زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
اهزم المرض بالفضفضة والابتسام
علاقتي بالطب، مثل علاقة شعبان عبدالرحيم بفن الغناء، يعني أنا دخيل على الطب كما أن شعبولا دخيل على الغناء، ولكنني أتوقف كثيرا عند كل مادة مكتوبة أو مبثوثة عبر الأثير، تتكلم عن الشؤون الصحية بلغة خالية من الألغاز الطبية، ومن هنا جاءت قراءتي قبل سنوات لمادة عن الدكتور بيرني سيجل، وهو جراح أمريكي مرموق في مجال السرطان، وله مؤلفات تخاطب أمثالي من العوام الذين لا يفهمون المصطلحات الطبية، وكنت كلما تحدثت مع صديقي السعودي الراحل صالح العزاز عندما كان يتعالج في مستشفى امريكي، من ورم في الدماغ أتذكر الدكتور سيجل، فقد ادهش العزاز الأطباء بثباته وتماسكه، ورفض الانهزام أمام المرض، فرغم انه خضع لثلاث جراحات كانت اثنتان منها على درجة عالية من الخطورة، وخضع لعلاج كيميائي وإشعاعي، قال طبيبه إن فتى القصيم كان يتحلى بجلد نادر المثال، وإنه كان دائم الدعابة والمرح وإن ذلك ساعده على هزيمة المرض لفترة طويلة جدا، شارحا أن آخرين عانوا من نفس تلك الأورام لم يصمدوا ولا عُشْر (1/10) المدة التي صمدها العزاز، وحتى عندما أدرك العزاز انه خسر معركته مع المرض تقبل ذلك بهدوء، وكان يداعب مرافقيه كي يخفف عليهم حزن فراقه الوشيك، ويقول سيجل إن اهتمام المريض بعافيته الروحية والنفسية يسهم إلى حد كبير في قهر السرطان، بمعنى ان الأمر لا يتعلق فقط بالاهتمام بالتغذية وتعاطي الأدوية بل بالتسلح بالتفاؤل وعدم فقدان الأمل، وتؤكد الاحصاءات ان السيدات اللواتي تم استئصال أثدائهن ويعبرن عن خوفهن وحزنهن بأصوات مسموعة تكون فرص شفائهن أعلى من اولئك اللواتي يكتمن مشاعرهن، بمعنى ان الفضفضة تريح الأعصاب، فالتعبير عن الخوف ليس دائما دليل جزع، فما من إنسان سوي إلا ويجزع لوقوع مصيبة، ولكن أن «تقطَّع الحزن في مصارينك» كما نقول في السودان عمن يخفي حاله وحالته، فذلك سوس ينخر فيك ويهد حيلك ويأكل عافيتك.
في مجلة متخصصة في شؤون الصحة والطب، قرأت خلاصة بحث جاء فيه ثبوت ان الضحك «من القلب»، يسهم في الشفاء من العديد من الأمراض العضوية، لان ذلك يؤدي الى إفراز الاندورفين، وهو هرمون طبيعي يفرز في حالات الفرح ويمنح الشخص نظرة إيجابية متفائلة!! ومشكلتنا هي أن الضحك او الابتسام لا يمثل عنصرا ثابتا في حياتنا، أولا لأن الكثيرين منا يعتبرون العبوس والتجهم دليل جدية و«أهمية»، وثانيا لأنه ليس في حياتنا اليومية مبهجات كثيرة، ولأننا لا نتقن صناعة الفرح، ومعظم احتفالاتنا تقتصر على «الأكل»، وقد تسنى لي حضور جلسات علاج بالموسيقى لمرضى نفسيين في مستشفى يحمل اسم عملاق الطب النفسي السوداني البروفسور التجاني الماحي، المدير الإقليمي الأسبق لهيئة الصحة العالمية في مدينة ام درمان، بإشراف المغني الراحل عبد العظيم عبد الله الشهير بـ«حركة» وكان خفيف الظل حلو اللسان، وأذكر أنه كان يتوسط مجموعة من المرضى ويغني عندما اكتشف ان بعضهم نائم والبعض الآخر ساهم، فصاح فيهم: يا حيوانات هذه أغنية تحرك الصخر وأنتم لا تحسون بها، فانفجروا ضاحكين، وأوضح «حركة» أن الخبرة علمته ان المريض النفسي يرتاح كثيرا اذا ضحك من أعماقه فكان من ثم يضحكهم عن طريق الصدمات فيقول لأحدهم مثلا: أنت ما عندك مرض، أنت محتجز في المستشفى لأن شكلك غير سياحي! فيضحك صاحبنا لأنه بالفعل دميم التقاطيع، ولأن «حركة» برأه من المرض وأثبت دمامته، وسألت طبيبا نفسيا عن سر نجاح حركة في التعامل مع المرضى فقال: لأنه يعطي المرضى الإحساس بأنه منهم وهم منه، فلا يتعالى عليهم ولا يفرض وصاية عليهم ويعاملهم بندية. ومات حركة في عز شبابه ولكن الكثيرين ممن أضحكهم وأطربهم في ذلك المستشفى يحفظون له الجميل بعد أن استردوا عافيتهم النفسية!

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك