مع دقات الساعة إيذانًا بانتهاء العام الدراسي، يشعر الطلبة بالارتياح وتغمرهم راحة النفس وهدوء البال، فرحين بإجازة الصيف التي طال انتظارها. وبينما يخطط بعضهم لرحلات أو أنشطة صيفية مفيدة، ينزلق كثير من الأطفال واليافعين إلى دوامة ما تُعرف بـ«الكسل الصيفي»، حيث تتبدد الأيام بين نومٍ مفرط وساعات طويلة أمام الشاشات من دون هدف واضح، ولا يغيب عن بالنا أن الكسل الصيفي لا يعني فقط الخمول الجسدي، بل قد يمتد إلى خمول فكري ونفسي.
إن الإجازة الصيفية ليست مجرد وقتٍ للراحة، ولا لشلّ التفكير، بل لتحفيزه، هي فرصة ثمينة لا تُقدَّر بثمن؛ فهي ليست فقط لفك قيود الجداول والالتزامات، بل مساحة رحبة لاكتشاف المهارات، وتطوير الذات، وتعزيز الثقة بالنفس، وتحقيق إنجازات صغيرة قد تُرسم منها ملامح مستقبل واعد.
فكم من طفل أصبح شاعرًا لأنه اكتشف ذاته في أحد البرامج الصيفية، وكم من موهبة في الرسم لمعت حين أُتيحت لها المساحة، فصار صاحبها رسامًا مبدعًا! وكم من طفل وجد نفسه في أحواض السباحة، فتحوّلت مهارته الكامنة إلى إنجاز رياضي! وكم من طفل حاز لقب «أفضل قارئ» بفضل شغفه بقراءة القصص والروايات خلال الصيف! إن هذه النماذج وغيرها كثير تُظهر لنا أن الإجازة الصيفية حين تُستثمر كما ينبغي، قد تصنع الفارق في حياة الأطفال وتنقلهم من الاكتشاف إلى التميز. وما يدعم قولنا هو الدراسات التي تشير إلى أن الأطفال الذين يشاركون في أنشطة منظمة خلال العطلة يظهرون نموًا عقليا وسلوكيا ملحوظًا، ويعودون إلى مدارسهم بطاقة متجددة واستعداد أكبر للتعلّم، أفلا تجد أن الإجازة الصيفية تستحق أن تُخطط وتُستثمر بعناية؟
فلماذا يبدّد بعض الطلبة أوقاتهم في أنشطة لا تعود عليهم بأي نفع، في حين تحيطهم فرص لا تُعدّ ولا تُحصى؟ من تعلّم لغة جديدة، إلى صقل مهاراتهم الإبداعية في الرسم والكتابة والعزف، مرورًا بالتطوع في المبادرات المجتمعية وتنمية الإحساس بالمسؤولية، والمشاركة في الأنشطة الرياضية لبناء الاجسام، وتعزيز الصحة والانضباط، وصولًا إلى التعلم الذاتي عبر المنصات التعليمية الإلكترونية. كلها مسارات قادرة على تنمية شعور الطفل بالمسؤولية، وبناء شخصية متوازنة وواعية تستثمر الوقت وتنتفع به.
كما أن للوالدين والمربين دورًا جوهريًا في توجيه أبنائهم توجيهًا ذكيًا يجمع بين المتعة والفائدة، وبين الحرية والانضباط؛ فإن التخطيط المسبق مع الأبناء، وتقديم الخيارات المتاحة، وتحديد أهداف أسبوعية واقعية، يجعل من الإجازة الصيفية فترة أكثر فاعلية، ويعزز في نفوس الأطفال مشاعر الإنجاز والثقة بالنفس. كأن يُكافأ الطفل، مثلًا، بعد الانتهاء من قراءة كتاب أو حضور دورة تدريبية، برحلة قصيرة أو نشاط ترفيهي بسيط.
لكن المؤسف أن هذه الفرص الذهبية تمرّ مرور الكرام على كثير من الأطفال وأولياء الأمور؛ لا بسبب ندرة البرامج الصيفية، بل بسبب غياب الوعي الكافي بأهمية استثمارها، فكثير من الأهل يظنون أن منح أطفالهم الراحة يعني السماح لهم بالنوم المفرط، والسهر الطويل، وتناول الوجبات السريعة بلا ضوابط، وتقليب الليل والنهار تحت شعار: «خله يستانس... تراها إجازة»! وفي ظل هذا التبرير نجد الطفل قد انغمس في ساعاتٍ طويلة من الألعاب الإلكترونية، بعيدًا عن التفاعل الحقيقي، والنشاط الذهني، والانضباط. وهكذا، من دون أن نشعر، نقسو على أطفالنا باسم الراحة، ونكافئهم بطريقة تُفسد نظامهم الجسدي والنفسي والأسري بالكامل.
لقد تركنا الوقت يتسرّب من بين أيديهم كما يتسرّب الرمل من بين الأصابع، ورضينا لهم ولأنفسنا بما هو مريح، لا بما هو مُلهم. رضينا بأن يناموا طويلاً، ويسهروا أمام الشاشات، ويتناولوا الطعام الجاهز من دون وعي، ويعيشوا في فوضى تُربك أجسادهم ونفسياتهم، وتُخلخل نظام الأسرة برمّتها. ونسينا أن الراحة الحقيقية لا تكون إلا في شعور الإنجاز، وإحساس الطفل بأنه يكتشف ذاته، ويصقل مهاراته.
كان ذلك خطأ غير مقصود، لكنه عميق الأثر، حين غفلنا عن تعليمهم ثقافة «الوقت الحر» وكيفية استثماره. لقد منحناهم وقتًا واسعًا في الصيف، لكننا قصّرنا في توجيههم، ولم نزرع فيهم الوعي بأن هذا الوقت قد يكون كنزًا حقيقيًا، يمكنهم من خلاله أن يبتكروا ويُنجزوا، لا أن يضيّعوه في العبث والفراغ.
لكن... ماذا لو حوّلنا الصيف من وقت مهدور إلى موسم للفرص؟
أيها الآباء والأمهات ما زالت الفرصة أمامنا، لكن علينا أن نكون حاضرين بقلوبنا وعقولنا لا بأجسادنا فقط. أولًا علينا أن نعترف، حتى وإن كان الاعتراف مؤلمًا، بأننا السبب في ضياع كثير من أوقات أطفالنا خلال الإجازة الصيفية. لم نُعلّمهم المعنى الحقيقي للراحة، ولم نُدرّبهم على استثمار وقت الفراغ. كنا نظن أننا نؤدي دورنا حين نوفر لهم الطعام واللباس ونساعدهم على النجاح الدراسي، ونشعرهم بحبنا عندما نكافئهم بشراء الألعاب الإلكترونية، لكننا غفلنا عن الأهم وهو أن نُعلّمهم كيف يعيشون، كيف يُفكّرون، وكيف يستفيدون من وقتهم بما يعود عليهم بالنفع والفائدة.
والمؤسف، أننا نظن أننا نُريحهم، وأننا نكافئهم، ولكن الحقيقة أننا نُطفئ نور عقولهم بأيدينا، كما تُطفأ شمعة وُضعت في مهب الريح. نغلق نوافذ الضوء، ونتركهم يسيرون في ممرات معتمة من العشوائية والسهر، تتداخل فيها ساعات الليل والنهار حتى يضيع النظام البيولوجي لأجسادهم وعقولهم، نتركهم يسبحون بفوضى من دون أن ندربهم، حيث تتلاشى الحدود بين الجد واللهو، والمسؤولية والتراخي، ظنًا منّا أن ذلك هو قمة المتعة، بينما هو في الحقيقة استنزاف صامت لعافيتهم ونموهم.
أما آن الأوان أن نتوقف وننتبه، وأن ننهض، ونُعيد النظر في أدوارنا كآباء وأمهات. ونسأل أنفسنا ماذا علّمناهم؟ علينا أن نكفّ عن وضع أقفال على طاقات أطفالنا باسم الراحة، فالعقول إن لم تشتعل نورًا، تحوّلت رمادًا، وأن نُعيد تعريف «الراحة» لأبنائنا، وأن نكون شركاء في توجيههم نحو صيف مليء بالبهجة والتوازن والإنجاز، لا بالخمول والفوضى.
وفي الختام، تقع على عاتقنا جميعًا – كأُسر ومدارس ومجتمع – مسؤولية إعادة تشكيل مفهوم الصيف في أذهان الجيل الجديد؛ بأن نغرس فيهم وعيًا بأن عقولهم ليست أقل شأنًا من عضلاتهم، فهي تنمو وتزدهر بالتدريب والتفكير كما تنمو الأجسام بالحركة والرياضة. فالعقل، كلما تغذّى بالمعرفة، ازداد بريقًا وقوة. وإنّ كل لحظة من وقتهم هي رصيد ثمين لا يُعوّض، وفرصة لبناء ذواتهم. فلنساعدهم ليعودوا إلى مقاعد الدراسة غير مثقلين بالكسل والملل، بل نابضين بالحيوية، يحملون في جعبتهم حكايات من الإنجاز والتجربة والنضج. ولنزرع فيهم قناعة بأن الصيف ليس وقتًا للضياع، بل فرصة تُصنع فيها البطولات، حتى يُودعوا الإجازة الصيفية بقولهم: «لقد صنعنا صيفًا من ذهب»، بدلًا من أن يتحسّروا قائلين: «ضاع الصيف هباءً».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك