يشهد العالم تحوّلًا غير مسبوق في قطاع الطاقة، حيث تواصل مصادر الطاقة المتجددة نموها بوتيرة متسارعة، مدفوعة بالاستثمارات الضخمة والتطور التكنولوجي، في الوقت الذي لا تزال فيه الهيدروكربونات مثل النفط والغاز تحتفظ بدورها المركزي في تلبية الطلب العالمي المتزايد. وفي هذا السياق، بدأت دول الخليج العربي تتجه تدريجيًا نحو تنويع مزيج من الطاقة، معززة استثماراتها في مشاريع الطاقة الشمسية والنووية، رغم استمرار اعتمادها الكبير على الوقود الأحفوري. ويبرز التحول في المنطقة كجزء من مشهد أوسع يعكس التحديات العالمية في موازنة النمو الاقتصادي والاستدامة البيئية.
تمثّل أنماط الطاقة المتجددة - وأبرزها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية - حوالي 3% من إجمالي إنتاج الطاقة واستخدامها في عام 1990، ومن المتوقع بنهاية العام الحالي 2025 أن يُنتج العالم أكثر من 40% من الكهرباء عبر هذه الطرق، دون إنتاجها لأي انبعاثات كربونية.
أشاد فيل ماكدونالد، المدير الإداري لمؤسسة إمبر البحثية، ومقرها لندن، بأن الطاقة الشمسية على وجه الخصوص «أصبحت مُحرك التحول العالمي في مجال الطاقة»، على الرغم من تسليط الإصدار الرابع والسبعين والأخير من «المراجعة الإحصائية للطاقة العالمية لمعهد الطاقة» الضوء على وصول جميع مصادر الطاقة الرئيسية - من الفحم إلى الطاقة النووية والغاز الطبيعي والطاقة الكهرومائية - إلى مستويات استهلاك قياسية جديدة في عام 2024، مع بقاء النفط الخام كأكبر مصدر لاستهلاك الطاقة عالميًا من خلال تلبية ما يقرب من 34% من إجمالي الطلب السنوي، ولا يزال يزداد بنسبة 0.7% سنويًا.
وتأمل آندي براون رئيس معهد الطاقة، ونيك وايث المدير التنفيذي للمعهد، أننا «نحيا في زمن تنامي الطاقة» الذي «يدعمه انتقال يعوزه التنظيم بشكل متزايد»؛ مع إرجاع هذه «الازدواجية» إلى «التقدم السريع في تقنيات وتطبيقات الطاقة النظيفة» الموجودة جنبًا إلى جنب مع «الاعتماد المستمر على الوقود الأحفوري» في معظم أنحاء العالم.
وكتبت كيت دوريان، زميلة غير مقيمة لدى معهد دول الخليج العربية، عن كيف أن الشرق الأوسط «ليس استثناءً»، كما يبدو من «تحول ملحوظ إلى الطاقة الأنظف»، خاصةً عبر بلدان دول الخليج العربي؛ ومع ذلك لاتزال المنطقة بشكل أعم تعتمد «بشكل كبير على الوقود الأحفوري لتوليد الطاقة».
وعلى الصعيد الدولي، بات ملموسا كيف أضحت الأشكال المتجددة من الطاقة أكثر انتشارًا، بمساعدة دعم استثماري قوي؛ ولكن مع مواصلة اعتماد الاقتصاد العالمي بشكل كبير على الوقود القائم على الهيدروكربونات مثل النفط الخام والغاز الطبيعي والفحم.
وعلى الرغم من تسجيل وكالة الطاقة الدولية في عام 2025 تراجع حصة النفط الخام من استهلاك الطاقة العالمي من أعلى من 46% إلى أقل من 30%، والمدفوع بشكل كبير بزيادة مبيعات السيارات الكهربائية على مستوى العالم؛ وقد جاءت أحدث بيانات الوكالة في يوليو 2025 بتوقع زيادة الطلب على النفط بمقدار 700.000 برميل يوميًا، مع الأخذ في الاعتبار أن تلك الزيادة هي الأبطأ منذ عام 2009، ومن المنتظر أن يمضي التوسع المماثل في عام 2026 بالإنتاج اليومي من النفط إلى مستوى قياسي يتجاوز 104 ملايين برميل يوميًا. وفيما يتعلق بالغاز الطبيعي، سجل الطلب العالمي ارتفاعا بنسبة 2.5% في عام 2024، بما يضاهي 29% من جميع استخدامات الوقود الأحفوري، مع تصدر الولايات المتحدة وروسيا والصين وإيران كمنتجين معًا لأكثر من نصف الإنتاج.
وسلط معهد الطاقة الضوء على ناتج جميع الطاقات من الهيدروكربونات بنسبة تزيد قليلاً على 1% في عام 2024، بيد أن مخرجات عمليات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح تصل إلى 16%، ويشكل توليد الطاقة من هذين المصدرين الآن 15% من الإنتاج العالمي، حيث شهد العقد الماضي زيادة أربعة أضعاف في مساهمتها. وأسهمت طاقة الرياح والطاقة الشمسية بنحو 28%، مُتجاوزة بذلك الفحم لأول مرة في توليد الكهرباء داخل الاتحاد الأوروبي».
وواصل المعهد أن الاستثمارات في الأشكال المتجددة من الطاقة «تُعد بشكل متزايد حجر الزاوية في أمن الطاقة؛ مما يُمكّن البلدان من النأي بأنظمة الطاقة خاصته عن أَتُّون أسواق الوقود العالمية والتوترات الجيوسياسية»، وفي هذا السياق، أفاد تقرير موقع «بلومبرج إن إي إف» حول اتجاهات الاستثمار في التحول بمجال الطاقة لعام 2025، كيف «نما الاستثمار في التحول نحو الطاقة المنخفضة الكربون عالميًا بنسبة 11% ليصل إلى مستوى قياسي بلغ 2.1 تريليون دولار في 2024»، مع كون النقل الكهربائي - بما في ذلك خلايا وقود الهيدروجين والمركبات الكهربائية والبنية التحتية المرتبطة بها - هو المحرك الأكبر للاستثمارات بقيمة تربو على 757 مليار دولار.
وأولى براون ووايث اهتمامًا خاصًا لكيفية «استمرار لعب الصين لدورًا غير متناسب في تشكيل مشهد الطاقة»، مشيرين إلى كيفية تجاوز «طلب بكين للفحم بقية العالم مجتمعة»، ولكن «مع زيادة معدلات استعانتها بالطاقة المتجددة وتفوق مبيعات المركبات الكهربائية». في الواقع، سجلت بكين إضافة 57% من الطاقة الشمسية الجديدة؛ مما يضاعف عددها تقريبًا في غضون عامين فقط.
أكدت دوريان أن النفط والغاز لا يزالان يهيمنان على مزيج الطاقة في منطقة الشرق الأوسط، حيث يشكلان نحو 97% من إجمالي الإنتاج، ما يعادل 7% من الإنتاج العالمي للطاقة. وعلى الرغم من انخفاض إنتاج النفط الخام في المنطقة إلى ما يزيد قليلًا على 30 مليون برميل يوميًا، فإن هذا الحجم لا يزال يُمثل ما يقرب من ثلث الاستهلاك اليومي العالمي. وأضاف أن 90% من توليد الكهرباء في الشرق الأوسط لا يزال يعتمد على حرق الغاز الطبيعي والنفط في محطات التوليد.
في عام 2024، سجلت الطاقة المتجددة رقمًا قياسيًا جديدًا في المنطقة، حيث بلغت 5% من إجمالي حصة توليد الكهرباء. وشهدت الطاقة الشمسية على وجه الخصوص نموًا بنسبة 23% على أساس سنوي. ومن اللافت أن المملكة العربية السعودية ضاعفت تقريبًا قدرتها من الطاقة الشمسية لتتجاوز4300 ميجاواط خلال العام الماضي، بينما أضافت الإمارات العربية المتحدة أكثر من 46% إلى قدرتها منذ عام 2000.
في الوقت ذاته، ظل الطلب الإقليمي على النفط والغاز الطبيعي ثابتًا، في حين سجل الطلب في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ثاني أعلى معدل نمو عالمي بعد إفريقيا، بنسبة 1.6% و2.5% على التوالي. وصرح وايث بأن الطلب على الغاز الطبيعي في المنطقة يفوق بخمس مرات إجمالي القدرة المركبة للطاقة الشمسية، ما دفع دوريان إلى التأكيد على أن هذا الرقم يوضح مدى التحديات التي تواجه المنطقة في انتقالها في مجال الطاقة.
في سياق التحول التدريجي من الاعتماد الكبير على الوقود الأحفوري إلى اعتماد أوسع على مصادر الطاقة المتجددة في الخليج، أشار تقرير وكالة الطاقة الدولية بعنوان «النفط 2025: تحليل وتوقعات حتى عام 2030» إلى أن خطط السعودية الجريئة للتخلص التدريجي من استخدام النفط في قطاع الكهرباء ستُسهم في خفض استهلاك النفط المستخدم في توليد الطاقة بمقدار مليون برميل يوميًا. واعتبر التقرير أن هذا يمثل أكبر انخفاض في الطلب على النفط من حيث القيمة المطلقة على مستوى الدول في الفترة بين2024 و2030 وأشارت دوريان إلى أن استبدال النفط والوقود السائل في توليد الكهرباء قد يؤدي إلى إتاحة كميات أكبر من النفط للتصدير.
مع ذلك، تأتي هذه الفرصة المحتملة لزيادة الصادرات النفطية من الخليج، والتي تُوجَّه بشكل رئيسي إلى أسواق شرق آسيا، في وقت تظل فيه الأسعار منخفضة. فقد استمر سعر برميل خام برنت بالتداول دون 70 دولارًا للبرميل حتى منتصف يوليو 2025 وتشير بيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية إلى أن أسعار النفط الخام من دول أوبك ستواصل انخفاضها في عامي 2025،2026، حيث يُتوقع أن تهبط عائدات تصدير النفط من دول أوبك من 550 مليار دولار في عام 2024 إلى 455 مليار دولار في 2025، ثم إلى 410 مليارات دولار في 2026.
وعلى الرغم من الزيادة في إنتاج جميع أنواع الطاقة الرئيسية في عام 2024، حذر معهد الطاقة من أن هذا النمو يُسهم أيضًا في رفع الانبعاثات العالمية ومستويات درجة حرارة الأرض. ووفقًا لتقريره، فإن التوسع في استخدام الطاقة المتجددة والطاقة النووية قد أسهم في تجنب انبعاث حوالي 109 جيجا طن من غازات الاحتباس الحراري المرتبطة بالطاقة منذ عام 2010. ومع ذلك، فقد ارتفعت الانبعاثات العالمية من الكربون بنسبة 1% في عام 2024، وكانت الصين والهند مسؤولتين معًا عن أكثر من 60% من إجمالي الانبعاثات خلال العام الماضي.
وفي حين انخفضت الانبعاثات في أوروبا بنسبة تقارب 16% مقارنة بعشر سنوات مضت، وتراجعت انبعاثات الولايات المتحدة بنسبة 0.7% عن مستويات عام 2023، أوضحت دوريان أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المرتبطة بالطاقة ارتفعت بنسبة 2.5% لتصل إلى 3 مليارات طن متري، وهو أعلى مستوى تم تسجيله على الإطلاق.
أما في الشرق الأوسط، فقد أشارت دوريان إلى أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ارتفعت بنسبة 19% خلال العام الماضي، مع تسجيل الإمارات العربية المتحدة زيادة بنسبة 4.6%. ووفقًا للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، فقد كان عام 2024 هو الأكثر دفئًا في التاريخ، حيث تجاوز متوسط درجات الحرارة مستوى ما قبل الثورة الصناعية بمقدار 1.55 درجة مئوية.
وعلى الرغم من أن الطاقة تُعد «ضرورية للنشاط البشري والتنمية»، كما أشار براون ووايث، فإن الفجوة بين إنتاج واستخدام الوقود الأحفوري من جهة، ومساهمات مصادر الطاقة المتجددة من جهة أخرى، يجب أن تُسد بوتيرة أسرع لتجنب التداعيات المناخية التي لطالما حذر منها العلماء. ومع أن الاستثمارات العالمية في مصادر الطاقة المتجددة قد تجاوزت بكثير تلك الموجهة إلى إنتاج الوقود الأحفوري، فإن ما ذكرته مؤسسة «بلومبرج إن إي إف» حول الحاجة إلى استثمار سنوي بمتوسط 5.6 تريليونات دولار من عام 2025 وحتى عام 2030 - وهو أكثر من ضعف المعدل الحالي - يُبرز عدم التوازن الكبير في النظام العالمي الحالي، ومدى صعوبة تحقيق هدف صافي الصفر الكربوني بحلول عام 2050.
على العموم، رغم التقدم الملحوظ في إنتاج واستخدام مصادر الطاقة المتجددة، فإن العالم لا يزال بعيدًا عن تحقيق توازن فعلي بين تطلعاته المناخية واعتماده الراسخ على الوقود الأحفوري. ويبرز من خلال الأرقام والاتجاهات الحالية أن الفجوة بين الواقع والمستهدف في التحول الطاقي تتطلب تسريع وتيرة التغيير، وتكثيف الاستثمارات، وإعادة هيكلة سياسات الطاقة على المستويات الإقليمية والدولية. إن تحقيق هدف صافي الصفر بحلول 2050 لم يعد مجرد خيار استراتيجي، بل ضرورة بيئية واقتصادية عاجلة لمستقبل البشرية.
وفي هذا الإطار، تقف دول الخليج العربي أمام مفترق طرق حاسم، حيث تمتلك من الموارد والقدرات ما يمكّنها من قيادة تحول الطاقة في المنطقة. غير أن تسريع هذا التحول سيتطلب سياسات أكثر جرأة واستثمارات طويلة الأمد في الابتكار والبنية التحتية المستدامة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك