الصور الذهنية (لإسرائيل وإيران) في العقلية العربية قبل الحرب الإسرائيلية – الإيرانية هي: ان كل منهما يمثل قوة إقليمية في المنطقة؛ حيث استطاع الكيان الصهيوني منذ إنشائه عام 1948 بدعم سخي من أمريكا والغرب أن يبني قوة سياسية، وترسانة عسكرية ضاربة في منطقة «الشرق الأوسط».
وكذلك الحال بالنسبة إلى إيران، فهي الأخرى – وبعد إزاحة نظام الشاه واستبداله بنظام الولي الفقيه بدعم غربي في عام 1979ـ تمكنت أيضاَ من بناء قوة رئيسية في المنطقة استطاعت خلال فترة زمنية تقل عن خمسين عاماً أن تفرض نفوذها، في أربع عواصم عربية.
نعم، لقد كانت هذه هي الصورة الذهنية المرسومة في العقلية العربية عن (إسرائيل وإيران) قبل حرب الـ 12 يوماً، وقد طُبعت هذه الصور في الذهنية العربية نتيجة تمكن هاتين الدولتين من بناء قوتيهما السياسية والعسكرية في فترة زمنية ليست طويلة إذا قيست بعمر بلداننا العربية. المستجد في المشهد الإسرائيلي – الإيراني هو أن الحرب بين إسرائيل وإيران كشفت لنا عن واقع جديد لتلك القوتين، حيث تبين لنا أن مصدر قوتيهما ليس نابعاً من ذاتيهما، بمعنى ليس من عبقرية شعبيهما فقط، وإن كنا لا ننكر تأثير هذا العامل على ما وصلا إليه من قوة، لكن العامل المهم والحاسم والأكثر تأثيراً في وصولهما إلى هذا المستوى من القوة السياسية والعسكرية هو الدعم اللامحدود والتأييد المطلق الذي يصل إلى حد التحالف من جهة الولايات المتحدة ودول الغرب عموماً للطرف الأول «إسرائيل»، والتغاضي والتسامح الغربي والتخادم أحياناً مع الطرف الثاني «إيران» في مواقف وأحداث عديدة من جهة ثانية، وخير شاهد على ذلك هو أن إعلان وقف إطلاق النار بينهما جاء على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو ما يدل على أن الأخير هو من يمسك بخيوط اللعبة، وهو طرف أصيل فيها، ولذلك فإن استراتيجية الولايات المتحدة تقوم أساساً على الإبقاء على قوتيهما، وعليه، فإن ترامب لا يريد المزيد من الخسائر للطرفين.
كما أن الحرب كشفت أيضاً عن مسألة ربما كانت غائبة عن النخب السياسية العربية، وهي أن القوة التي كان يروج لها طرفا الحرب عن نفسيهما فيها مبالغة كبيرة، ولا تعكس الهالة الضخمة التي أسبغتها كل من هاتين الدولتين على نفسيهما؛ فمن ضمن ما كشفته الحرب بين الإسرائيليين والإيرانيين هو انكشاف زيف الدعاية الإسرائيلية التي كانت تروج دائماً عن «قوة جيشها الذي لا يقهر»، وعن امتلاكها أنظمة الدفاع الجوي الصاروخية المتطورة كالقبة الحديدية، ومقلاع داوود إضافة إلى منظومة حيتس. إذ كشفت الحرب أن كل ما روجته إسرائيل كان مجرد دعاية مبالغ فيها، وقد اتضح زيف تلك الدعاية بعد أن أمطرت إيران بصواريخها الباليستية والفرط صوتية سماء حيفا وتل أبيب وبئر السبع، واستطاعت أن تدك مواقع مهمة وحيوية بها، وهو الأمر الذي جعل الكيان الصهيوني يدرك أن دفاعاته ومنظوماته الصاروخية وقدراته الجوية باتت محدودة، ويمكن اختراقها وتحطيمها وسلب فاعليتها. وبذلك استطاعت إيران أن توجع الكيان الصهيوني، وتقض مضجعه، وأن تجبر سكانه على الهروب إلى الملاجئ، بل إنها تمكنت من إثارة الرعب في قلوب الكثير من الإسرائيليين ودفعتهم إلى النفاذ بجلودهم ومغادرة إسرائيل عبر البوابة القبرصية.
في المقابل، كشفت الحرب أيضاً عن وهن إيران وضعفها، وهي التي يتباهى قادتها حتى وقت قريب بعظمتها وقوتها، وأنها استطاعت فرض نفوذها في الإقليم من خلال وجودها في أربع دول عربية، العراق ولبنان وسوريا واليمن لكن هذا التباهي سرعان ما تبخر مع سقوط نظام الأسد في سوريا، وإضعاف «حزب الله» اللبناني وشل قدراته فضلا عن تحجيم الحوثيين في اليمن وتحييد أذرعها في العراق أمام ناظريها من دون أن تحرك ساكناً وتهب للدفاع عنهم.
بل إن الأمور لم تقف عند هذا الحد، إذ تمكنت الطائرات الحربية الإسرائيلية أن تصل إلى عمق طهران ومدن إيرانية أخرى بسهولة، حيث استطاعت مقاتلاتها أن تحوم في سماء إيران، تضرب مدنها من دون أن تواجه بأي دفاعات جوية، ولولا التدخل الأمريكي في إيقاف الحرب لكانت إيران تكبدت خسائر فادحة ؛ لأن الأمريكيين لا يريدون إنهاء نظام الملالي، وهم حريصون على بقائه كحرصهم على بقاء إسرائيل قوية ومتفوقة، والأمر بالنسبة لهم هو أن يبقى النظام الإيراني ولكن من دون أنياب، وهذا ما يريدونه بعد جلوس طهران على مائدة المفاوضات القادمة مع الولايات المتحدة.
أما إذا أراد النظام الإيراني أن يكون كسابق عهده يصول ويجول، ويستعرض عضلاته في المنطقة، ويهدد المدللة «إسرائيل»، فإن خيار تصفير قوته العسكرية لا يزال قائماً على رأس الأجندة الأمريكية والإسرائيلية.
في تصوري، أن المشهد الإيراني – الإسرائيلي أصبح واضحاً لكل ذي بصر وبصيرة؛ فالمظاهر العنترية التي دأب الطرفان على ممارستها أصبحت مكشوفة بعد تلك الحرب بينهما، وهنا يقفز إلى الذهن سؤال هو: هل لا تزال النخب السياسية العربية عند رأيها حول القوة العسكرية التي تتمتع بها كل الدولتين؟ أم أن هذه النخب بدأت تراجع أفكارها في ضوء نتائج الحرب، وتتبنى رأيا آخر ينسجم مع ما استجد على الساحة الإسرائيلية – الإيرانية، وترى أن بإمكان القوى العربية أن تنهض إذا ما توافرت لديها الإرادة وتوحدت فيما بينها، وتضافرت جهودها، وآمنت بإمكاناتها، وأنها قادرة على تشكيل قوة رادعة إقليمياً يحسب لها في العلاقات الدولية ألف حساب، خاصة أن لهذه القوى تجربة تفيد بأن العرب إذا ما اجتمعوا على كلمة واحدة؛ فإنهم قادرون على مواجهة كل التحديات. وقد جسدت حرب أكتوبر المجيدة 1973 الدليل القاطع على ذلك التوجه عندما عبر المصريون قناة السويس واقتحموا خط بارليف، وأفقدوا العدو توازنه في أقل من ست ساعات، ومن ثم أسقطوا مقولة «الجيش الذي لا يقهر».
في ضوء معطيات الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران يمكن الاستنتاج بأن كل ما يحتاج إليه العرب اليوم، هو إعادة قراءة واقعهم من جديد والانطلاقة تبدأ من التخلص من «عقدة الفوبيا» والنظر بواقعية إلى هاتين القوتين الإقليميتين في ضوء النتائج التي كشفت عنها حرب الـ 12 يوما الأخيرة، فالواقع يؤكد لنا أنهما ليستا بالقوتين الجبارتين كما يروجان عن نفسيهما، ولكن كل ما في الأمر أنهما استطاعتا اختراق بعض النفوس العربية بالدعاية الصاخبة وتولد لديها شعور بالضعف وعدم الثقة بنفسها، وعدم القدرة على المواجهة، وإسقاط كل الخيارات من أمامها والتسليم بما تفرضه عليها القوى الكبرى.
في ضوء ما تقدم، فإن السؤال الأخير هو: هل تتغير الصور الذهنية عن (إسرائيل وإيران) لدى عقلية النخب السياسية العربية بعد حرب الـ12 يوماً؟ هذا ما نتمناه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك