في السنوات الأخيرة، تحوّلت القارة الإفريقية إلى ساحة صراع غير معلن بين القوى العالمية الكبرى، في سباق محموم على النفوذ والسيطرة والمصالح. ومع أن المشهد لم يعد يشبه الاستعمار التقليدي بجيوشه وأسلاكه الشائكة، إلا أن أدوات الهيمنة الجديدة أكثر نعومة، وأحيانًا أكثر فعالية. فهل نحن أمام استعمار ناعم جديد؟ أم أمام شراكات دولية متوازنة تسعى لتنمية القارة؟ الإجابة تكمن في تحليل ما تفعله الصين، وروسيا، وفرنسا، والولايات المتحدة داخل القارة.
الصين: التنمية أم الهيمنة بالديون؟
الصين اليوم هي الشريك التجاري الأكبر لمعظم دول أفريقيا، وأكبر ممول لمشروعات البنية التحتية من طرق وسكك حديدية وموانئ وسدود. تحت شعار «التنمية المشتركة»، تضخ بكين المليارات في مشاريع استراتيجية تبدو مغرية لحكومات تبحث عن حلول سريعة لمشاكلها الهيكلية.
لكنّ هذا الكرم الصيني لا يخلو من شروط خفية. فالقروض الميسّرة التي تقدمها الصين تتحوّل أحيانًا إلى عبء ثقيل على الدول الفقيرة، مما يثير تساؤلات حول «فخ الديون» الذي تقع فيه بعض الحكومات. وعندما تعجز هذه الحكومات عن السداد، يكون المقابل غالبًا السيطرة على أصول استراتيجية كالموانئ أو مناجم المعادن.
عسكريًا، للصين وجود محدود لكنه متزايد. فقد أنشأت أول قاعدة عسكرية لها خارج أراضيها في جيبوتي، وتعزز تعاونها الأمني في شرق القارة، خاصة في إطار بعثات حفظ السلام. أما ثقافيًا، فتوسعت الصين في إنشاء المعاهد التعليمية والمنح الدراسية، وبدأت في تصدير نموذجها الخاص من «التنمية دون ديمقراطية»، وهو ما يلقى قبولًا متزايدًا في أنظمة تبحث عن الاستقرار أكثر من الحريات.
روسيا: العودة من بوابة الأمن
بعد سنوات من الانكفاء، عادت روسيا إلى أفريقيا عبر البوابة الأمنية. لم تأتِ بجيوش جرارة، بل بشركات أمنية خاصة مثل «فاجنر» (ثم أفريكا كوربس التي حلت محل فاجنر)، تقدم خدمات الحماية وتدريب الجيوش، مقابل عقود تعدين وتسهيلات اقتصادية.
روسيا لا تطرح نفسها كشريك تنموي مثل الصين أو الغرب، بل تعرض الأمن والسيادة بدون شروط سياسية. وهذا يجعلها جذابة للأنظمة المهددة بانقلابات أو تمرّدات. وفي المقابل، تحصل موسكو على موطئ قدم في حقول الذهب واليورانيوم والنفط.
أما على الصعيد الثقافي، فروسيا توظف الإعلام والمنح الدراسية والمنظمات الثقافية لنشر روايتها. تسعى لتقديم نفسها كقوة عالمية تحترم سيادة الدول، على عكس الغرب الذي يُتهم بفرض الأجندات السياسية. هذه الرسالة تلقى صدى في بيئة تعاني من الإرث الاستعماري وتشعر بالإرهاق من الإملاءات الغربية.
فرنسا: نفوذ متآكل
فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، تواجه تراجعًا حادًا في نفوذها التقليدي بأفريقيا. فقد كانت حتى وقت قريب القوة المهيمنة في غرب القارة، اقتصاديًا وعسكريًا وثقافيًا. لكن خلال السنوات القليلة الماضية، أجبرت على سحب قواتها من مالي وبوركينا فاسو والنيجر بعد موجات احتجاج شعبية واتهامات بالتدخل في الشؤون الداخلية.
اقتصاديًا، لا تزال الشركات الفرنسية حاضرة في مجالات الاتصالات والطاقة والأسواق الاستهلاكية. كما أن العملة التي تصدرها دول الفرنك الإفريقي لا تزال ترتبط بفرنسا، وهو ما يعتبره البعض رمزًا لتبعية اقتصادية مستمرة.
ثقافيًا، تروّج فرنسا للفرنكفونية واللغة الفرنسية من خلال معاهدها ومبادراتها التعليمية، لكنها تواجه تحديات من لغات وثقافات محلية آخذة في الصعود، ومن قوى أخرى أكثر مرونة في التعامل، مثل تركيا وروسيا.
الولايات المتحدة: شراكة مشروطة
تتحرك الولايات المتحدة في أفريقيا بمنطق مختلف؛ فهي لا تنافس الصين أو روسيا في حجم الاستثمارات المباشرة، لكنها تحاول الحفاظ على نفوذها من خلال أدوات القوة الناعمة والمساعدات التنموية والشراكات الأمنية.
اقتصاديًا، أطلقت واشنطن مبادرات لتشجيع التجارة والاستثمار، لكنها غالبًا ما تُربط بشروط تتعلق بالحوكمة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو ما يضعف جاذبيتها مقارنة بعروض «بلا شروط» من بكين أو موسكو.
عسكريًا، تملك الولايات المتحدة قواعد ومراكز مراقبة استخباراتية في القرن الإفريقي وغربه، وتدير عمليات بطائرات مسيّرة وتقدم تدريبات لقوات محلية تحت مظلة مكافحة الإرهاب.
أما ثقافيًا، فالتأثير الأميركي لا يُنافس، بفضل اللغة الإنجليزية ومنصات الإعلام والمحتوى الترفيهي ومنح الجامعات المرموقة. غير أن هذا النفوذ يلقى انتقادات تتهم واشنطن بممارسة ازدواجية المعايير، وفرض قيم لا تتناسب دائمًا مع السياق الإفريقي.
أفريقيا بين المطرقة والسندان
أمام كل هذا التنافس، تبدو أفريقيا وكأنها عادت إلى موقعها التقليدي: مسرحًا للتجاذبات الدولية. لكنها ليست اليوم بنفس الضعف الذي كانت عليه خلال الاستعمار الكلاسيكي. فدول عديدة أصبحت تمتلك هامشًا من المناورة، وتلعب على التناقضات بين القوى الكبرى لتحسين موقعها التفاوضي.
ومع ذلك، لا تزال كثير من الدول الأفريقية تعاني من هشاشة مؤسساتها، وفساد نُخبها، وضعف بنيتها الإنتاجية، مما يجعلها عرضة للوقوع في فخ التبعية، مهما اختلفت المسميات.
هل هو استعمار ناعم بالفعل؟
قد لا تكون هناك جيوش تحتل العواصم، ولا معاهدات حماية مفروضة، لكنّ السيطرة لا تُقاس فقط بالجنود. في عصر العولمة، يمكن أن يكون النفوذ الاقتصادي والسياسي والثقافي أقوى من أي احتلال. فعندما تصبح قرارات دولة ما رهينة لقروض من الصين، أو حماية أمنية من روسيا، أو إملاءات سياسية من الغرب، فإن الحديث عن السيادة يصبح نسبيًا.
الاستعمار الناعم لا يأتي بصخب، بل يتسلل عبر المشروعات الكبرى، والتكنولوجيا، والإعلام، والتعليم، واللغة. إنه استعمار بلا مدافع، لكنه قد يكون أشد وطأة.
وختامًا، تخوض أفريقيا اليوم معركة غير متكافئة للحفاظ على استقلالها الفعلي، في عالم يتغير بسرعة، وتتشابك فيه المصالح والمخاطر. والاختبار الحقيقي ليس فيمن يأتي إليها، بل في كيفية إدارة الأفارقة أنفسهم لهذا التنافس.
تنافس الصين وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة في أفريقيا يأخذ اليوم مظهراً مختلفاً عن استعمار الماضي، بتركيزه على أدوات اقتصادية وأمنية وثقافية ناعمة. ومع ذلك، يبقى السؤال حاضراً: هل سيتخطى الأمر مشاركة المصالح والموارد لتتجدد أنماط الاستغلال القاري بعباءة «نشاط تنموي متبادَل»؟ أم أن أفريقيا ستتمكن من رسم «خريطة تعاون» تحقق مصالحها قبل مصالح الشركاء؟ الوقت وحده كفيل بإظهار المسار الذي تسلكه العلاقات.
{ أستاذ مساعد بقسم العلوم
الاجتماعية – كلية الآداب بجامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك