في أحد الأيام، طرق بابي أحد العمال الذين يتجولون بين البيوت لبيع الصيد. كان يحمل سلة مغطاة بشبك خفيف، ويعرض عليّ ربيانا وسمك كنعد، لكنني كنت أعلم أن الوقت ليس وقت صيد. الحظر لا يزال قائما، والبحر يحتاج فرصة ليلتقط أنفاسه. لم أجادله، فقط أخبرته بما أعرفه عن أثر هذه الممارسات، ابتسم بتردد، ثم غادر وكأن ثقلا خفيا هبط على كتفيه.
منذ ذلك اليوم، صرت أفكر: لو كان للبحر لسان، ماذا كان سيقول لنا عن حقه في الراحة؟
الصيد في غير وقته، حتى لو بدا بسيطا، ليس أمرا بلا أثر. البحر يحتاج أن يُترك قليلا ليستعيد عافيته، والثروة البحرية ليست بلا حدود. من يصطاد أثناء الحظر، ومن يشتري من مخالف، كلاهما يفتح ثغرة. والقانون وحده لا يكفي إذا لم يكن الالتزام نابعا من قناعة داخلية.
لا أقول إن هذا المشهد يتكرر في كل مكان، لكنه بالتأكيد ليس غائبا. أحيانا تمر سلال بخفية، ويشتري منها من يظن أن الأمر بسيط، من دون أن ينتبه إلى أن مثل هذه السلوكيات، وإن بدت عابرة، تترك في الذاكرة أثرا خادعا: أن القانون يمكن تجاوزه، وأن الخطأ لا يُعتبر خطأ إن لم يره أحد. وهنا يكمن الخطر الحقيقي.
مؤخرا، صدرت تعديلات على المادة (33) من قانون تنظيم صيد واستغلال الثروة البحرية. القانون المعدل شدد العقوبات على من يتجاوز فترات الحظر، أو يصطاد في مناطق غير مسموح بها، أو يبيع منتجات بحرية لا يجوز صيدها أصلا. رفع الغرامات وحدد المسؤوليات بشكل أوضح. وهي خطوة مهمة لا شك في ذلك.
لكن إلى جانب الردع، نحتاج إلى وعي طويل الأمد. أن يترسخ احترام البحر في المدارس، وفي الإعلام، وفي القصص التي تُروى للأطفال. أن يعرف الناس منذ البداية لماذا وُجدت فترات الحظر، وما الذي يعنيه أن نصطاد قبل أوانه. فالعقوبة قد تردع، لكن الوعي هو من يمنع.
أحيانا، ونحن نقرأ نصوص القانون، ننسى أن خلف كل مادة قصة طويلة من الألم، والتجارب التي دفعت الى صياغتها. البحر ليس غريبا عنا، ولا نصوصه غريبة علينا، لكنها تحتاج أن نقرأها بقلوبنا لا بورقة فقط. لأننا في النهاية نحمي أنفسنا حين نحميه.
في حديث لا أنساه، التقيت أحد كبار الصيادين، من أولئك الذين شابوا وهم على موجه. كان جالسا على الساحل، يُنظّف شبكة صيده بهدوء، ويفك عقدها كمن يرتب ذاكرة طويلة. قال لي بنبرة فيها عتاب خفيف:
«الصيد ما هو عيب.. العيب لما يصير في وقته الغلط، من غير ما تحسب حساب للبحر»، ثم عاد لترتيب خيوطه، كأنه يطلب من البحر الصفح، أو على الأقل بعض الصبر.
البحر ليس جمادًا. له أنفاسه، وله صبره، وله غضبه. أحيانا، حين أمر بجانب الساحل، أتساءل: كم من هذا الهدوء يخفي تحته؟ كم من الاستنزاف وقع عليه بصمت، من دون أن نُبالي؟
صحيح أن الجهات المعنية تبذل جهدا في الرقابة، وخفر السواحل لا يتوقف، لكن وحدهم الناس يصنعون الفارق. حين نرفض الشراء من مخالف، حين نُخبر أبناءنا أن البحر لا يُستباح، حين نعتبر الحظر التزاما لا عبئا، نكون قد أخذنا خطوة في الاتجاه الصحيح.
فالتراث لا يُصان بالحكايات وحدها، بل بالفعل. ومن أراد أن يصون البحر كجزء من هويته، فليحمه حين يكون ضعيفا، لا فقط حين يغدق العطاء.
ليس كل الناس من أهل البحر، ولا الجميع يعرف مواسمه وتفاصيله، لكن الكل يدرك أن البحر له طاقة، وأن الاستنزاف لا يمر بلا ثمن. الضرر الذي نُسببه اليوم لن يظل هناك فقط، بل سيرتد علينا، في صورة غلاء، أو فساد في النوع، أو اختفاء مورد كنا نظنه دائما حاضرا.
القانون كما هو الآن بات أكثر قوة في حماية البحر، لكنه لا يمنع يدا تصطاد خفية، إن لم تمنعها ثقافة مجتمعية تعرف الخجل من الضرر، لا المباهاة بالتحايل.
البحر لا يشتكي، لكنه حين يتعب.. يغيّر كل شيء. لا يقول شيئا، لكنه يقلّل من عطاياه، وتبهت ألوانه، وتقل خيراته. ومن لا ينتبه اليوم، سيكتشف غدا أن البحر لم يعد كما عرفه، لا في طعمه، ولا في ثروته، ولا حتى في حضوره في حياتنا.
ومن أراد أن يحتفظ بعلاقة صافية مع البحر، فليبدأ بحمايته.. من نفسه، ومن الآخرين، ومن السلوكيات التي قد تبدو بسيطة، لكنها مع الوقت تُثقله كثيرا.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك