كان من المستغرب كثيرا بل ومن المستبعد أن تشهد العلاقات الروسية الأفغانية تطورا إيجابيا لافتا بسبب الخلفية التاريخية التي ورثتها روسيا الاتحادية عن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية وذاكرة العداء بين البلدين بسبب الحرب السوفيتية الأفغانية في ثمانينيات القرن الماضي، ولكن في الواقع فوجئ العالم مؤخرا بالاعتراف الروسي بحكومة طالبان وتبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين على مستوى السفراء.
وينطبق المثل الأكثر شهرة «لا وجود لصداقة دائمة ولا لعداوة دائمة وإنما مصالح دائمة». ينطبق هذا المثل على التحول بين البلدين، والذي بدأ حقيقة قبل أكثر من سنة من خلال الاتصالات بين الروس وحكومة طالبان، هذه الاتصالات التي توجت بالاعتراف المشار إليه.
وإذا ما أردنا البحث في دواعي هذه الخطوة الروسية الأفغانية فلا بد أن نتوقف عند النقاط التالية:
الأولى: الدواعي الأمنية التي دفعت روسيا الاتحادية بوجه خاص نحو التنسيق الأمني مع حكومة طالبان لمحاربة الإرهاب، وخاصة بعد العملية الإرهابية الكبيرة التي نفذها ما يسمى جيش خوراسان، وهو جزء من تنظيم داعش الذي كان يحتمي بأفغانستان، وإن هذه العملية الإرهابية أدت إلى خسائر بشرية تجاوزت 130 شخصا كانوا في صالة الاحتفالات على أطراف موسكو، وكان ذلك بمثابة التهديد الكبير للأمن الروسي، واتضح وقتها أنه لا مناص من التنسيق الأمني المباشر مع حكومة طالبان لمحاصرة هذا الإرهاب المتصاعد، وقد بدا مثل هذا التنسيق واضحا منذ ذلك الحادث الأليم وتطور في الفترة الأخيرة ليصبح عنصرا أساسيا من عناصر هذه العلاقة الجديدة.
الثانية: الدواعي الاقتصادية، وعلى الرغم من أن أفغانستان تعد من الدول الأكثر فقرا ومواردها المالية والاقتصادية ضعيفة ولا تؤهلها إلى أن تكون شريكا اقتصاديا مهما لروسيا، وخاصة عدم امتلاكها الموارد المالية لشراء الغاز الروسي بكميات كبيرة، فإن حجم التبادل التجاري بين البلدين قد تجاوز المليار دولار في عام 2024، خاصة من خلال تصدير الغاز الروسي إلى أفغانستان بكميات بسيطة لتشغيل وسد جزء من احتياجات البلد من الطاقة.
هذا من جانب ومن جانب آخر، فإن عين روسيا الاتحادية على الموارد الغنية والمتعددة في الأراضي الأفغانية، وخاصة من الموارد والمعادن النادرة والثمينة التي يمكن للروس أن يستفيدوا منها مستقبلا، كما ان الروس وجدوا في أفغانستان سوقا لصادراتهم الزراعية، خاصة القمح الذي يعد المصدر الرئيسي للغذاء في أفغانستان.
وعلى الرغم من أن الوضع الأمني في أفغانستان ما زال هشا وغير مستقر بشكل كامل يسمح التوسع في الاستثمار وبناء شراكات اقتصادية كبيرة، فإن الروس يخططون على المدى المتوسط والبعيد لقطع الطريق أمام المنافسين الآخرين، وأن يكونوا السابقين على الأقل، وهذا ما يبدو أن الروس يفكرون فيه بشكل جدي.
الثالثة: الدواعي السياسية والاستراتيجية من الواضح أنه بعد خروج الأمريكان من أفغانستان وانهيار السيطرة الغربية تماما في أفغانستان قبل أربع سنوات تقريبا، فإن روسيا كما الصين تحاولان العودة إلى هذا البلد وشبك المصالح معه بشكل تدريجي بما يعزز أمنه واستقراره من ناحية وبما يقطع الطريق على الدول الغربية وخاصة الأمريكية والأوروبية لمنع عودتها إلى أفغانستان والسيطرة عليها من جديد لتكون جزءاً من فضاء السيطرة الغربية.
ولا شك أن الخطوة الروسية مدروسة بشكل دقيق ولتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي بما في ذلك إعادة تسليح أفغانستان بالسلاح الروسي الحديث بما يحقق استقرار هذا البلد ودعمه بالشكل الذي يجعله قادرا على محاربة الجماعات الإرهابية، خاصة بعد أن عبرت الحكومة الجديدة عن اتجاهها السياسي الجديد القائم على بناء العلاقات السياسية على أساس المصالح فقط، ولعل الخطوة الروسية تفتح الباب أمام كل من الصين وباكستان وإيران وبعض الدول الأخرى للاعتراف بحكومة طالبان وإعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة، مما يجعل الخطوة الروسية مقدمة لتشجيع الحكومة الإسلامية في أفغانستان على تبني سياسات أكثر اعتدالا في مجال حقوق الإنسان وخاصة حقوق المرأة واحترام إنسانيتها.
إن أغلب الدراسات والتحليلات والمتابعات للوضع الأفغاني تشير إلى أن الاعتراف الدولي بحكومة طالبان يدفعها إلى مراعاة القانون الدولي والتخفيف من التوجه المحافظ لهذه الحكومة وتبني سياسات معتدلة نسبيا تساعد على قبولها من دول العالم.
كما ان نجاح هذه الخطوة الروسية التي من المرجح أن تتبعها خطوة صينية مماثلة سوف تؤدي على الأرجح إلى تعزيز الحلف لمواجهة السياسات الغربية المعادية لروسيا الاتحادية وحلفائها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك