في كثير من الحالات، لا تكون المشكلة في غياب القانون، إنما في غياب من يشرحه بلغة يفهمها الناس.
خذ على سبيل المثال قانون الأسرة في البحرين-فهو موجود، لكن كم من الناس يعرفونه حقا؟ وكم من الحقوق تُهدر، ليس فقط بسبب صعوبة النصوص في بعض الأوقات، بل لأن الطريق إلى فهمها لم يُمهد كما ينبغي؟
القوانين وُضعت لتنظيم حياة الناس، لكنها تحتاج أحيانا إلى من يُقربها إليهم بلغة مفهومة وسياق مألوف.
نشر القوانين في الجريدة الرسمية خطوة أساسية، لكنها لا تكتمل ما لم تُترجم مضامينها إلى فهم مبسط يصل إلى الناس، وتُفعل مبادئها في تفاصيل الحياة اليومية، حيث تتجلى العدالة لا في النصوص وحدها، لكن في السلوك والتصرفات أيضا.
فالقانون، مهما كان محكما يبقى بعيد الأثر إن لم يُفهم كما يجب. ومن واقع تجربتي القانونية، لطالما واجهت هذا السؤال بصيغ مختلفة:
«ماذا يقصدون بهذه المادة؟»
«هل يحق لي كذا؟»
«أنا قرأت النص، لكن لم أفهم ماذا يعني فعليا..؟».
أسئلة متكررة من أناس ليسوا قاصرين ولا محدودي الاطلاع، إنما فقط لم يُكتب القانون بلغتهم. وهؤلاء لا يحتاجون إلى من يترافع عنهم فقط، بقدر ما يحتاجون إلى من يُقرب إليهم النصوص قبل أن يواجهوها مضطرين.
لهذا، أؤمن أن وجود دليل مبسط، يشرح القانون بلغة الحياة، ليس ترفا ولا رفاهية، بل ضرورة في أي مجتمع يريد أن يكون واعيا بحقوقه وواجباته.
وقد تكون البداية الأنسب من قانون الأسرة، باعتباره الأقرب إلى حياة الناس، والأكثر تأثيرا على استقرارهم النفسي والاجتماعي.
كم من امرأة تُنهي زواجها ولا تعرف ما إذا كانت تستحق نفقة مؤقتة أو بدل سكن؟
وكم من أب يجهل أن الحضانة لا تعني بالضرورة حرمانه من رؤية أطفاله؟
وكم من شاب أو فتاة يدخلان الزواج من دون معرفة حقوقهما وواجباتهما؟
وجود دليل قانوني واضح، غير منغلق في المصطلحات، يستعين بالأمثلة الواقعية، ويُفسر النصوص كما لو أنه يتحدث من قلب البيت.. سيكون إضافة حقيقية.
دليل لا يُرهب الناس من القانون، ولا يُربكهم بتعقيده، بل يسبق الحاجة إليه، ويمنحهم فهما استباقيا يحميهم من القرارات المرتجلة.
صحيح أن لكل قانون مذكرته التفسيرية، لكنها غالبا ما تُخاطب المختصين من قضاة ومحامين. أما المواطن الذي يعيش القانون في تفاصيل حياته، فهو بحاجة إلى شيء آخر.. بحاجة إلى فهم يمكنه لا يُربكه.
وهذا هو الفارق بين المذكرة القانونية والدليل الذي نقترحه: الأولى تُخاطب من يُفسر النصوص، والثاني يُخاطب من يُطبقها ويعيشها.
ندرك أن هناك جهودًا قائمة، كالكتيبات الصادرة عن بعض الجهات، لكنها غالبا ما تكون موجهة إلى فئة محددة، أو لا تصل إلى الناس في وقتها، أو لا تستمر.
ما نطمح إليه هو مرجع دائم، لا يرتبط بحملة مؤقتة ولا بمؤسسة واحدة، بل يكون جزءًا من مشروع وطني متكامل لتعزيز الوعي القانوني.
ونحن إذ نبدأ بقانون الأسرة، لا نغفل أهمية تطويره في المستقبل. لكن لا يمكن المطالبة بتعديل نص لا نفهمه، أو تقييم أثر بند لم نختبره إلا من زاوية واحدة. الفهم أولا، ثم النقاش.
ومن المفيد أن يُصاغ هذا الدليل بتعاون مرن بين المختصين في الشأن القانوني والاجتماعي والتوعوي، ليحمل لغة دقيقة، واقعية، وقريبة من الناس.
ومثل هذا المشروع ليس محليا خالصا، بل له سوابق ملهمة في دول أخرى. ففي بعض الولايات الأمريكية، وُضعت أدلة قانونية بلغة مبسطة للمواطنين. وفي المغرب، رافق تطبيق مدونة الأسرة شروحات مبسطة للعامة.
أما في البحرين، فالمبادرات التوعوية موجودة، لكنها لم تتبلور بعد في دليل مدني موحد، يصل إلى كل فئات المجتمع بطريقة عملية ومستدامة. وهنا تبرز الحاجة إلى مبادرة تُكمل ما بدأ، وتُسهم في توسيع أثر القانون في الحياة اليومية.
ولا يجب أن تتوقف هذه الفكرة عند قانون الأسرة. تخيلوا أدلة مبسطة لقوانين الطفل، الخصوصية، البيئة، العمل.. أدلة تربط القانون بسلوك الناس، وتمنحهم قدرة على اتخاذ القرار بثقة، ليس خوفا أو جهلا. هذا المشروع، إن تحقق، فلن يكون دعما للوعي القانوني فقط، بل استثمارًا في الوقاية والعدالة والاستقرار. سيخفف النزاعات، ويُشرك المواطن في تقرير مصيره، ويمنحنا بيئة قانونية ناضجة لا تفاجئنا، بل نعيشها بوعي وثبات.
وإذا بدأنا من الأسرة، نكون قد وضعنا أول حجر في جسر طويل.. جسر يربط القانون بالناس، لا حين يكونون في المحكمة، لكن وهم في بيوتهم، في تفاصيل حياتهم اليومية، يعرفون ما لهم وما عليهم.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك