العدد : ١٧٢٩١ - السبت ٢٦ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠١ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٩١ - السبت ٢٦ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠١ صفر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

أمام جوع غزة.. ماذا نقول لأطفالنا؟

بقلم: نبيلة رجب

السبت ٢٦ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

قبل‭ ‬أيام،‭ ‬فاجأتني‭ ‬حفيدتي‭ ‬داليا‭. ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬غير‭ ‬معتاد،‭ ‬بفستان‭ ‬أزرق‭ ‬عليه‭ ‬صورة‭ ‬‮«‬إلسا‮»‬‭ ‬من‭ ‬فيلم‭ ‬فروزن،‭ ‬تجر‭ ‬حقيبة‭ ‬صغيرة‭ ‬بين‭ ‬يديها،‭ ‬بينما‭ ‬كنت‭ ‬أنا‭ ‬غارقة‭ ‬في‭ ‬نشرة‭ ‬الأخبار‭ ‬كعادتي‭. ‬على‭ ‬الشاشة،‭ ‬أطفال‭ ‬غزة‭ ‬يقفون‭ ‬في‭ ‬طابور‭ ‬طويل،‭ ‬ينتظرون‭ ‬كسرة‭ ‬خبز‭. ‬ظللت‭ ‬أحدق‭. ‬مشدوهة‭. ‬حتى‭ ‬لمحتها‭ ‬عند‭ ‬الباب‭. ‬بسرعة‭ ‬أطفأت‭ ‬القناة‭. ‬لم‭ ‬أفعل‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬الصور‭ ‬مؤلمة‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭.. ‬أسئلتها‭ ‬ستفضح‭ ‬ضعفي‭.‬

والله‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ماذا‭ ‬سأقول‭ ‬لها‭ ‬لو‭ ‬سألتني‭: ‬لماذا‭ ‬يحدث‭ ‬هذا؟‭ ‬ومن‭ ‬ينقذهم؟‭ ‬وكيف‭ ‬ينامون؟‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬مستعدة‭ ‬لأي‭ ‬جواب‭ ‬في‭ ‬الوقع‭. ‬الحقيقة‭ ‬أننا‭ ‬نحن‭ ‬الكبار‭ ‬ندفن‭ ‬الإجابة‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬بعيد‭.. ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬الضوء‭.‬

هذه‭ ‬ليست‭ ‬أول‭ ‬حرب‭ ‬على‭ ‬غزة‭. ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬الصور‭ ‬تتكرر‭ ‬كل‭ ‬مرة‭: ‬الركام،‭ ‬الصراخ،‭ ‬النعوش‭ ‬الصغيرة،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬مختلفة‭. ‬صور‭ ‬الجوع،‭ ‬الطوابير،‭ ‬الأطفال‭ ‬الذين‭ ‬يقفون‭ ‬ساعات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬كيس‭ ‬من‭ ‬الخبز‭.. ‬شيء‭ ‬فيها‭ ‬يحطمك‭. ‬لأن‭ ‬الجوع‭ ‬لا‭ ‬يصرخ،‭ ‬لكنه‭ ‬يفتك‭ ‬بصمت‭. ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬قصف‭. ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬يُتركوا‭ ‬وحدهم،‭ ‬يذبلون‭ ‬أمام‭ ‬أعيننا‭ ‬جميعا‭.. ‬ببطون‭ ‬خاوية‭ ‬وعيون‭ ‬زجاجية‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬تنتظر‭ ‬الخبز‭ ‬أم‭ ‬الرحمة‭.‬

حين‭ ‬أطلت‭ ‬عليّ‭ ‬داليا،‭ ‬أحسست‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬أراه‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬مأساة‭ ‬لهم،‭ ‬بل‭ ‬فضيحة‭ ‬لنا‭. ‬ماذا‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬إنسانيتنا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬بإمكاننا‭ ‬أن‭ ‬نكمل‭ ‬يومنا‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬الصور؟‭ ‬كيف‭ ‬أشرح‭ ‬لحفيدتي‭ ‬أن‭ ‬طفلا‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬عمرها‭ ‬ينام‭ ‬الليلة‭ ‬جائعا؟‭ ‬دارت‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬في‭ ‬رأسي‭ ‬وأنا‭ ‬أحدق‭ ‬فيها‭.. ‬ولم‭ ‬أجد‭ ‬أي‭ ‬جملة‭ ‬قد‭ ‬تريحها‭. ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬تريحني‭.‬

نحن‭ ‬صرنا‭ ‬نعرف‭ ‬كيف‭ ‬نغير‭ ‬القناة‭. ‬نعرف‭ ‬كيف‭ ‬نغلق‭ ‬هواتفنا‭. ‬كيف‭ ‬نقول‭ ‬لأنفسنا‭: ‬وماذا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نفعل؟‭ ‬ونتظاهر‭ ‬بالطمأنينة‭. ‬لكن‭ ‬أطفال‭ ‬غزة‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬غير‭ ‬شاشة‭ ‬واحدة،‭ ‬مشهد‭ ‬واحد،‭ ‬حياة‭ ‬واحدة‭. ‬يقفون‭ ‬في‭ ‬الطابور‭ ‬كل‭ ‬صباح‭. ‬ينتظرون‭ ‬دورهم‭.‬

ذلك‭ ‬الصباح،‭ ‬وأنا‭ ‬أطفئ‭ ‬الأخبار،‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬خوفي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عليها‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬نفسي‭. ‬كانت‭ ‬تحدّق‭ ‬بي‭ ‬وكأنها‭ ‬تقول‭ ‬بصمت‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬أجرؤ‭ ‬أنا‭ ‬على‭ ‬قوله‭: ‬وأنتِ؟‭ ‬ماذا‭ ‬ستفعلين‭ ‬لهم؟‭ ‬وأي‭ ‬نص‭ ‬ستكتبينه‭ ‬عنهم‭ ‬هذه‭ ‬المرة؟

في‭ ‬عيون‭ ‬أطفال‭ ‬غزة‭ ‬شيء‭ ‬يوجعك‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬كيف‭ ‬تسميه‭. ‬نظرة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تفسيرها‭ ‬ولا‭ ‬احتمالها‭. ‬لا‭ ‬يطلبون‭ ‬شفقة‭. ‬لا‭ ‬ينتظرون‭ ‬خطابات‭. ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬يعيشوا‭. ‬أن‭ ‬يأكلوا‭ ‬ويناموا،‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬أي‭ ‬طفل‭.. ‬كما‭ ‬تفعل‭ ‬وتعيش‭ ‬حفيدتي‭ ‬هنا،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تفكر‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬نصيب‭ ‬من‭ ‬الغد‭.‬

كلما‭ ‬دخلت‭ ‬عليّ،‭ ‬أشعر‭ ‬أنني‭ ‬مدينة‭ ‬لها‭ ‬بجواب‭. ‬وأكتشف،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة،‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يعجزني‭ ‬ليس‭ ‬جهلي‭ ‬بالجواب‭.. ‬وإنما‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬مما‭ ‬أعرف‭ ‬يصلح‭ ‬أن‭ ‬يُقال‭. ‬كيف‭ ‬أشرح‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬تراه‭ ‬ليس‭ ‬مشهدا‭ ‬عابرا؟‭ ‬إنها‭ ‬حياة‭ ‬كاملة‭ ‬تُهدر‭ ‬أمام‭ ‬أعيننا‭.. ‬ونحن‭ ‬نشاهد‭.‬

ربما‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أوقف‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭. ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬أطعم‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الصغار‭. ‬لكنني،‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬أرفض‭ ‬أن‭ ‬أعتاد‭ ‬صورهم‭. ‬أرفض‭ ‬أن‭ ‬أتعلم‭ ‬مهارة‭ ‬التبلد‭ ‬على‭ ‬حسابهم،‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬تكتبه‭ ‬يدي‭ ‬اليوم‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يغيّر‭ ‬شيئا،‭ ‬لكنه‭ ‬ليس‭ ‬صمتا‭. ‬أنا‭ ‬أكتب‭ ‬لأوقظ‭ ‬في‭ ‬القلوب‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬إنسانيتنا‭. ‬لأذكّر‭ ‬نفسي‭ ‬والآخرين‭ ‬أننا‭ ‬شركاء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوجع،‭ ‬وأن‭ ‬الكتابة‭ ‬ليست‭ ‬عزاءً،‭ ‬بل‭ ‬موقفا‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا