العدد : ١٧٢٨٧ - الثلاثاء ٢٢ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٧ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٨٧ - الثلاثاء ٢٢ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٧ محرّم ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

نحو تطوير التفكير النقدي والعقلانية في المجتمعات العربية

بقلم: د. عصام عبدالفتاح {

الثلاثاء ٢٢ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

لا‭ ‬يماري‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬تعج‭ ‬برواد‭ ‬لامعين‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الفكر‭ ‬والعلم‭ ‬والأدب‭ ‬ولهم‭ ‬كتابات‭ ‬غزيرة‭ ‬وعميقة‭ ‬قيض‭ ‬لبعضها‭ ‬أن‭ ‬ينشر‭ ‬ويترجم‭ ‬إلى‭ ‬لغات‭ ‬أجنبية‭ ‬مختلفة‭ ‬وحاز‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬اهتمام‭ ‬الباحثين‭ ‬الغربيين،‭ ‬كل‭ ‬بحسب‭ ‬اختصاصه،‭ ‬في‭ ‬محاولاتهم‭ ‬المستمرة‭ ‬لفهم‭ ‬مشكلات‭ ‬الواقع‭ ‬الثقافي‭ ‬والسياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬لبلاد‭ ‬المشرق‭ ‬العربي‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرواد‭ ‬بمثابة‭ ‬جزيرات‭ ‬مضيئة‭ ‬غنية‭ ‬بأفكارها‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬مقيدة‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬فاعليتها‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬ثورة‭ ‬فكرية‭ ‬جذرية‭. ‬شغلت‭ ‬هذه‭ ‬القضية،‭ ‬ولا‭ ‬تزال،‭ ‬اهتمام‭ ‬الباحثين‭ ‬الذين‭ ‬يحلمون‭ ‬بالنهضة‭ ‬وبلوغ‭ ‬الحداثة‭. ‬فرغم‭ ‬ما‭ ‬تحويه‭ ‬كتابات‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرواد‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬وإمكانات‭ ‬معرفية‭ ‬هائلة‭ ‬تضيء‭ ‬السبيل‭ ‬إلى‭ ‬التجديد‭ ‬والابتكار‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬التعليم‭ ‬والمعرفة‭ ‬تظل‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬جدة‭ ‬وإبداع‭ ‬نظري‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬التوظيف‭ ‬الفعلي‭ ‬في‭ ‬مشاريع‭ ‬حقيقية‭ ‬رائدة‭ ‬خليقة‭ ‬ـلو‭ ‬تحققت‭ ‬ـ‭ ‬أن‭ ‬تحدث‭ ‬طفرة‭ ‬معرفية‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭.‬

ولئن‭ ‬تمكن‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬تحصيل‭ ‬واستيعاب‭ ‬أحدث‭ ‬ما‭ ‬أنتجته‭ ‬قرائح‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬فثمة‭ ‬قيود‭ ‬وعراقيل‭ ‬حالت‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬تحقيق‭ ‬النقلة‭ ‬الحضارية‭ ‬التي‭ ‬تخرج‭ ‬بلادهم‭ ‬من‭ ‬هوة‭ ‬التراجع‭ ‬الحضاري‭. ‬ذهب‭ ‬البعض‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الظاهرة‭ ‬الملحوظة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬مفكريها‭ ‬يستوردون‭ ‬فكر‭ ‬الغرب‭ ‬ويستهلكونه‭ ‬كما‭ ‬تستورد‭ ‬سلعه‭ ‬ومنتجاته‭.‬

وعلى‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬يركز‭ ‬في‭ ‬علومه‭ ‬الإنسانية‭ ‬من‭ ‬فلسفة‭ ‬وإدارة‭ ‬واقتصاد‭ ‬وسياسة‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬الواقع‭ ‬الغربي‭ ‬وتحليله‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬رصد‭ ‬تطوراته‭ ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬تناقضاته‭ ‬مستعينًا‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بما‭ ‬ابتكره‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬ونظريات‭ ‬ومنهجيات‭ ‬فإن‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬أخفق‭ ‬في‭ ‬القيام‭ ‬بمقاربات‭ ‬مماثلة‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬واقعه‭ ‬المأزوم‭ ‬وأزمة‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬فظل‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬متماهيًا‭ ‬مع‭ ‬مشكلاته‭ ‬لكنه‭ ‬عاجز‭ ‬عن‭ ‬فهم‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬وقضاياه‭.‬

وقد‭ ‬علق‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬عالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬مصطفي‭ ‬حجازي‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬إننا‭ ‬نتحدث‭ ‬فكريًا‭ ‬عن‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬مكوناتها‭ ‬ومظاهرها‭ ‬من‭ ‬مواطنة‭ ‬وديمقراطية‭ ‬وحرية‭ ‬فردية‭ ‬وعقلانية‭.. ‬ونخوض‭ ‬في‭ ‬النقاشات‭ ‬المستفيضة‭ ‬وتصدر‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تكاد‭ ‬تُحصى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القضايا،‭ ‬ولكن‭ ‬يظل‭ ‬الحديث‭ ‬والنقاش‭ ‬دائرًا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الفكري‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬الأعم‭ ‬الأغلب‭ ‬من‭ ‬الحالات‮»‬‭.‬

‭ ‬لننظر‭ ‬مثلًا‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭. ‬الواقع‭ ‬أن‭ ‬التعليم‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬والتنمية‭ ‬والإنتاج‭ ‬رغم‭ ‬أحاديث‭ ‬خبرائه‭ ‬المستفيضة‭ ‬والمجردة‭ ‬حول‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الجودة‭ ‬في‭ ‬التعليم‮»‬‭! ‬الحق‭ ‬ان‭ ‬الإشكالية‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬عجزه‭ ‬عن‭ ‬إعداد‭ ‬الإنسان‭ ‬المبدع‭ ‬المنتج‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الإبداع‭ ‬هو‭ ‬قدرة‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬تكوين‭ ‬علاقات‭ ‬جديدة‭ ‬لتطوير‭ ‬الواقع‭ ‬وحل‭ ‬مشكلاته،‭ ‬فإن‭ ‬معضلة‭ ‬التعليم‭ ‬الكأداء‭ ‬تكمن‭ ‬بالأساس‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬المبدع‭ ‬والمنتج‭. ‬ولكي‭ ‬يتمكن‭ ‬التعليم‭ ‬من‭ ‬تخليق‭ ‬الإنسان‭ ‬المبدع‭ ‬فلابد‭ ‬أن‭ ‬يتأسس‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬شاملة‭ ‬تحرر‭ ‬ذهنية‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬التخلف‭ ‬الفكري،‭ ‬فكيف‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك؟

يجيب‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬في‭ ‬عبارات‭ ‬ساطعة‭ ‬الدكتور‭ ‬حسن‭ ‬البيلاوي‭ ‬في‭ ‬مؤلفه‭ ‬المهم‭ (‬الإيديولوجيا‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬والمجتمع‭) ‬تحت‭ ‬عنوان‭: ‬‮«‬المنهج‭ ‬الخفي‭ ‬في‭ ‬المدارس‮»‬‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬بينت‭ ‬دراسات‭ ‬مهمة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬باحثون‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬أساتذة‭ ‬التربية‭.. ‬أن‭ ‬السياقات‭ ‬الثقافية‭ ‬المهيمنة‭ ‬داخل‭ ‬جدران‭ ‬الدراسة‭ ‬والمدارس‭ ‬المعاصرة‭ ‬هي‭ ‬لثقافات‭ ‬ماضوية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬إبستمولوجيا‭ ‬الحفظ‭ ‬والتلقين‭ ‬والمعرفة‭ ‬المعلبة‭ ‬السابقة‭ ‬التجهيز‭ ‬وإيديولوجيات‭ ‬تكرس‭ ‬الصمت‭ ‬والإذعان‭ ‬والسلبية‭ ‬لدى‭ ‬التلاميذ‭ ‬والمدرسين‭ ‬معًا‭ ‬وتقتل‭ ‬فيهم‭ ‬روح‭ ‬المبادرة‭ ‬والتفكير‭ ‬والنقد‭ ‬والإبداع‮»‬‭.‬

ويعزو‭ ‬د‭. ‬البيلاوي‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬الماضوية‭ ‬التي‭ ‬أجهزت‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬أمل‭ ‬ورجاء‭ ‬في‭ ‬التنوير‭ ‬إلى‭ ‬الهيمنة‭ ‬الثقافية‭ ‬للفكر‭ ‬التقليدي‭ ‬على‭ ‬التعليم‭ ‬التي‭ ‬لعبت‭ ‬دورًا‭ ‬مؤثرا‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬حركة‭ ‬التفاعل‭ ‬الاجتماعي‭. ‬ونظرًا‭ ‬إلى‭ ‬العلاقة‭ ‬الجدلية‭ ‬بين‭ ‬التعليم‭ ‬والتنمية‭ ‬فإن‭ ‬الجودة‭ ‬الحقيقية‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬أساليب‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬الهيمنة‭ ‬الثقافية‭ ‬التقليدية‭ ‬وتأسيس‭ ‬التنوير‭.‬

ذلك‭ ‬لأن‭ ‬الإنسان‭ ‬المنتج‭ ‬هو‭ ‬الإنسان‭ ‬المتنور‭ ‬المبدع‭ ‬الذي‭ ‬تحرر‭ ‬عقله‭ ‬من‭ ‬أصفاد‭ ‬الإيديولوجيا‭. ‬إن‭ ‬جودة‭ ‬التعليم‭ ‬ترتكز‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬نسق‭ ‬ثقافي‭ ‬مغاير‭ ‬للنسق‭ ‬السابق،‭ ‬نسق‭ ‬جديد‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬التدريب‭ ‬المتواصل‭ ‬على‭ ‬إعمال‭ ‬العقل‭ ‬وممارسة‭ ‬النقد‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬مقصورًا‭ ‬على‭ ‬الطلاب‭ ‬وإنما‭ ‬يشمل‭ ‬أيضًا‭ ‬تنمية‭ ‬قدرات‭ ‬المدرسين‭ ‬النقدية‭ ‬الذين‭ ‬تشكلت‭ ‬خبراتهم‭ ‬التعليمية‭ ‬على‭ ‬التلقين‭ ‬والحفظ‭ ‬لكي‭ ‬يتمرسوا‭ ‬بالفكر‭ ‬النقدي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬‮«‬لا‭ ‬سلطان‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬إلا‭ ‬العقل‮»‬‭.‬

 

{ أستاذ‭ ‬فلسفة‭ ‬اللغة‭ ‬والأدب‭ ‬الفرنسي‭ ‬

بكلية‭ ‬الآداب‭ - ‬جامعة‭ ‬حلوان

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا