العدد : ١٧٣٣١ - الخميس ٠٤ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٣١ - الخميس ٠٤ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

تحوّلات جذرية في مسار الصراع مع المشروع الصهيوني

بقلم: د. حسن نافعة {

الجمعة ١١ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

شهد‭ ‬الصراع‭ ‬مع‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬جولات‭ ‬متعدّدة،‭ ‬تراوحت‭ ‬بين‭ ‬المواجهات‭ ‬المسلّحة‭ ‬ومحاولات‭ ‬التسوية‭ ‬السلمية‭. ‬وتعتبر‭ ‬المواجهة‭ ‬المسلّحة‭ ‬الحالية،‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬منذ‭ ‬انطلاق‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬‭ ‬والمستمرّةً،‭ ‬أطول‭ ‬هذه‭ ‬الجولات،‭ ‬وربّما‭ ‬تصبح‭ ‬الأكثر‭ ‬تأثيراً‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭. ‬ولكي‭ ‬ندرك‭ ‬عمق‭ ‬التحوّلات‭ ‬الجيوستراتيجية‭ ‬الناجمة‭ ‬عنها،‭ ‬يتعيّن‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬التاريخي‭ ‬الأوسع‭.‬

عندما‭ ‬أعلن‭ ‬ديفيد‭ ‬بن‭ ‬جوريون‭ ‬قيام‭ ‬دولة‭ ‬إسرائيل‭ (‬14مايو1948‭)‬،‭ ‬استند‭ ‬آنذاك‭ ‬إلى‭ ‬مشروع‭ ‬التقسيم‭ ‬الذي‭ ‬أقرّته‭ ‬الجمعية‭ ‬العامة‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬وتضمن‭ ‬إقامة‭ ‬دولة‭ ‬يهودية‭ ‬في‭ ‬56%‭ ‬من‭ ‬فلسطين‭ ‬التاريخية،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يعترف‭ ‬مطلقاً‭ ‬بأن‭ ‬حدود‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬الوليدة‭ ‬هي‭ ‬النهائية‭ ‬للمشروع‭ ‬الصهيوني،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬بن‭ ‬جوريون‭ ‬يدرك‭ ‬جيّداً‭ ‬أن‭ ‬الحدود‭ ‬النهائية‭ ‬لهذا‭ ‬المشروع‭ ‬لن‭ ‬ترسمها‭ ‬قرارات‭ ‬أممية،‭ ‬وإنما‭ ‬آثار‭ ‬الأقدام‭ ‬فوق‭ ‬كلّ‭ ‬أرض‭ ‬يستطيع‭ ‬الجنود‭ ‬الإسرائيليون‭ ‬أن‭ ‬يصلوا‭ ‬إليها‭. ‬وقد‭ ‬تجلّت‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬في‭ ‬أوضح‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬كلّ‭ ‬حرب‭ ‬خاضتها‭ ‬إسرائيل‭ ‬منذ‭ ‬نشأتها‭. ‬ففي‭ ‬أعقاب‭ ‬الحرب‭ ‬العربية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬الأولى‭ (‬1948‭ - ‬1949‭)‬،‭ ‬احتلّت‭ ‬إسرائيل‭ ‬مساحةً‭ ‬جديدةً‭ ‬تعادل‭ ‬تقريباً‭ ‬نصف‭ ‬المساحة‭ ‬المخصّصة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬التقسيم،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬أصبحت‭ ‬تسيطر‭ ‬على‭ ‬78%‭ ‬من‭ ‬مساحة‭ ‬فلسطين‭ ‬التاريخية‭ ‬اعتباراً‭ ‬من‭ ‬1949،‭ ‬وطردت‭ ‬نحو‭ ‬700‭ ‬ألف‭ ‬فلسطيني،‭ ‬تحوّل‭ ‬معظمهم‭ ‬لاجئين‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬المجاورة‭. ‬وفي‭ ‬حرب‭ ‬السويس‭ (‬1965‭)‬،‭ ‬احتلّت‭ ‬سيناء،‭ ‬وحاولت‭ ‬ضمّها،‭ ‬لكنّها‭ ‬تراجعت‭ ‬بسبب‭ ‬ضغوط‭ ‬أمريكية‭ ‬مورست‭ ‬عليها‭ ‬لأسباب‭ ‬تتعلّق‭ ‬بموازين‭ ‬القوى‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬ثنائي‭ ‬القطبية‭ ‬وبصعود‭ ‬التيّار‭ ‬القومي‭ ‬العربي‭ ‬آنذاك،‭ ‬ما‭ ‬أجبرها‭ ‬على‭ ‬العودة‭ (‬مرغمةً‭) ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬1948،‭ ‬لكنّها‭ ‬استخلصت‭ ‬العبر‭ ‬ممّا‭ ‬حدث،‭ ‬عازمةً‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬يتكرّر‭ ‬مرّة‭ ‬أخرى‭ ‬أبداً‭. ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬سعت‭ ‬إلى‭ ‬تقوية‭ ‬اللوبي‭ ‬اليهودي‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬درجة‭ ‬ممكنة‭. ‬لذا،‭ ‬حين‭ ‬تمكّنت‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬1967‭ ‬من‭ ‬احتلال‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬فلسطين‭ ‬التاريخية‭ ‬وهضبة‭ ‬الجولان‭ ‬السورية،‭ ‬وسيناء‭ ‬المصرية،‭ ‬قرّرت‭ ‬ألا‭ ‬تعود‭ ‬أبداً‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬1949،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أحكمت‭ ‬سيطرتها‭ ‬على‭ ‬آليات‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬إسرائيل‭ ‬راغبةً‭ ‬في‭ ‬التوصّل‭ ‬إلى‭ ‬تسوية‭ ‬نهائية‭ ‬مع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬أو‭ ‬مع‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬المجاورة‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬مرحلة،‭ ‬فقادتها‭ ‬لم‭ ‬يروا‭ ‬في‭ ‬إقامتها‭ ‬مجرّد‭ ‬حلّ‭ ‬للمسألة‭ ‬اليهودية،‭ ‬أي‭ ‬مكاناً‭ ‬يجنّب‭ ‬اليهود‭ ‬تكرار‭ ‬مآسي‭ ‬الاضطهاد‭ ‬الذي‭ ‬تعرّضوا‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬متفرّقة‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عما‭ ‬ينطوي‭ ‬عليه‭ ‬هذا‭ ‬الحلّ‭ ‬من‭ ‬ظلم‭ ‬للفلسطينيين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬ذنب‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المآسي،‭ ‬وإنما‭ ‬أرادوها‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬دولةً‭ ‬توسّعيةً‭ ‬قادرةً‭ ‬على‭ ‬التحكّم‭ ‬بمقادير‭ ‬المنطقة‭. ‬فلو‭ ‬كانت‭ ‬راغبة‭ ‬حقّاً‭ ‬في‭ ‬التوصّل‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التسوية،‭ ‬لتحقّق‭ ‬لها‭ ‬ذلك‭ ‬عقب‭ ‬الحرب‭ ‬العربية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬مباشرةً،‭ ‬أي‭ ‬منذ‭ ‬1949‭. ‬إذ‭ ‬تثبت‭ ‬وثائق‭ ‬تاريخية‭ ‬عديدة‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬كانت‭ ‬جاهزةً‭ ‬آنذاك‭ ‬لتسوية‭ ‬نهائية‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬قرار‭ ‬التقسيم،‭ ‬مع‭ ‬إدخال‭ ‬تعديلات‭ ‬طفيفة‭ ‬في‭ ‬الحدود‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يتيح‭ ‬التواصل‭ ‬الجغرافي‭ ‬المباشر‭ ‬بين‭ ‬مشرق‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬ومغربه‭. ‬بل‭ ‬تثبت‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬نفسه‭ ‬كان‭ ‬مستعدّاً‭ ‬للمضي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الطريق،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬واضحاً‭ ‬إبان‭ ‬جهود‭ ‬الوساطة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬1953‭- ‬1955‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬رفضت‭ ‬بشكل‭ ‬قاطع‭ ‬تسويةً‭ ‬دائمةً‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬خطوط‭ ‬التقسم،‭ ‬وعودة‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬لا‭ ‬لشيء،‭ ‬إلا‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬تتطلّع‭ ‬لالتهام‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬العربية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أتيح‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬1967‭. ‬وقد‭ ‬استغلّت‭ ‬إسرائيل‭ ‬الشعارات‭ ‬التي‭ ‬رفعتها‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬خلال‭ ‬الخمسينيّات‭ ‬والستينيّات،‭ ‬للتظاهر‭ ‬بأنها‭ ‬دولة‭ ‬صغيرة‭ ‬مسالمة‭ ‬محاطة‭ ‬بدول‭ ‬عربية‭ ‬معادية‭ ‬لا‭ ‬همّ‭ ‬لها‭ ‬سوى‭ ‬تدميرها‭.‬

حين‭ ‬قرّر‭ ‬أنور‭ ‬السادات،‭ ‬رئيس‭ ‬أكبر‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ (‬مصر‭)‬،‭ ‬تغيير‭ ‬وجهة‭ ‬السياسة‭ ‬المتعلّقة‭ ‬بإدارة‭ ‬الصراع‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬حرب‭ ‬1973،‭ ‬وصل‭ ‬في‭ ‬محاولاته‭ ‬المستميتة‭ ‬إلى‭ ‬إثبات‭ ‬حسن‭ ‬نيّته‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬الإقدام‭ ‬على‭ ‬زيارة‭ ‬القدس‭ ‬المحتلة‭ ‬عام‭ ‬1977،‭ ‬ولاحت‭ ‬فرصة‭ ‬أكبر‭ ‬للتوصّل‭ ‬إلى‭ ‬تسوية‭ ‬نهائية‭ ‬هذه‭ ‬المرّة،‭ ‬خصوصاً‭ ‬أن‭ ‬السادات‭ ‬لم‭ ‬يشترط‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬قرار‭ ‬تقسيم‭ ‬فلسطين‭ ‬هو‭ ‬أساس‭ ‬التسوية،‭ ‬وإنما‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬1967،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬القبول‭ ‬بقيام‭ ‬دولة‭ ‬فلسطينية‭ ‬على‭ ‬22%‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬فلسطين‭ ‬التاريخية،‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬44%،‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬يقضي‭ ‬قرار‭ ‬التقسيم‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬رفضت‭ ‬هذا‭ ‬الطرح‭ ‬أيضاً،‭ ‬بل‭ ‬اعتبرته‭ ‬دليل‭ ‬ضعف‭ ‬يعكس‭ ‬خللاً‭ ‬في‭ ‬موازين‭ ‬القوة‭ ‬لصالحها،‭ ‬وليس‭ ‬دليلاً‭ ‬على‭ ‬صدق‭ ‬التوجّه‭ ‬نحو‭ ‬السلام،‭ ‬وبالتالي‭ ‬سعت‭ ‬لإبرام‭ ‬اتفاق‭ ‬تسوية‭ ‬منفرد‭ ‬مع‭ ‬مصر،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تتمكّن‭ ‬من‭ ‬فرض‭ ‬تسوية‭ ‬بشروطها‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭. ‬وتدل‭ ‬مؤشّرات‭ ‬عديدة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬كانت‭ (‬ولا‭ ‬تزال‭) ‬تخطّط‭ ‬لإعادة‭ ‬احتلال‭ ‬سيناء‭ ‬بهدف‭ ‬تنفيذ‭ ‬خطة‭ ‬بتهجير‭ ‬فلسطينيي‭ ‬غزّة‭ ‬إليها،‭ ‬وهو‭ ‬الهدف‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تخفيه‭ ‬الآن‭ ‬وتتحدّث‭ ‬عنه‭ ‬علانيةً‭. ‬وللتدليل‭ ‬على‭ ‬صيرورة‭ ‬النيات‭ ‬التوسّعية‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬نذكّر‭ ‬هنا‭ ‬بالخريطة‭ ‬التي‭ ‬عرضها‭ ‬نتنياهو‭ ‬أمام‭ ‬الجمعية‭ ‬العامّة‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬يوم‭ ‬22‭ ‬سبتمبر‭ ‬2023،‭ ‬لنكتشف‭ ‬أن‭ ‬حدود‭ ‬إسرائيل‭ ‬اتّسعت‭ ‬لتشمل‭ ‬كلّ‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬والقدس‭ ‬وقطاع‭ ‬غزّة،‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬المستفزّ،‭ ‬والمتحدّي،‭ ‬أمام‭ ‬العالم‭ ‬أجمع،‭ ‬حدث‭ ‬قبل‭ ‬أسبوعين‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬انطلاق‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬‭.‬

في‭ ‬سياق‭ ‬ما‭ ‬تقدّم،‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬المبالغة‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬عملية‭ ‬طوفان‭ ‬الأقصى‭ ‬بدت‭ ‬حتميةً،‭ ‬وجاءت‭ ‬ردّاً‭ ‬على‭ ‬الاستفزازات‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬التي‭ ‬بدا‭ ‬أنها‭ ‬تغلق‭ ‬أبواب‭ ‬الأمل‭ ‬كلّها‭ ‬أمام‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬وتصرّ‭ ‬على‭ ‬تصفية‭ ‬قضيتهم‭ ‬وحرمانهم‭ ‬من‭ ‬أبسط‭ ‬حقوقهم‭ ‬المشروعة،‭ ‬وفي‭ ‬مقدّمتها‭ ‬الحقّ‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬المصير‭ ‬وإقامة‭ ‬دولتهم‭ ‬المستقلّة،‭ ‬ولم‭ ‬يدر‭ ‬بخلد‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬ستكون‭ ‬بدايةً‭ ‬لجولة‭ ‬صراع‭ ‬مسلّح‭ ‬جديدة،‭ ‬هي‭ ‬الأطول‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الصراع،‭ ‬والأكثر‭ ‬تأثيراً‭ ‬في‭ ‬مساره‭.‬

تختلف‭ ‬جولة‭ ‬الصراع‭ ‬المسلّح‭ ‬الراهنة‭ ‬عن‭ ‬كلّ‭ ‬الجولات‭ ‬السابقة،‭ ‬ليس‭ ‬لأنها‭ ‬الأطول‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الصراع‭ ‬فحسب‭ (‬بدأت‭ ‬في‭ ‬7‭ ‬أكتوبر‭ ‬2023‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضاً‭ (‬وخصوصاً‭) ‬لأن‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬أحجمت‭ ‬عن‭ ‬الانخراط‭ ‬فيها،‭ ‬وأطلقت‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الديناميكيات‭ ‬التفاعلية‭ ‬التي‭ ‬أفضت‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬إقدام‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬إعلان‭ ‬حرب‭ ‬شاملة‭ ‬على‭ ‬إيران‭. ‬فالشرارة‭ ‬الأولى‭ ‬لهذه‭ ‬الجولة‭ ‬انطلقت‭ ‬من‭ ‬قطاع‭ ‬غزّة،‭ ‬حين‭ ‬قرّرت‭ ‬حركة‭ ‬حماس،‭ ‬ومعها‭ ‬بقية‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المسلّحة،‭ ‬شنّ‭ ‬هجوم‭ ‬مباغت‭ ‬على‭ ‬إسرائيل‭ ‬عبر‭ ‬الحدود‭ ‬مع‭ ‬قطاع‭ ‬غزّة،‭ ‬لإلحاق‭ ‬أكبر‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الخسائر‭ ‬بها،‭ ‬والإمساك‭ ‬بأكبر‭ ‬عدد‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الرهائن،‭ ‬لمبادلتهم‭ ‬بالأسرى‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬السجون‭ ‬الإسرائيلية‭. ‬وبعد‭ ‬أيام‭ ‬قليلة،‭ ‬دخل‭ ‬‮«‬حزب‭ ‬الله‮»‬‭ ‬خطّ‭ ‬المواجهة‭ ‬المسلّحة‭ ‬لمساندة‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬يتعرّض‭ ‬لحرب‭ ‬إبادة‭ ‬جماعية،‭ ‬ثمّ‭ ‬دخلت‭ ‬تباعاً‭ ‬فصائل‭ ‬عراقية،‭ ‬تلتها‭ ‬جماعة‭ ‬الحوثي‭ ‬اليمنية‭. ‬وحين‭ ‬فرغت‭ ‬إسرائيل‭ ‬من‭ ‬تدمير‭ ‬قطاع‭ ‬غزّة،‭ ‬ومن‭ ‬إسكات‭ ‬‮«‬حزب‭ ‬الله‮»‬‭ ‬والفصائل‭ ‬العراقية،‭ ‬وأسهمت‭ ‬عملياتها‭ ‬العسكرية‭ ‬المتكرّرة‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬في‭ ‬إسقاط‭ ‬نظام‭ ‬بشّار‭ ‬الأسد،‭ ‬اعتقدت‭ ‬أن‭ ‬الطريق‭ ‬بات‭ ‬ممهّداً‭ ‬لتوجيه‭ ‬ضربة‭ ‬قاصمة‭ ‬لإيران،‭ ‬التي‭ ‬رأت‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬القائد‭ ‬الفعلي‭ ‬لمحور‭ ‬المقاومة‭ ‬الذي‭ ‬حان‭ ‬وقت‭ ‬القضاء‭ ‬عليه‭ ‬بعد‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬تفكيكه‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬يلاحظ‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تجرؤ‭ ‬على‭ ‬شنّ‭ ‬الحرب‭ ‬عليها‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ضمنت‭ ‬مشاركة‭ ‬ترامب،‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬وعد‭ ‬بإنجاز‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬إسرائيل‭ ‬إنجازه‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬إيران‭ ‬توقّفت‭ ‬بعد‭ ‬12‭ ‬يوماً‭ ‬فقط،‭ ‬لكن‭ ‬حرب‭ ‬التجويع‭ ‬والإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬التي‭ ‬تشنّها‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬قطاع‭ ‬غزّة‭ ‬مستمرّة‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬مقاومة‭ ‬شعبية‭ ‬أسطورية‭ ‬يمارسها‭ ‬شعب‭ ‬أعزل،‭ ‬ومقاومة‭ ‬مسلّحة‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬الإعجاز،‭ ‬تمارسها‭ ‬حركتا‭ ‬حماس‭ ‬والجهاد‭ ‬الإسلامي‭ ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬فصائل‭ ‬فلسطينية،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬جماعة‭ ‬الحوثي‭ ‬قادرةً‭ ‬على‭ ‬إطلاق‭ ‬الصواريخ،‭ ‬ومصمّمة‭ ‬على‭ ‬الاستمرار‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تتوقّف‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬القطاع‭. ‬وصحيح‭ ‬أيضاً‭ ‬أننا‭ ‬قد‭ ‬نشهد‭ ‬هدنة‭ ‬مدّتها‭ ‬60‭ ‬يوماً،‭ ‬بل‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬المستبعد‭ ‬تحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬وقف‭ ‬دائم‭ ‬لإطلاق‭ ‬النار،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬عملية‭ ‬إطلاق‭ ‬الصواريخ‭ ‬والمسيّرات‭ ‬من‭ ‬اليمن‭ ‬سوف‭ ‬تتوقّف‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الصراع‭ ‬سيتواصل،‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬يتوقّف‭ ‬نهائياً‭ ‬إلا‭ ‬بتحقّق‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬احتمالين‭: ‬الأول‭ ‬أن‭ ‬تتمكّن‭ ‬إسرائيل‭ ‬من‭ ‬فرض‭ ‬شروطها‭ ‬الكاملة‭ ‬والمطلقة‭ ‬للتسوية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لن‭ ‬يتم،‭ ‬خصوصاً‭ ‬إذا‭ ‬استمرّت‭ ‬حكومتها‭ ‬الحالية،‭ ‬إلا‭ ‬بتهجير‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬من‭ ‬قطاع‭ ‬غزّة،‭ ‬وبضمّ‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬أو‭ ‬أجزاء‭ ‬واسعة‭ ‬منها،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬تصفيةً‭ ‬تامّةً‭ ‬للقضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وهو‭ ‬احتمال‭ ‬غير‭ ‬مرجّح،‭ ‬لأنه‭ ‬يتجاوز‭ ‬قدرات‭ ‬إسرائيل‭ ‬الحالية‭. ‬رغم‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬حقّقته‭ ‬من‭ ‬منجزات‭ ‬عسكرية‭ ‬تكتيكية‭. ‬الثاني‭ ‬أن‭ ‬رضوخ‭ ‬إسرائيل‭ ‬لمطلب‭ ‬إقامة‭ ‬الدولة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المستقلّة‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬4‭ ‬يونيو‭ (‬1967‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬احتمال‭ ‬غير‭ ‬مرجّح‭ ‬أيضاً،‭ ‬لأنه‭ ‬ليس‭ ‬بمقدور‭ ‬القوى‭ ‬الإقليمية‭ ‬والدولية،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬فرضه‭.‬

يعتقد‭ ‬ترامب‭ (‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬حلم‭ ‬حصوله‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للسلام‭ ‬يراوده‭ ‬بقوة‭) ‬أنه‭ ‬يستطيع‭ ‬إنجاز‭ ‬تسوية‭ ‬تتضمّن؛‭ ‬وضع‭ ‬غزّة‭ ‬تحت‭ ‬وصاية‭ ‬عربية‭ ‬ودولية‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت،‭ ‬بعد‭ ‬نزع‭ ‬سلاح‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭ ‬وترحيل‭ ‬قياداتها؛‭ ‬والسماح‭ ‬لإسرائيل‭ ‬بضمّ‭ ‬أجزاء‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية،‭ ‬تشمل‭ ‬جميع‭ ‬المستوطنات‭ ‬اليهودية‭ ‬القائمة‭ ‬حالياً،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬غور‭ ‬الأردن‭ ‬على‭ ‬الأقلّ؛‭ ‬ووعوداً‭ ‬غامضةً‭ ‬حول‭ ‬إقامة‭ ‬دولة‭ ‬فلسطينية‭ ‬خلال‭ ‬خمس‭ ‬أو‭ ‬عشر‭ ‬سنوات،‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬قطاع‭ ‬غزّة‭ ‬وما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬الضفة،‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬إخلائهما‭ ‬من‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬السكّان‭. ‬ولأن‭ ‬حلولاً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬يصعب‭ ‬تسويقها‭ ‬عربياً،‭ ‬ويستحيل‭ ‬تسويقها‭ ‬فلسطينياً،‭ ‬فمن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تؤدّي‭ ‬محاولات‭ ‬فرضها‭ ‬عنوةً،‭ ‬سواء‭ ‬عبر‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬أو‭ ‬الضغوط‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬إلى‭ ‬إثارة‭ ‬مشكلات‭ ‬قد‭ ‬تفضي‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬استقرار‭ ‬المنطقة‭.‬

لذا‭ ‬فالأرجح‭ ‬ألا‭ ‬تكون‭ ‬جولة‭ ‬القتال‭ ‬الحالية‭ ‬هي‭ ‬آخر‭ ‬الجولات‭. ‬فالحرب‭ ‬التي‭ ‬شنّتها‭ ‬كلٌّ‭ ‬من‭ ‬إسرائيل‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬على‭ ‬إيران‭ ‬ستحوّل‭ ‬الصراع‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬إن‭ ‬آجلاً‭ ‬أو‭ ‬عاجلاً،‭ ‬من‭ ‬صراع‭ ‬عربي‭ ‬‭ ‬صهيوني‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬عربي‭ ‬إسلامي‭ ‬‭ ‬صهيوني‭ ‬أمريكي‭ ‬شامل،‭ ‬وهو‭ (‬إن‭ ‬حدث‭) ‬فسيكون‭ ‬التحوّل‭ ‬الأكثر‭ ‬أهميةً‭ ‬تاريخيا‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬الصراع‭.‬

 

{‭ ‬أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬

في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا