لا يماري أحد في أن المجتمعات العربية تعج برواد لامعين في سماء الفكر والعلم والأدب ولهم كتابات غزيرة وعميقة قيض لبعضها أن ينشر ويترجم إلى لغات أجنبية مختلفة وحاز الكثير منها اهتمام الباحثين الغربيين، كل بحسب اختصاصه، في محاولاتهم المستمرة لفهم مشكلات الواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي لبلاد المشرق العربي.
وإذا كان هؤلاء الرواد بمثابة جزيرات مضيئة غنية بأفكارها فهي لا تزال مقيدة في مدى فاعليتها وقدرتها على إحداث ثورة فكرية جذرية. شغلت هذه القضية، ولا تزال، اهتمام الباحثين الذين يحلمون بالنهضة وبلوغ الحداثة. فرغم ما تحويه كتابات هؤلاء الرواد من أفكار وإمكانات معرفية هائلة تضيء السبيل إلى التجديد والابتكار في ميادين التعليم والمعرفة تظل بكل ما تحمله من جدة وإبداع نظري بعيدة عن التوظيف الفعلي في مشاريع حقيقية رائدة خليقة ـلو تحققت ـ أن تحدث طفرة معرفية كبيرة في العالم العربي.
ولئن تمكن عدد كبير من المفكرين العرب من تحصيل واستيعاب أحدث ما أنتجته قرائح الفكر الغربي في العلوم الإنسانية والاجتماعية فثمة قيود وعراقيل حالت بينهم وبين تحقيق النقلة الحضارية التي تخرج بلادهم من هوة التراجع الحضاري. ذهب البعض إلى أن الظاهرة الملحوظة في المجتمعات العربية هي أن مفكريها يستوردون فكر الغرب ويستهلكونه كما تستورد سلعه ومنتجاته.
وعلى حين أن الفكر الغربي يركز في علومه الإنسانية من فلسفة وإدارة واقتصاد وسياسة على دراسة الواقع الغربي وتحليله من أجل رصد تطوراته والكشف عن تناقضاته مستعينًا في ذلك بما ابتكره من أدوات ونظريات ومنهجيات فإن الفكر العربي أخفق في القيام بمقاربات مماثلة في فهم واقعه المأزوم وأزمة الإنسان العربي فظل يدور في فلك الفكر الغربي متماهيًا مع مشكلاته لكنه عاجز عن فهم الواقع العربي وقضاياه.
وقد علق على هذه الظاهرة عالم الاجتماع مصطفي حجازي بقوله: «إننا نتحدث فكريًا عن الحداثة في مختلف مكوناتها ومظاهرها من مواطنة وديمقراطية وحرية فردية وعقلانية.. ونخوض في النقاشات المستفيضة وتصدر الأعمال التي لا تكاد تُحصى في هذه القضايا، ولكن يظل الحديث والنقاش دائرًا على المستوى الفكري فقط في الأعم الأغلب من الحالات».
لننظر مثلًا في قضية التعليم في بلادنا. الواقع أن التعليم لم يتمكن بعد من الربط بين الحياة والتنمية والإنتاج رغم أحاديث خبرائه المستفيضة والمجردة حول مفهوم «الجودة في التعليم»! الحق ان الإشكالية الأساسية في التعليم تكمن في عجزه عن إعداد الإنسان المبدع المنتج. وإذا كان الإبداع هو قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة لتطوير الواقع وحل مشكلاته، فإن معضلة التعليم الكأداء تكمن بالأساس في غياب هذا الإنسان المبدع والمنتج. ولكي يتمكن التعليم من تخليق الإنسان المبدع فلابد أن يتأسس على عملية شاملة تحرر ذهنية الإنسان من التخلف الفكري، فكيف يحدث ذلك؟
يجيب عن هذا السؤال في عبارات ساطعة الدكتور حسن البيلاوي في مؤلفه المهم (الإيديولوجيا في التعليم والمجتمع) تحت عنوان: «المنهج الخفي في المدارس» بقوله: «بينت دراسات مهمة قام بها باحثون من كبار أساتذة التربية.. أن السياقات الثقافية المهيمنة داخل جدران الدراسة والمدارس المعاصرة هي لثقافات ماضوية تقوم على إبستمولوجيا الحفظ والتلقين والمعرفة المعلبة السابقة التجهيز وإيديولوجيات تكرس الصمت والإذعان والسلبية لدى التلاميذ والمدرسين معًا وتقتل فيهم روح المبادرة والتفكير والنقد والإبداع».
ويعزو د. البيلاوي هذه الثقافة الماضوية التي أجهزت على كل أمل ورجاء في التنوير إلى الهيمنة الثقافية للفكر التقليدي على التعليم التي لعبت دورًا مؤثرا في تشكيل حركة التفاعل الاجتماعي. ونظرًا إلى العلاقة الجدلية بين التعليم والتنمية فإن الجودة الحقيقية في التعليم تكمن في أساليب التحرر من الهيمنة الثقافية التقليدية وتأسيس التنوير.
ذلك لأن الإنسان المنتج هو الإنسان المتنور المبدع الذي تحرر عقله من أصفاد الإيديولوجيا. إن جودة التعليم ترتكز على خلق نسق ثقافي مغاير للنسق السابق، نسق جديد يقوم على التدريب المتواصل على إعمال العقل وممارسة النقد بحيث لا يكون مقصورًا على الطلاب وإنما يشمل أيضًا تنمية قدرات المدرسين النقدية الذين تشكلت خبراتهم التعليمية على التلقين والحفظ لكي يتمرسوا بالفكر النقدي القائم على مبدأ «لا سلطان على العقل إلا العقل».
{ أستاذ فلسفة اللغة والأدب الفرنسي
بكلية الآداب - جامعة حلوان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك