ظهر في السنوات الأخيرة مصطلح جديد يُعرف بـ«أشجار التبريد» (Cooling Trees)، وهو يشير إلى أنواع من الأشجار التي تمتاز بقدرتها العالية على تخفيض درجات الحرارة في البيئة المحيطة بها. وتكتسب هذه الأشجار أهمية مضاعفة في المناطق المعروفة باسم «الجزر الحرارية» (Heat Islands)، وهي مناطق ترتفع فيها درجات الحرارة بشكل لافت مقارنة بالمناطق المجاورة بسبب الأنشطة البشرية. وتُعد المدن الكبرى أبرز أمثلة هذه الجزر الحرارية، حيث تكتظ بالبنايات والطرق ووسائل النقل، بينما تفتقر إلى الأشجار والمسطحات الخضراء، وهو ما يؤدي إلى احتباس الحرارة داخلها وارتفاع درجاتها، كذلك تندرج المناطق الصناعية ضمن هذا التصنيف، نتيجة الانبعاثات الناتجة عن العمليات الصناعية والغازات الدفيئة التي تسهم في رفع حرارة الأرض.
لقد أصبح من الواضح أننا نعيش على كوكب ترتفع فيه درجات الحرارة بوتيرة متسارعة. الحرارة لم تعد فقط مسألة طقس يومي، بل تحوّلت إلى أزمة تتقاطع مع قضايا كبرى مثل تغيّر المناخ، والغازات الدفيئة، وظاهرة الاحتباس الحراري، وهي جميعها عوامل تجعل من حياتنا اليومية أكثر صعوبة، وخصوصًا في المدن الكبرى. ووسط هذا المشهد القاتم، تبرز الأشجار بوصفها أحد أبسط الحلول وأكثرها فعالية. فقد أصبح زراعتها في المدن، بل وفي كل بيئة نعيش فيها، ضرورة لا ترفًا. والأمر لم يعد مجرد رأي بيئي، بل حقيقة علمية تتفق عليها الدراسات والمؤسسات المتخصصة.
لذا يبدو للبعض أن الحديث عن دور الأشجار في التخفيف من الحرارة نوع من المبالغة أو التهويل البيئي، لكن الحقائق العلمية تحسم هذا الجدل. فقد خلصت دراسة أجرتها جامعة دلفت للتكنولوجيا في هولندا- إحدى أعرق المؤسسات البحثية الأوروبية في المجال التقني- إلى نتيجة لافتة: أن الأحياء التي تكثر فيها الأشجار تسجل درجات حرارة أقل بمعدل يتراوح بين 10 إلى 15 درجة مئوية، مقارنة بالمناطق التي تخلو من الغطاء النباتي، ولتبسيط هذه الفكرة، تصور أن درجة الحرارة في يوم صيفي تصل إلى 40 مئوية، بينما في حي مظلل بالأشجار قد لا تتجاوز الحرارة فيه 30، وربما تهبط إلى 25 درجة فقط وهو فرق ملموس، لا يمكن تجاهله، ويعكس حجم التأثير الذي يمكن أن تحدثه الأشجار في حياتنا اليومية؛ لذا فإن الأشجار ليست مجرد كائنات صامتة تنمو على أطراف الشوارع أو في الحدائق، بل يمكن اعتبارها «مكيفات طبيعية» مذهلة، تعمل بكفاءة صديقة للبيئة لا تستهلك طاقة ولا تصدر انبعاثات. هذا الدور الحيوي يعود إلى ثلاث آليات متكاملة:
توفير الظل: حيث تقوم الأشجار بحجب أشعة الشمس عن المباني والطرقات، مما يقلل من درجة امتصاصها للحرارة.
تنقية الجو: من خلال امتصاصها غاز ثاني أكسيد الكربون وهو أحد أبرز مسببات الاحتباس الحراري وإطلاق الأكسجين النقي عوضًا عنه.
عملية النتح: وهي خروج بخار الماء من أوراق الأشجار نحو الهواء، ما يؤدي إلى تلطيف الأجواء المحيطة. وبحسب كلية علوم الحياة في جامعة ميونيخ، فإن هذه العملية تُعد من أكثر الطرق فعالية في خفض درجات الحرارة داخل المدن. باختصار، الأشجار لا تكتفي بتجميل المشهد، بل تحارب تغيّر المناخ من جذورها.
تشير الدراسات العلمية إلى أن غياب الغطاء النباتي، خاصة في المناطق الحضرية، يسهم بشكل مباشر في تفاقم ما يُعرف بظاهرة جزيرة الحرارة الحضرية (UHI) وتحدث هذه الظاهرة نتيجة امتصاص الطرق الإسفلتية والأسطح الخرسانية للطاقة الشمسية واحتباسها، مما يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة في المدن مقارنة بالمناطق الريفية المحيطة. ومع النمو السريع للمدن وزيادة التركيز السكاني الحضري، باتت المناطق الحضرية أكثر عرضة لظاهرة UHI، حيث يسهم غياب النباتات وانتشار البنية التحتية الكثيفة في احتباس الحرارة، مما يؤدي إلى تفاوت حراري يفاقم من المخاطر الصحية، ويزيد من استهلاك الطاقة، ويؤثر سلبًا على جودة البيئة الحضرية. من هنا، يصبح دمج المساحات الخضراء ضمن التخطيط العمراني ضرورة ملحّة وليس ترفًا. ففوائد التشجير لا تقتصر على الحد من درجات الحرارة، بل تشمل أيضًا تعزيز الصحة النفسية، وتحسين جودة الحياة في المدن. ويمكن اعتماد استراتيجيات فعالة للتخفيف من تأثير الجزر الحرارية الحضرية، مثل التوسع في الزراعة الحضرية والتشجير على الأسطح والجدران، وهو ما من شأنه أن يجعل المدن أكثر برودة واستدامة وصالحة للعيش.
وفي ضوء الحاجة المتزايدة إلى نشر الوعي بأهمية الزراعة المستدامة والتشجير الملائم للبيئة المحلية، حرصت المبادرة الوطنية لتنمية القطاع الزراعي على إعداد دليل إرشادي شامل للتشجير، يُعد مرجعًا عمليًا مهمًا يساعد في اختيار الأنواع النباتية التي تتماشى مع طبيعة مناخ وطقس مملكة البحرين. ويتضمن هذا الدليل توصيات دقيقة حول الأشجار، والشجيرات، والأسيجة النباتية، والمتسلقات، والمسطحات الخضراء، مع توضيح الاشتراطات الفنية الواجب مراعاتها لضمان نموها واستدامتها بالشكل الأمثل، وتحقيق الأهداف البيئية والجمالية المرجوة. ويبرز الدليل مجموعة من الأشجار المثبتة كفاءتها في البيئة المحلية، مثل: شجرة الغاف، وكاسيا كولجا، والبونسيانا الصفراء، والتبونيا الوردية، وأكاسيا سالجنا، والسنط العربي، والكاسيا الذهبية، وأشجار الجهنمية بمختلف أنواعها، والياسمين الهندي الأحمر، وبودرة العفريت، والياسمين الهندي الأبيض، وبمبر الزينة، وغيرها من الأصناف التي أثبتت قدرتها على التكيف مع طبيعة التربة والظروف المناخية في المملكة. ونظرًا إلى أهمية هذا الدليل كمرجع وطني وإرشادي يعزز من جهود التشجير المستدام في البحرين، نوصي بإعادة تسويقه على نطاق واسع، من خلال المنصات الرقمية، والمراكز البيئية، والمؤسسات التعليمية، وجهات التخطيط العمراني، وذلك لضمان وصوله إلى أكبر عدد من المعنيين والمهتمين بالشأن الزراعي والبيئي، وتشجيع استخدامه كأساس علمي عند اختيار أنواع الأشجار المناسبة للمناطق المختلفة في المملكة.
ومن هذا المنطلق، برزت عدة أمثلة مضيئة ومبادرات ملهمة في هذا المجال، منها: ما قامت به شركة إيرثلنك للاتصالات (رابط الأرض) في العراق، ضمن جهودها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. إذ أطلقت الشركة سلسلة من حملات التشجير في محافظة بغداد، شملت زراعة أشجار معمّرة وشتلات متنوعة في عدد من المواقع المهمة، مثل مدرسة النهضة العربية في منطقة الدورة جنوب بغداد، وكذلك في حرم جامعة بغداد. وتهدف هذه الجهود إلى تحسين البيئة المحلية، وتعزيز التوازن البيئي، وتحفيز المجتمع على تبنّي ممارسات خضراء، وقد اقترحت كذلك مؤسسة «المعرفة للدراسات» مشروعًا عمليًا تحت عنوان «شجرة لكل مولود»، يتمثل في أن يقوم ولي أمر الطفل عند استخراج شهادة الميلاد بشراء شتلة شجرة لزراعتها أمام منزله. الفكرة بسيطة، ولكنها تحمل دلالة عميقة. الطفل يكبر، ومعه تكبر شجرته، ويكبر معها وعيه البيئي وانتماؤه لمجتمعه. وبمرور السنوات، ستمتلئ شوارعنا بالأشجار، ثم تمتد إلى الطرق السريعة، والمناطق الزراعية، بل وربما الصحاري، فتتحوّل بيئتنا من خناق حراري إلى بيئة صديقة للإنسان والحياة.
وانطلاقًا من هذه النماذج، تبرز الحاجة الملحّة إلى ترسيخ ثقافة التشجير في المجتمعات العربية باعتبارها ركيزة حقيقية لمواجهة التغير المناخي، لا مجرد شعار للترويج الإعلامي. فالتشجير لم يعد ترفًا بيئيًا أو نشاطًا تجميليًا، بل ضرورة استراتيجية تتطلب سياسات حازمة تمنع تجريف المساحات الخضراء، وتدعم زراعة الأشجار المعمّرة القادرة على مقاومة الجفاف والحرارة، والتي تمتاز بسرعة النمو وخضرتها المستدامة. ومن هنا، لا بد من تمكين المبادرات الشبابية والمجتمعية التي تسعى لتوسيع الرقعة الخضراء في المدارس، والمؤسسات، والمرافق العامة، وتحويل التشجير من واجب فردي مؤقت إلى التزام جماعي طويل الأمد، يُحدث أثرًا بيئيًا ملموسًا، ويسهم بفعالية في تخفيف آثار التغير المناخي. وفي تأكيد لهذا التوجه، نشرت صحيفة الجارديان البريطانية في فبراير 2024م دراسة تشير إلى أن التشجير أسهم فعليًّا في خفض درجات الحرارة في شرق الولايات المتحدة مقارنة ببقية الولايات.
وفي هذا السياق، يُمكن الاستفادة من التجارب الملهمة، مثل ما اقترحته «مؤسسة المعرفة للدراسات» من مشروع عملي تحت عنوان «شجرة لكل مولود». ويمكن تكييف هذا المفهوم ليُطبق في مملكة البحرين من خلال مبادرة «شجرة لكل طالب مستجد»، حيث يُزرع لكل طفل يلتحق بالصف الأول الابتدائي شجرة باسمه داخل حرم المدرسة أو في محيطها، حيثُ الاستدامة تبدأ بزرع شجرة، وبهذا، لا نزرع شجرة فقط، بل نغرس في وجدان الأجيال الجديدة قيمة الانتماء والمسؤولية البيئية، ونربط بين التعليم والعمل المناخي بأسلوب عملي مستدام يرسّخ العلاقة بين الإنسان والطبيعة منذ سنواته الأولى. بجانب أثرها البيئي، تشكّل الأشجار استثمارًا ذكيًا في الصحة العامة والاقتصاد وجودة الحياة. فهي تُحسّن الهواء، وتجمّل المدن، وتمنح السكان راحة نفسية في ظل ضغوط الحياة اليومية. اقتصاديًا، وتُسهم في تقليص فواتير الكهرباء عبر خفض درجات الحرارة، ما يقلل من الاعتماد على أجهزة التكييف أو يرفع درجة ضبطها إلى 25 بدلًا من 18، مما يخفف الضغط على شبكات الطاقة ويقلل النفقات الحكومية، وهو أمر مهم في ظل التحديات الاقتصادية والصحية والاجتماعية الراهنة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك