بعد سنوات طويلة تجاوزت ربع قرن من عمر الزمن، وبعد الاحتكاك ومعاصرة عديد من المسؤولين في القطاعين العام والخاص، يجد المرء نفسه أنه أمام أنواع عديدة من المسؤولين الإداريين، بعضهم مجد ومهتم ويحاول أن يثبت وجوده بمواهبه وقدراته، وبعضهم عشوائي يحول العمل إلى فوضى عارمة، وبين هذا وذاك هنالك أنواع مختلفة من المسؤولين الإداريين، وقد تحدثنا عن أنواع مختلفة منهم من خلال هذه الزاوية، ولا نريد أن نكرر.
ولكن مرة أخرى نقول إننا يجب أن نفرق بين المسؤول الإداري والمسؤول الإداري القائد، فالأول هو إداري بحت لا يعرف العمل إلا من خلال الأنظمة والقوانين التي يجب أن تقاس بالمسطرة ومن غير أي تغيير أو تبديل، فمثلاً: إن كان هذا الأمر يخالف الأنظمة فهو يخالف الأنظمة ولا يغير من موقفه أي شيء، وهذا الموظف متأخر فيجب أن يعاقب، وهكذا. عقله وسلوكياته وعمله محكوم بالورق والقلم والمسطرة، وهذا النوع عندما تحاول أن تنقل إليه مشكلة يعاني منها أحد الموظفين يقول ببساطة «نحن لسنا شؤون اجتماعية لنحل مشاكل الموظفين، يجب أن يتجاوز الموظف مشاكله بنفسه، وإن لم يعمل فإنه سيعاقب»، يقول ذلك بغض النظر عن أي اعتبارات إنسانية أو حتى مهنية أو أي شيء.
أما المسؤول الإداري القائد؛ هو الذي يسير على نفس النمط السابق، ولكن في كثير من اللحظات يعيد النظر في عديد من الجوانب الإنسانية والنفسية، ويحاول أن يتفهم الاحتياجات والدوافع، وربما حتى يسهم في حل مشاكل الموظف النفسية والعائلية والمهنية، وربما يشارك في أفراح وأتراح الموظف أيًّا كانت درجته، فهو الذي يهتم بالموظف الإنسان، ويهتم بالعمل، ويهتم بكل الجوانب، بطريقة متساوية من غير أن يحيد عن كونه مسؤولاً إداريًا يهتم بالعمل والعملاء والتقارير وظروف العمل وفي الوقت ذاته قائدًا يهتم بكل الجوانب السابقة بالإضافة إلى اهتمامه بالإنسان وطموحاته واحتياجاته وظروفه.
هذا المسؤول الإداري القائد، لا يسألك إن كنت تعرف الفرق بين (البيانات) و(المعلومات)، وما الفرق بين (الاتصال) و(التواصل)؟ فمثل هذه الأمور لا تشغله، إنما الذي يشغله بصورة مباشرة أن تتحقق أهداف المؤسسة بأكبر قدر من الجودة، وبالتالي تتحقق أهداف الإنسان والدولة وكل الأطراف المعنية المرتبطة بالمؤسسة، ولكن حتى يصل هذا المسؤول الإداري القائد إلى هذا المستوى من القدرة والعطاء فإنه يخفي في نفسه عديدا من القدرات والمهارات التي لم يتعلمها بالسهولة، فهي لا يتم تعليمها في المدارس أو الجامعات، ولكن يمكن للمرء أن يتعلمها من خلال مجموعة متكاملة من الدورات التدريبية للأفراد الراغبين أو الأفراد الذين يمتلكون الرغبة في التحول من المسؤول الإداري إلى المسؤول الإداري القائد، وهؤلاء قليل، إلا أنهم موجودون، كل الذي يحتاجون إليه الحافز والرغبة والإرادة، حينئذ سيمتلكون الأمور التالية لأهميتها، وهي:
أولاً- المسؤولية؛ من المعروف أن المسؤولية هي جوهر القيادة والإدارة، وتعني الالتزام الكامل بتحقيق الأهداف الموكلة إليه، وتحمل نتائج القرارات والأفعال التي يتخذها في نطاق صلاحياته وقدراته وإمكانياته. ويتضح هذا المفهوم من خلال الأبعاد التالية:
1. الالتزام بالواجبات؛ المسؤول الإداري القائد يجب أن يكون على دراية تامة بمهامه، وأن يؤديها بكفاءة وشفافية، من دون تقصير أو تأخير.
2. تحمل النتائج؛ سواء كانت النتائج إيجابية أو سلبية، فإن المسؤول الإداري القائد يتحمل تبعات قراراته، ولا يتهرب من المحاسبة أو يلقي باللوم على الآخرين.
3. العدالة والإنصاف؛ يجب أن يتعامل مع الجميع بعدالة، ويمنح الفرص بناءً على الكفاءة والاستحقاق، لا على المحسوبية أو المصالح أو الشعور الشخصي.
4. القدوة الحسنة؛ المسؤول الإداري القائد الناجح يكون قدوة في السلوك والانضباط، ويؤثر إيجابًا في بيئة العمل من خلال التزامه بالقيم والمبادئ.
5. الشفافية والمساءلة؛ من المهم أن يكون المسؤول الإداري القائد واضحًا في قراراته، ويقبل النقد البناء، ويتيح للآخرين فرصة مساءلته ضمن الأطر النظامية.
6. الاستجابة للتحديات؛ المسؤولية تعني أيضًا القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة في الأوقات الصعبة، وتحمل ضغوط العمل من دون أن يؤثر ذلك على جودة الأداء.
ثانيًا- الهدوء؛ الهدوء عند المسؤول الإداري القائد هو القدرة على الحفاظ على التركيز، وضبط النفس، والتفكير الواضح في المواقف الصعبة أو غير المتوقعة. وهذا لا يعني أبدًا غياب المشاعر، بل يعني التحكم بها وعدم السماح لها بالتأثير على القرارات أو فريق العمل، وهي تُعد من الصفات القيادية المهمة التي تميز القائد الناجح، خاصة في أوقات الأزمات والضغوط.
ويمكن أن تتجلى صفة الهدوء في الكثير من القادة، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فعلى الرغم من كل الذي كان يحيطه من أحداث ومشاكل وأعمال، إلا أنه كان يتمتع بقدرة خيالية على الهدوء، لنتحدث عن مثال واحد فقط،
ففي صلح الحديبية، مثلاً: فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه لأداء العمرة، فمنعتهم قريش من دخول مكة، وحدثت مفاوضات طويلة انتهت بصلحٍ ظاهره فيه تنازلات كبيرة للمسلمين، وعلى الرغم من اعتراضات بعض الصحابة رضوان الله عليهم وامتعاض بعضهم، إلا أنه صلى الله عليه وسلم:
* لم يغضب على اعتراض الصحابة رضوان الله عليهم على بعض بنود الصلح.
* وأظهر صبرًا وحكمة في التعامل مع سُهيل بن عمرو، ممثل قريش، على الرغم من تعنته.
* وقبل التنازلات المؤقتة لأنه كان يرى الصورة الأكبر ومصلحة الأمة على المدى البعيد.
ولكن كانت النتيجة مذهلة، إذ تم فتح مكة بعد عامين فقط، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.
ولكن دعونا نطرح بعض الأسئلة..
1. لماذا يُعد الهدوء أمرا مهما للمسؤول الإداري القائد؟
* يبث الطمأنينة في الفريق، إذ عندما يرى الفريق أن قائدهم هادئًا، يشعرون بالأمان والثقة.
* يساعد على اتخاذ قرارات عقلانية، المسؤول الإداري القائد الهادئ لا يتسرع، بل يحلل ويختار الأفضل.
* يعزز الاحترام والثقة، المسؤول الإداري القائد الذي لا ينفعل بسهولة يُنظر إليه على أنه ناضج ومتزن.
* يمنع تصعيد الأزمات، الهدوء يمنع ردود الفعل العنيفة أو القرارات العشوائية.
2. كيف يمكن تحقيق الهدوء كمسؤول إداري قائد؟
* الوعي الذاتي، راقب مشاعرك وتعرف على محفزات التوتر لديك.
* استخدم تقنيات مثل التنفس العميق أو التأمل، ولا تنس الصلاة.
* التحكم في ردود الفعل، خذ وقتًا قبل الرد على المواقف الصعبة.
* استخدم لغة الجسم الهادئة ونبرة صوت مستقرة.
ويبقى السؤال المهم والأخير، كيف يمكن تطبيق الهدوء القيادي في العصر الحديث، عصر التسارع والضغوط، إذ نعرف أنها مهارة ضرورية لكل من يتولى مسؤولية، سواء في بيئة العمل، أو في الأسرة، أو في المجتمع. لنحاول أن نضع بعض الخطوات التطبيقية لعله يمكننا أن نتحكم في هدوئنا في كل الأحوال:
1. إدارة الذات أولاً؛ ويمكن تلخيصها في التالي:
* ابدأ بنفسك، مارس التأمل أو التنفس العميق يوميًا، حتى لو لبضع دقائق.
* راقب مشاعرك، اسأل نفسك عند الغضب أو التوتر: «هل هذا يستحق رد فعل قويا؟»، وتذكر الحديث النبوي الشريف «لا تغضب».
* لا تنس الصلاة، فهي علاقة تواصل هادئة بينك وبين الله عز وجل، إذ تساعد المرء على الهدوء والسكنية.
* تجنب القرارات الفورية، خذ وقتًا للتفكير، حتى في الاجتماعات.
2. التفكير الاستراتيجي تحت الضغط؛ ويشمل:
* ضع خطة للطوارئ، فالمسؤول الإداري القائد الهادئ لا يُفاجأ بسهولة لأنه مستعد.
* استخدم أسلوب (الخطوة للخلف)، إذ عندما تتعقد الأمور، خذ خطوة ذهنية للخلف لتقييم الصورة الكاملة.
3. التواصل الهادئ والواضح؛ ويشمل:
* اختر كلماتك بعناية، استخدم لغة إيجابية ومحايدة حتى في الخلافات.
* استمع أكثر مما تتكلم، الهدوء يظهر في الإصغاء الجيد.
* تجنب رفع الصوت، نبرة الصوت الهادئة تُشعر الآخرين بالأمان، وخاصة الذين وهبهم الله سبحانه النبرة العالية.
4. بناء ثقافة الهدوء في فريق العمل؛ وذلك يمكن أن يتم عبر:
* كن قدوة، سلوكك سينعكس على الفريق.
* شجع الآخرين على الحوار لا الجدال، وذلك بتوفير بيئة آمنة للتعبير عن الرأي.
* كافئ السلوك المتزن، اثنِ على من يتعامل بهدوء في المواقف الصعبة.
بالإضافة إلى أن هناك بعض التطبيقات والأدوات والتقنيات التي يمكن ممارستها بهدف المحافظة على الهدوء، وهي موجودة ومجربة، ويمكن استخدامها في أي فترة من اليوم.
وربما من أشهر وأكثر الأمثلة تداولاً على هدوء المسؤول الإداري القائد، هو ما يمكن أن يحدث في أي اجتماع عمل، وحينما تتوتر الأجواء، فبدلاً من الرد على نقد حاد بانفعال، يمكن للمسؤول الإداري القائد أن يقول: «أفهم وجهة نظرك، دعنا نأخذ دقيقة لنراجع التفاصيل بهدوء»، هذا الرد البسيط يغير ديناميكية الحوار بالكامل.
وهناك أمر ثالث عادة ما يخفيه المسؤول الإداري القائد، وهي المهارات الناعمة، فما هي؟ وكيف يمكن التمتع بها وممارستها؟ وهذا موضوع آخر.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك