ ‬تعكس‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬بوضوح،‭ ‬حيث‭ ‬تتضمن‭ ‬خفضًا‭ ‬حادًا‭ ‬بنسبة‭ ‬83%‭ ‬في‭ ‬المساهمات‭ ‬الأمريكية‭ ‬للمنظمات‭ ‬الدولية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬تقليص‭ ‬بنسبة‭ ‬93%‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬بعثات‭ ‬حفظ‭ ‬السلام‭. ‬هذه‭ ‬التخفيضات‭ ‬الكبيرة‭ ‬لن‭ ‬تُضعف‭ ‬فقط‭ ‬المنظومة‭ ‬الأممية،‭ ‬بل‭ ‬ستُسهم‭ ‬في‭ ‬تقليص‭ ‬قدرة‭ ‬المجتمعات‭ ‬النامية‭ ‬على‭ ‬الاستجابة‭ ‬للأزمات‭ ‬الصحية‭ ‬والبيئية‭ ‬والتعليمية،‭ ‬ما‭ ‬يعمّق‭ ‬الفجوة‭ ‬بين‭ ‬الشمال‭ ‬والجنوب‭ ‬ويزيد‭ ‬من‭ ‬مخاطر‭ ‬النزوح‭ ‬والفقر‭ ‬وعدم‭ ‬الاستقرار‭.‬

وقد‭ ‬أعربت‭ ‬منظمات‭ ‬أمريكية‭ ‬ودولية،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬تحالف‭ ‬القيادة‭ ‬العالمية‭ ‬الأمريكية‮»‬،‭ ‬عن‭ ‬قلقها‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التخفيضات‭ ‬تهدد‭ ‬مكانة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬العالمية،‭ ‬وتُضعف‭ ‬نفوذها‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬قوى‭ ‬مثل‭ ‬الصين‭ ‬التي‭ ‬تستثمر‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬‮«‬القوة‭ ‬الناعمة‮»‬‭ ‬وتعزيز‭ ‬حضورها‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬متعددة‭ ‬الأطراف‭. ‬وعبّر‭ ‬ديفيد‭ ‬تي‭. ‬كيليون،‭ ‬الممثل‭ ‬الأمريكي‭ ‬السابق‭ ‬لدى‭ ‬اليونسكو،‭ ‬عن‭ ‬أسفه‭ ‬لانحسار‭ ‬الدور‭ ‬الثقافي‭ ‬الأمريكي،‭ ‬بينما‭ ‬حذّرت‭ ‬الصحفية‭ ‬مارا‭ ‬هفيستندال‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الفراغ‭ ‬الذي‭ ‬تخلّفه‭ ‬أمريكا‭ ‬سيملأه‭ ‬منافسوها‭ ‬بسرعة‭.‬

ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬رفضت‭ ‬إدارة‭ ‬ترامب‭ ‬علنًا‭ ‬الإصلاحات‭ ‬المقترحة‭ ‬على‭ ‬اللوائح‭ ‬الصحية‭ ‬الدولية‭ ‬بعد‭ ‬جائحة‭ ‬كوفيد‭-‬19،‭ ‬ما‭ ‬أثار‭ ‬انتقادات‭ ‬حادة‭ ‬من‭ ‬خبراء‭ ‬الصحة‭ ‬العالميين،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬دروس‭ ‬الجائحة‭ ‬التي‭ ‬أودت‭ ‬بحياة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬70‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬حول‭ ‬العالم‭. ‬فقد‭ ‬اتهم‭ ‬وزراء‭ ‬في‭ ‬الإدارة‭ ‬الجديدة‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬بمحاولة‭ ‬فرض‭ ‬سياسات‭ ‬داخلية‭ ‬على‭ ‬أمريكا،‭ ‬في‭ ‬تجاهل‭ ‬تام‭ ‬لحقيقة‭ ‬أن‭ ‬التنسيق‭ ‬العالمي‭ ‬هو‭ ‬السبيل‭ ‬الوحيد‭ ‬لمواجهة‭ ‬أوبئة‭ ‬مستقبلية‭ ‬محتملة‭.‬

وفي‭ ‬17‭ ‬يوليو‭ ‬2025،‭ ‬أُغلِقت‭ ‬رسميًا‭ ‬الوكالة‭ ‬الأمريكية‭ ‬للتنمية‭ ‬الدولية،‭ ‬لتكون‭ ‬أول‭ ‬وكالة‭ ‬اتحادية‭ ‬يتم‭ ‬حلها‭ ‬بالكامل‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭. ‬ورغم‭ ‬محاولات‭ ‬بعض‭ ‬الأطراف‭ ‬الدولية‭ ‬سدّ‭ ‬هذا‭ ‬الفراغ،‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬المساعدات‭ ‬الأوروبية‭ ‬وحدها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تعويض‭ ‬هذا‭ ‬الانسحاب‭ ‬الأمريكي،‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬بروز‭ ‬مظاهر‭ ‬ازدواجية‭ ‬المعايير‭ ‬لدى‭ ‬الحكومات‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬تعاطيها‭ ‬مع‭ ‬القضايا‭ ‬الإنسانية،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬دعمها‭ ‬لأوكرانيا‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الغزو‭ ‬الروسي،‭ ‬مقابل‭ ‬صمتها‭ ‬المطبق‭ ‬تجاه‭ ‬الكارثة‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬غزة‭.‬

وفي‭ ‬خضم‭ ‬هذا‭ ‬التراجع‭ ‬الأمريكي‭ ‬غير‭ ‬المسبوق‭ ‬عن‭ ‬الالتزامات‭ ‬الدولية،‭ ‬تزداد‭ ‬المخاوف‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬إلى‭ ‬تفكك‭ ‬تدريجي‭ ‬للنظام‭ ‬متعدد‭ ‬الأطراف،‭ ‬وإضعاف‭ ‬أدوات‭ ‬القانون‭ ‬الدولي،‭ ‬وترك‭ ‬ملايين‭ ‬البشر‭ ‬عرضة‭ ‬للفقر،‭ ‬والمرض،‭ ‬والتهميش‭. ‬ومع‭ ‬بقاء‭ ‬أسئلة‭ ‬حاسمة‭ ‬مطروحة‭ ‬حول‭ ‬مدى‭ ‬استعداد‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬لمواجهة‭ ‬هذا‭ ‬الانكماش‭ ‬الأمريكي،‭ ‬تتكشف‭ ‬ملامح‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الاضطراب‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية،‭ ‬حيث‭ ‬تُصبح‭ ‬المصالح‭ ‬الضيقة‭ ‬للدول‭ ‬الكبرى‭ ‬مهيمنة‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬التضامن‭ ‬الإنساني‭ ‬العالمي‭.‬

بينما‭ ‬تواصل‭ ‬إدارة‭ ‬ترامب‭ ‬تقليص‭ ‬التزاماتها‭ ‬تجاه‭ ‬العالم،‭ ‬تتفاقم‭ ‬الأزمات‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬أكبر‭ ‬ممول‭ ‬دولي‭ ‬تقليدي‭. ‬وإذا‭ ‬استمرت‭ ‬هذه‭ ‬السياسات‭ ‬دون‭ ‬توازن‭ ‬دولي‭ ‬بديل،‭ ‬فقد‭ ‬يشهد‭ ‬العالم‭ ‬تراجعًا‭ ‬خطيرًا‭ ‬في‭ ‬آليات‭ ‬الإغاثة‭ ‬والتنمية،‭ ‬ويُفتح‭ ‬المجال‭ ‬لقوى‭ ‬بديلة‭ ‬لصياغة‭ ‬نظام‭ ‬عالمي‭ ‬جديد،‭ ‬لا‭ ‬يُلزم‭ ‬بالضرورة‭ ‬بمبادئ‭ ‬العدالة‭ ‬والإنسانية‭ ‬التي‭ ‬لطالما‭ ‬ادّعتها‭ ‬واشنطن‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا