العدد : ١٧٣٢٣ - الأربعاء ٢٧ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٢٣ - الأربعاء ٢٧ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

دراما الأطفال بين الغياب والإمكان

بقلم: نبيلة رجب

السبت ١٢ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نعلّم‭ ‬الطفل‭ ‬ألف‭ ‬درس،‭ ‬ونمطره‭ ‬بالنصائح‭ ‬والكتب،‭ ‬لكن‭ ‬تربيته‭ ‬الحقيقية‭ ‬تبدأ‭ ‬مما‭ ‬تراه‭ ‬عيناه‭ ‬وتسمعه‭ ‬أذناه‭. ‬الحكاية‭ ‬والمشهد‭ ‬يزرعان‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تزرعه‭ ‬الكلمات‭. ‬وما‭ ‬يُعرض‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭ ‬ليس‭ ‬لهوًا‭ ‬عابرًا،‭ ‬بل‭ ‬تربية‭ ‬أخرى،‭ ‬تمضي‭ ‬به‭ ‬أحيانا‭ ‬أعمق‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬المناهج‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬مازال‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬بلا‭ ‬حكاية‭ ‬تشبهه‭.‬

هو‭ ‬يراقب‭ ‬بصمت،‭ ‬ونحن‭ ‬نظن‭ ‬أنه‭ ‬غافل،‭ ‬لكنه‭ ‬يخزن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭: ‬اللكنة،‭ ‬الملابس،‭ ‬شكل‭ ‬البيت،‭ ‬حتى‭ ‬نبرة‭ ‬الكلام‭. ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التفاصيل‭ ‬تتراكم‭ ‬في‭ ‬ذاكرته،‭ ‬تشكل‭ ‬صورته‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬وعن‭ ‬العالم‭. ‬وحين‭ ‬يقلد‭ ‬لهجة‭ ‬غير‭ ‬لهجته‭ ‬أو‭ ‬يردد‭ ‬جملا‭ ‬غريبة‭ ‬عن‭ ‬بيئته،‭ ‬فالذنب‭ ‬ليس‭ ‬فيه،‭ ‬بل‭ ‬فينا‭. ‬تركناه‭ ‬يتعلق‭ ‬بشخصيات‭ ‬لا‭ ‬تشبهه‭ ‬لأننا‭ ‬لم‭ ‬نصنع‭ ‬له‭ ‬بديلا‭.‬

مازلت‭ ‬أذكر‭ ‬طفولتي‭ ‬وأنا‭ ‬أشاهد‭ ‬مسرحية‭ ‬كويتية‭ ‬على‭ ‬الخشبة‭. ‬كانت‭ ‬المتألقة‭ ‬دائما‭ ‬هدى‭ ‬حسين‭ ‬تؤدي‭ ‬دور‭ ‬طفلة،‭ ‬ولأول‭ ‬مرة‭ ‬شعرت‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يشبهنا‭ ‬نحن‭ ‬الصغار‭ ‬ويتحدث‭ ‬بلساننا‭. ‬لهجتها،‭ ‬حركاتها،‭ ‬حضورها‭.. ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بدا‭ ‬مألوفا‭ ‬وصادقا‭. ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬تركت‭ ‬في‭ ‬داخلي‭ ‬يقينا‭ ‬لا‭ ‬يمحى‭: ‬للطفل‭ ‬حق‭ ‬أن‭ ‬يُرى‭ ‬ويسمع،‭ ‬لا‭ ‬كزينة‭ ‬على‭ ‬المسرح،‭ ‬بل‭ ‬كصوت‭ ‬حقيقي‭ ‬له‭ ‬مكانته‭.‬

لذلك‭ ‬فرحت‭ ‬وأنا‭ ‬أتابع‭ ‬نجاح‭ ‬مهرجان‭ ‬الدانة‭ ‬للدراما،‭ ‬برعاية‭ ‬كريمة‭ ‬من‭ ‬سمو‭ ‬الشيخ‭ ‬خالد‭ ‬بن‭ ‬حمد‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭. ‬التنظيم،‭ ‬الحضور،‭ ‬الجوائز‭.. ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬كان‭ ‬يليق‭ ‬بالمشهد‭ ‬الفني‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬والخليج‭. ‬

وما‭ ‬أسعدني‭ ‬أكثر‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬ينسوا‭ ‬الطفل،‭ ‬فقد‭ ‬خصصوا‭ ‬جائزة‭ ‬لأفضل‭ ‬ممثل‭ ‬طفل،‭ ‬لكنه‭ ‬تقدير‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتجاوز‭ ‬الأداء،‭ ‬ليشمل‭ ‬الفكرة‭ ‬نفسها‭: ‬أن‭ ‬نكتب‭ ‬له،‭ ‬ننتج‭ ‬له،‭ ‬نُخرج‭ ‬له‭.. ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يطل‭ ‬كعنصر‭ ‬صغير‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬للكبار‭.‬

أحيانا،‭ ‬تكفي‭ ‬فكرة‭ ‬صغيرة‭ ‬لتفتح‭ ‬بابًا‭ ‬لحكايات‭ ‬كبيرة‭. ‬مسلسل‭ ‬قصير‭ ‬باللهجة‭ ‬المحلية،‭ ‬بشخصيات‭ ‬من‭ ‬بيئتنا،‭ ‬يُعرض‭ ‬كل‭ ‬عام‭. ‬ليس‭ ‬ترفا‭ ‬ولا‭ ‬مجاملة،‭ ‬بل‭ ‬مساهمة‭ ‬بسيطة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬جيل‭ ‬يعرف‭ ‬نفسه‭ ‬ويحبها‭. ‬دراما‭ ‬تحكي‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬الغيرة‭ ‬والصداقة‭ ‬والصدق،‭ ‬لا‭ ‬بالوعظ،‭ ‬بل‭ ‬بالحكاية‭. ‬تجعله‭ ‬يضحك،‭ ‬يتأمل،‭ ‬ويشعر‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يراه‭.‬

الطفل‭ ‬لا‭ ‬يرفع‭ ‬شعارًا،‭ ‬لكنه‭ ‬يتشبث‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يشعر‭ ‬أنه‭ ‬يشبهه‭: ‬أغنية‭ ‬البداية،‭ ‬صوت‭ ‬الجدة،‭ ‬لون‭ ‬الجدران،‭ ‬شكل‭ ‬الفريج‭. ‬هذه‭ ‬التفاصيل‭ ‬الصغيرة‭ ‬تمنحه‭ ‬شعورًا‭ ‬بالانتماء‭ ‬لا‭ ‬يُلقّن‭ ‬ولا‭ ‬يُدرّس،‭ ‬بل‭ ‬يتسرب‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬مشاهد‭ ‬مألوفة‭ ‬وحكايات‭ ‬بلهجة‭ ‬البيت‭. ‬وهنا‭ ‬تحديدا‭ ‬تكمن‭ ‬قيمة‭ ‬الدراما‭ ‬المكتوبة‭ ‬من‭ ‬الداخل‭.‬

لدينا‭ ‬كتّاب‭ ‬ومخرجون‭ ‬وأطفال‭ ‬موهوبون‭. ‬ما‭ ‬ينقص‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬نمنح‭ ‬الطفل‭ ‬مساحته،‭ ‬لا‭ ‬بوصفه‭ ‬جمهورًا‭ ‬صغيرا،‭ ‬بل‭ ‬جمهورًا‭ ‬حساسا‭ ‬لا‭ ‬ينسى‭ ‬ما‭ ‬يُقال‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬كيف‭ ‬يُقال‭.‬

أكتب‭ ‬هذا‭ ‬لأن‭ ‬الطفل‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬داخلي‭ ‬مازال‭ ‬يفتقد‭ ‬حكاية‭ ‬تشبهه،‭ ‬ومازال‭ ‬يتمنى‭ ‬أن‭ ‬يجدها‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭ ‬يوما‭. ‬لأن‭ ‬الطفل‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬نفسه‭ ‬فيما‭ ‬يُعرض‭ ‬عليه،‭ ‬يبحث‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭. ‬والمشكلة‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬بحثه،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬كثيرا‭ ‬مما‭ ‬يجده‭ ‬لا‭ ‬يشبهه،‭ ‬ولا‭ ‬يحترمه،‭ ‬ولا‭ ‬يريد‭ ‬له‭ ‬الخير‭.‬

نحتاج‭ ‬هذه‭ ‬الدراما،‭ ‬لا‭ ‬لتسعد‭ ‬الطفولة‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬لتمنحنا‭ ‬جميعا‭ ‬ما‭ ‬نفتقده‭: ‬حكاية‭ ‬صادقة‭ ‬نرى‭ ‬فيها‭ ‬أنفسنا‭ ‬كما‭ ‬كنا،‭ ‬ونطمئن‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬سيكونون‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا