القراء الأعزاء،
تحت عنوان (عصر النسيان) تسلمت من صديقة تعليقاً للدكتور جمال علي العطار يقول فيه: (عندما أدخلنا التلفزيون إلى بيتنا نسيت كيف أقرأ الكتب، وعندما اشتريت السيارة نسيت كيف أمشي، وعندما صار عندي «موبايل» نسيت أن أكتب رسائل على الورق، وعندما صار عندي كمبيوتر نسيت أن أتهجّى الكلمات، وعندما تم تحويل راتبي إلى البنك وأسحبه بالفيزا نسيت قيمة المال، ومع رائحة العطور نسيت رائحة الورد، ومع الوجبات الجاهزة نسيت رائحة طبيخ البيت، ومع الجري المتواصل في الحياة نسيت كيف أتوقف! وأخيراً عندما صار عندي واتساب نسيت أن أزور أهلي وأصدقائي).
وطالبتني صديقتي بأن أكتب مقالاً عن هذا (الوجع) كما شعرته هي وأشعره دائماً ويشعره الكثير مثلنا من الأجيال التي عاشت الإنسانية ومارستها ببساطتها وأريحيتها، ولا شك بأن ما كتبه الدكتور جمال كان هو السهل الممتنع الذي يُمثل همّنا المعاصر، والذي نعلمه ونفكر فيه ونناقشه في لقاءاتنا بشكل عرضي ولكن لم نتطرق إليه في مقال سابق، والحقّ بأن الحديث في هذا الأمر ذو شجون.
واتفق مع كثير مما قاله الدكتور ولي رأي آخر في بعضه، ذلك أنه صحيح بأن زيارات الأهل والأقارب لم تعد صلة رحم حقيقية في كثير من الأحيان، بل صورية جداً إذا ما كانت الأجساد حاضرة بينما عيون أكثرهم متسمّرة على الهواتف، فيما الأرواح والعقول والقلوب هائمة في منصات التواصل الاجتماعي، كما أصبحت بالفعل رسائل الواتساب هي وسيلة التعبير عن المواساة ومشاركة الافراح وايصال الرسائل المختلفة، وشتان ما بين لقاء انساني مكلّل بلغة جسد وحواس خمس تنقل دفء المشاعر ويلاحظها ويشعرها طرفا اللقاء وبين كلمات جامدة قام بتصحيحها مصحح لغوي في هاتف ذكي عبر وسيلة تواصل اجتماعي، وشتان بين قراءة كتاب تحسّه رفيقاً وصديقاً، يكون بين يديك حيناً وفي حضنك آخر، تلمس إحساس ورقه وعبق رائحته وتعيش مع أبطاله بين أروقة أوراقه، وبين قراءة جامدة على الكمبيوتر أو أحد الألواح الذكية، كما أن هناك فرقا شاسعا بين أكل البيت المضمون المُبهّر بالحب والحنو وبين الوجبات الجاهزة.
وإذ يقول الله تعالى (ولقد كرّمنا بني آدم) فالإنسان وهو الكائن الحيّ الأسمى المتغيّر بطبيعته والمتطور دائماً فهو الذي يمتلك القدرة على الابتكار وتذليل عناصر الكون المختلفة لخدمته، ولعل التطور التكنلوجي والذكاء الاصطناعي يُعد ذروة ما توصل إليه العقل البشري في الوقت الحاضر، وهو تطور يصب في خدمة البشرية والإنسانية، ولكن وكما ما نعلم بأن كل شيء في الحياة يحتمل النقيضين (الخير والشر، السلب والايجاب، المنفعة والضرر) ويعتمد ذلك على كيفية استخدامه وتوظيفه، فالتكنولوجيا وجميع الاختراعات قد وجدت من أجل تسهيل حياة الانسان ومساعدته وتوفير سُبل الراحة له، لا لتشلّ ارادته أو جسده وتلغي وجوده كأسمى مخلوقات الله.
وهنا – وفي رأيي الشخصي– أرى بأن إرادة الانسان تلعب دوراً مهما في استخدام وتوظيف مخرجات التقدم العلمي والتكنلوجي، فهو الذي يُقرر أن يستعيض بالسيارة مثلاً عن المشي ويُلغي استخدام قدميه فيما يستطيع أن يوازن في استخدام الاثنين بحسب الحاجة والظروف، وينسحب ذلك على جميع ما طرحه الدكتور جمال، فالاستخدامات مرتبطة بالوعي والإرادة للبالغين، وفيما يتعلق بي فإن البالغين هم آخر همي، فالهمّ الحقيقي هو أطفال اليوم، أجيال الغد الذين فات أكثرهم أن يعيشوا أطفالاً ويمارسوا الطفولة بشقاوتها وشغبها وأضطر أكثرهم إلى لبس نظارة طبية لتحسين بصره، ولم يتسنّ لهم أن يلمسوا التراب ويحثوه على شعرهم ويتسرب شيء منه إلى معدتهم، الذين لم يركضوا في الطرقات ويلعبوا مع أقرانهم فلم يصنعوا ذكريات تربطهم بالأماكن والأشخاص، ولم ولم.. ولم.
وإن كنت سأنادي في آخر هذا المقال بشيء فهو بضرورة تنمية وتعزيز الوعي بقيمة الإنسانية وأهمية وقوة عقل وجسم وطاقة الإنسان وضرورة تفاعله مع عناصر البيئة المختلفة والتقليل من قدرة التكنولوجيا على عزله عن جوانبه الانسانية، وأيضا على ضرورة استيقاظ الأسرة وعملهم على تمكين أطفالهم من أن يعيشوا طفولتهم، بجانب تشريعات صارمة تؤكد ذلك وتضمن تحقيقه.
Hanadi_aljowder@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك