يمكننا أن نعلّم الطفل ألف درس، ونمطره بالنصائح والكتب، لكن تربيته الحقيقية تبدأ مما تراه عيناه وتسمعه أذناه. الحكاية والمشهد يزرعان فيه ما لا تزرعه الكلمات. وما يُعرض على الشاشة ليس لهوًا عابرًا، بل تربية أخرى، تمضي به أحيانا أعمق من كل المناهج. ومع ذلك، مازال الطفل في منطقتنا بلا حكاية تشبهه.
هو يراقب بصمت، ونحن نظن أنه غافل، لكنه يخزن كل شيء: اللكنة، الملابس، شكل البيت، حتى نبرة الكلام. كل هذه التفاصيل تتراكم في ذاكرته، تشكل صورته عن نفسه وعن العالم. وحين يقلد لهجة غير لهجته أو يردد جملا غريبة عن بيئته، فالذنب ليس فيه، بل فينا. تركناه يتعلق بشخصيات لا تشبهه لأننا لم نصنع له بديلا.
مازلت أذكر طفولتي وأنا أشاهد مسرحية كويتية على الخشبة. كانت المتألقة دائما هدى حسين تؤدي دور طفلة، ولأول مرة شعرت أن هناك من يشبهنا نحن الصغار ويتحدث بلساننا. لهجتها، حركاتها، حضورها.. كل شيء بدا مألوفا وصادقا. تلك اللحظة تركت في داخلي يقينا لا يمحى: للطفل حق أن يُرى ويسمع، لا كزينة على المسرح، بل كصوت حقيقي له مكانته.
لذلك فرحت وأنا أتابع نجاح مهرجان الدانة للدراما، برعاية كريمة من سمو الشيخ خالد بن حمد آل خليفة. التنظيم، الحضور، الجوائز.. كل شيء كان يليق بالمشهد الفني في البحرين والخليج.
وما أسعدني أكثر أنهم لم ينسوا الطفل، فقد خصصوا جائزة لأفضل ممثل طفل، لكنه تقدير يجب أن يتجاوز الأداء، ليشمل الفكرة نفسها: أن نكتب له، ننتج له، نُخرج له.. لا أن يطل كعنصر صغير في عمل للكبار.
أحيانا، تكفي فكرة صغيرة لتفتح بابًا لحكايات كبيرة. مسلسل قصير باللهجة المحلية، بشخصيات من بيئتنا، يُعرض كل عام. ليس ترفا ولا مجاملة، بل مساهمة بسيطة في بناء جيل يعرف نفسه ويحبها. دراما تحكي له عن الغيرة والصداقة والصدق، لا بالوعظ، بل بالحكاية. تجعله يضحك، يتأمل، ويشعر أن هناك من يراه.
الطفل لا يرفع شعارًا، لكنه يتشبث بكل ما يشعر أنه يشبهه: أغنية البداية، صوت الجدة، لون الجدران، شكل الفريج. هذه التفاصيل الصغيرة تمنحه شعورًا بالانتماء لا يُلقّن ولا يُدرّس، بل يتسرب من بين مشاهد مألوفة وحكايات بلهجة البيت. وهنا تحديدا تكمن قيمة الدراما المكتوبة من الداخل.
لدينا كتّاب ومخرجون وأطفال موهوبون. ما ينقص هو أن نمنح الطفل مساحته، لا بوصفه جمهورًا صغيرا، بل جمهورًا حساسا لا ينسى ما يُقال له ولا كيف يُقال.
أكتب هذا لأن الطفل الذي في داخلي مازال يفتقد حكاية تشبهه، ومازال يتمنى أن يجدها على الشاشة يوما. لأن الطفل حين لا يرى نفسه فيما يُعرض عليه، يبحث عنها في مكان آخر. والمشكلة ليست في بحثه، بل في أن كثيرا مما يجده لا يشبهه، ولا يحترمه، ولا يريد له الخير.
نحتاج هذه الدراما، لا لتسعد الطفولة وحدها، بل لتمنحنا جميعا ما نفتقده: حكاية صادقة نرى فيها أنفسنا كما كنا، ونطمئن بها على من سيكونون.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك