وجدت هذه الحكاية في صندوق جدي الحديدي، ولا أعرف إن كانت من تأليفه أم منقولة من حكاية سمعها أو قرأها، لكنها حكاية تستحق أن تروى، تقول الحكاية:
بعد أن آوت العائلة إلى فراشها بالليل، ذهب الأب بعد الجميع لينام على فراشه، ولكن في لحظات سمع طرقات قوية وضجيج على باب المنزل. ذهب مسرعًا حتى لا يستيقظ أحد من أفراد العائلة أو زوجته، وربما حتى الجيران، حيث إن البيوت متلاصقة الجدران خفيفة، فالضجيج كان عاليًا وبشدة.
فتح الباب وإذا برجل غريب ومهيب الهيئة واقف على الباب، فوبخه صاحب البيت قائلاً: لماذا كل هذا الضجيج؟ من أنت؟ وماذا تريد؟
قال الغريب: لن يسمعني أحد، فقط أنت، ولن يراني أحد فقط أنت.
صاحب الدار: هل من المعقول أنه لم يسمع أحد هذا الضجيج؟ هذا هراء.
الغريب: هذه حقيقة، المهم، حان الوقت تعال معي.
صاحب الدار: ماذا تقول، من أنت حتى آتي معك في منتصف الليل.
الغريب: أنا ملك الموت، وحان الوقت لمغادرة الدنيا.
لم يستطع صاحب الدار أن يتمالك نفسه، ولم تستطع قدماه أن تحمله، فسقط على الأرض، وملك الموت يستعجله، «هيا بنا حتى لا نتأخر».
صاحب الدار: لا مستحيل، أنا عندي أطفال، وزوجة، ولم أتمتع بالدنيا بعد.
الغريب: هذا وقت المغادرة، هيا.
صاحب الدار: على الأقل دعني أودع زوجتي، فأنا لم أجلس معها لنتحدث ونتسامر منذ فترة، حتى أنها اليوم صنعت لنا وجبة رائعة، فلم أتمكن من شكرها.
رفض الغريب.
صاحب الدار مرة أخرى: حسنا، على الأقل أودع أبنائي، فمنذ زمن لم ألعب معهم ولم أجالسهم، ولم أتمتع بحياتي معهم.
الغريب: وماذا كنت تفعل طوال حياتك السابقة إذن؟
كان صاحب الدار يحاول بأي طريقة المماطلة، إلا أن ملك الموت أصر على موقفه، وفي النهاية أخذه من يده وسحبه وحاول أن يجرجره إلى خارج المنزل، فما كان من صاحب الدار إلا أن يصرخ: «لا أريد الذهاب، أنا مازلت شابًا لم استمتع بالحياة، لا أريد الذهاب»، وبدأت صرخاته تتطاير مع سكون الليل، وكان يصرخ ويصرخ، والصوت يعلو ويتضاعف.
سمعته زوجته التي كانت نائمة بجانبه وهو يصرخ فأيقظته من النوم، وإذا هو في كابوس وليس حقيقة.
فاستيقظ صاحب الدار من نومه فزعًا، وذهب إلى أبنائه وحضنهم، وزوجته تشاهد المنظر وهي مستغربة، ثم ذهب إلى زوجته وقبلها وقال لها: أنا آسف على كل تقصيري معك. والزوجة مازالت مستغربة.
وفي اليوم التالي وفي الصباح الباكر وقبل ذهابه إلى العمل، عرج على بيت والده ودخل على والده وهو يفطر مع والدته، فقام بتقبل أيديهما ورأسيهما، وبكى في حضن والده، والوالد في ذهول. ووعد والده ووالدته أنه سيزورهما كل يوم ولا يقطع حبل الود والرحم، مهما كانت ظروفه.
يقول جدي معقبًا على هذه الحكاية «عش ما شئت، وكيفما شئت، ولكن لا تنس أن تعيش مع عائلتك الصغيرة والكبيرة، فأنت جزء من كل».
هذه الحكاية أخذتني إلى موضوع خطير ومهم، وهو أننا نعيش في حياتنا بالطول والعرض، وحتى لا نعد الأعمار، إلا أثناء احتفالات أعياد الميلاد، ننسى كل شيء أثناء تجوالنا في الحياة، ننسى والدينا، وأولادنا وشريك العمر، بعضنا يفكر في الاستمتاع، وبعضنا يفكر في العمل، وبعضنا لا يفكر في شيء، المهم أن يعيش بأي طريقة كانت، ولكن في لحظة النهاية ولحظة المغادرة يجد أن هناك الكثير من الأمور المهمة التي لم يقم بها، ولكن يكون الأوان قد فات.
لذلك وضع علماء التنمية البشرية ما يعرف (بعجلة الحياة)، بهدف أن يعيش الإنسان حياته بصورة متساوية متوازية بين متطلبات الحياة واحتياجاتها، بحيث لا يطغى جانب على جانب. وعجلة الحياة مكونة من 8 مجالات رئيسية، هي:
المجال الروحي: عندما نتحدث عن الروح فإننا نتحدث عن جوانب مظلمة لا نعرفها إلا من خلال القرآن الكريم، لذلك فإن القرآن يرشدنا أن هذا الجانب هو جانب محوري من حياة الإنسان، فالروح عندما لا تُشبّع فإن الإنسان يتوه في الحياة، ويصاب بالعديد من الإمراض النفسية والفكرية وحتى الجسدية، لذلك فإنه ينبغي الاهتمام بهذا المجال، وذلك بأن يتم التواصل مع الله سبحانه وتعالى من خلال الصلاة والاهتمام ببقية البشر وحتى الكائنات الحية بالأخلاق الراقية والسلوك والقيم، ولا يتم كل هذا إلا بقراءة القرآن الكريم والتقيد بتعليماته.
المجال العقلي: يتميز الإنسان عن بقية الكائنات الحية بعقله وفكره، فهو المخلوق الوحيد الذي يستطيع أن يتخذ القرار، ويفكر في المستقبل، ويسير حياته وفق المنهجية التي يراها مناسبة. وحتى يتم الاهتمام بالمجال العقلي فإنه يجب الاهتمام بالقراءة سواء الورقية أو الإلكترونية، ولكنه ينبغي أن يتخلص من إدمان وسائل التواصل الاجتماعي لأنه ليس لها علاقة بالقراءة وإنما هي لقتل الوقت، وهذا يعني أنه يجب أن يستمر في عملية التعلم بقدر الإمكان، بغض النظر عن عمر الإنسان، فالتعليم والاهتمام بالعقل وتطويره والتفكير يعطي الإنسان مساحة رائعة من مجالات الحياة.
المجال الصحي: قالت العرب زمان «إن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء، لا يراه إلا المرضى»، هذه الحكمة واضحة وسليمة بنسبة كبيرة، فلا يمكن أن يقوم الإنسان بأي عمل إلا إذا كان سليم البدن، سليم النفسية، سليما من الناحية العقلية. وحتى تكتمل المجالات الصحية فإنه ينبغي أن يأكل الإنسان الأغذية ذات القيمة الغذائية المناسبة له، وبالكميات المناسبة، ليس أقل أو أكثر، وكذلك أن يمارس الرياضة اليومية والأسبوعية، وينام بصورة جيدة وبعدد ساعات مناسبة، هذه الأمور وبعض الأمور الأخرى تسهم في تنمية صحة الإنسان بقدر كبير.
المجال العاطفي: الحب والعاطفة والرحمة وما يخالج القلب من شعور أمر ضروري، فالحقد والكراهية لا تنعكس إلا على صاحبها، وهي التي تتسبب في الإصابة بالأمراض النفسية والاكتئاب وكذلك أمراض القلب وضغط الدم، لذلك على المرء أن يتخلص من كل تلك الأمراض وكل هذا الحقد ويحاول أن ينمي الشعور بالرضا النفسي والحب والتغافل وكثير من الجوانب الإيجابية.
المجال المالي: المال جزء مهم من حياة الإنسان، ومن ينكر هذه الحقيقة فهو لا يعرف أن يعيش، لذلك على المرء أن يعمل ويجد من أجل الحصول على المال الكافي لبقائه وأسرته، وكذلك يحاول أن يشعر بنوع من الرضا في وظيفته حتى لا يصاب بالفشل والعجز. وحتى الأغنياء فإن عليهم أن يعملوا قدر الإمكان فالثروة المتوارثة والجلوس من غير عمل بسبب الثراء يسبب الفراغ والترهل في جميع الجوانب، وهذا في حد ذاته مرض، ويربك عجلة الحياة.
المجال الترفيهي: الترفيه ليس ترفًا، بل هو جزء أساسي من نمط حياة صحي ومتوازن، وتجاهله قد يؤدي إلى الإرهاق النفسي والجسدي، بينما الاهتمام به يعزز جودة الحياة، فالترفيه يساعد على تخفيف التوتر والضغوط اليومية، ويمنح العقل فرصة للراحة والتجديد، هذا يسهم في تحسين المزاج وتقليل القلق والاكتئاب. وكذلك فإن الترفيه الجماعي، مثل حضور الفعاليات أو اللعب مع الأصدقاء، يعزز الروابط الاجتماعية ويقوي الشعور بالانتماء. بالإضافة إلى أن الراحة والترفيه المنتظم يجعل الإنسان أكثر تركيزًا وإنتاجية في العمل أو الدراسة، لأنه يعود بنشاط ذهني وجسدي متجدد.
المجال الاجتماعي: الإنسان كائن اجتماعي، ولا يمكنه إلا أن يعيش في وسط اجتماعي، فمهما طالت سنوات الغربة أو الوحدة، فإن الإنسان لا بد أن يعود إلى محضن يأويه، ولكن عادة فإن الحياة الاجتماعية أو أي محضن يمكن أن نعيش فيه قد لا يكون مثاليًا، لذلك على المرء أن يصبر مع والديه، يصبر على أولاده وزوجته أو زوجه، والمجتمع الذي يعيش فيه، يتعاون مع أفراد المجتمع ولا يعزل نفسه ويعيش في برج عاجي، فإن هذا لا يمكن في يوم من الأيام أن ينشئ مجتمعا صحيا وأفرادا متكاملين.
المجال الأسري: لا أعتقد أنه يوجد إنسان على هذه الكرة الأرضية ينكر ما للأسرة من أهمية، سواء كنا نتحدث عن الأسرة الكبيرة المكونة من الوالدين والأشقاء والشقيقات أو الأسرة الصغيرة المكونة من زوج أو زوجة وأولاد. في هذا المكان، على الرغم من كل الصعوبات التي نعيش فيها بسبب بعض الخلافات أو المنغصات فإنه المكان الوحيد في العالم الذي يمكن أن يكون فيه الإنسان على طبيعته. فعندما نكون في هذا المكان يشعر الإنسان بالراحة النفسية والفكرية والروحية، لذلك لا بد ألا نفرط فيه، فمهما كانت مشاغلنا خارج المنزل فإنه ينبغي أن نفرغ جزءا من الوقت مع هؤلاء الذين يعيشون معنا، سواء رغبنا في ذلك أم لم نرغب.
يجب أن يتعايش الإنسان مع كل هذه المجالات بصورة متوازنة ومتكاملة، فأي خلل في أي مجال فإن العجلة لن تسير بصورة جيدة، حينئذ فإن الإنسان حتمًا سيتعثر، وحينما يسقط فإنه ربما لا يمكنه أن يقف إلا بعد حين، ربما حينها يكون ملك الموت واقفا ببابك ويريد أن يأخذك إلى حياة أخرى.
على الإنسان أن يعيش بتوازن مع جميع المجالات مهما كانت مشاغله، فنحن نعيش في مجتمع متداخل وحياة متكاملة، خذ من كل شيء بعض شيء، ولكن يجب أن تعيش فالسعادة لها ثمن والحياة لها ثمن، فهل دفعنا الثمن المناسب حتى نعيش في سعادة؟
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك