العدد : ١٧٢٧٥ - الخميس ١٠ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٧٥ - الخميس ١٠ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ محرّم ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

حين يخذلك البحر.. تذكر ماذا فعلت به؟

بقلم: نبيلة رجب

الأربعاء ٠٩ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬أحد‭ ‬الأيام،‭ ‬طرق‭ ‬بابي‭ ‬أحد‭ ‬العمال‭ ‬الذين‭ ‬يتجولون‭ ‬بين‭ ‬البيوت‭ ‬لبيع‭ ‬الصيد‭. ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬سلة‭ ‬مغطاة‭ ‬بشبك‭ ‬خفيف،‭ ‬ويعرض‭ ‬عليّ‭ ‬ربيانا‭ ‬وسمك‭ ‬كنعد،‭ ‬لكنني‭ ‬كنت‭ ‬أعلم‭ ‬أن‭ ‬الوقت‭ ‬ليس‭ ‬وقت‭ ‬صيد‭. ‬الحظر‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬قائما،‭ ‬والبحر‭ ‬يحتاج‭ ‬فرصة‭ ‬ليلتقط‭ ‬أنفاسه‭. ‬لم‭ ‬أجادله،‭ ‬فقط‭ ‬أخبرته‭ ‬بما‭ ‬أعرفه‭ ‬عن‭ ‬أثر‭ ‬هذه‭ ‬الممارسات،‭ ‬ابتسم‭ ‬بتردد،‭ ‬ثم‭ ‬غادر‭ ‬وكأن‭ ‬ثقلا‭ ‬خفيا‭ ‬هبط‭ ‬على‭ ‬كتفيه‭.‬

منذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬صرت‭ ‬أفكر‭: ‬لو‭ ‬كان‭ ‬للبحر‭ ‬لسان،‭ ‬ماذا‭ ‬كان‭ ‬سيقول‭ ‬لنا‭ ‬عن‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬الراحة؟

الصيد‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬وقته،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬بدا‭ ‬بسيطا،‭ ‬ليس‭ ‬أمرا‭ ‬بلا‭ ‬أثر‭. ‬البحر‭ ‬يحتاج‭ ‬أن‭ ‬يُترك‭ ‬قليلا‭ ‬ليستعيد‭ ‬عافيته،‭ ‬والثروة‭ ‬البحرية‭ ‬ليست‭ ‬بلا‭ ‬حدود‭. ‬من‭ ‬يصطاد‭ ‬أثناء‭ ‬الحظر،‭ ‬ومن‭ ‬يشتري‭ ‬من‭ ‬مخالف،‭ ‬كلاهما‭ ‬يفتح‭ ‬ثغرة‭. ‬والقانون‭ ‬وحده‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الالتزام‭ ‬نابعا‭ ‬من‭ ‬قناعة‭ ‬داخلية‭.‬

لا‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬يتكرر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬لكنه‭ ‬بالتأكيد‭ ‬ليس‭ ‬غائبا‭. ‬أحيانا‭ ‬تمر‭ ‬سلال‭ ‬بخفية،‭ ‬ويشتري‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬يظن‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬بسيط،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينتبه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬السلوكيات،‭ ‬وإن‭ ‬بدت‭ ‬عابرة،‭ ‬تترك‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬أثرا‭ ‬خادعا‭: ‬أن‭ ‬القانون‭ ‬يمكن‭ ‬تجاوزه،‭ ‬وأن‭ ‬الخطأ‭ ‬لا‭ ‬يُعتبر‭ ‬خطأ‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يره‭ ‬أحد‭. ‬وهنا‭ ‬يكمن‭ ‬الخطر‭ ‬الحقيقي‭.‬

مؤخرا،‭ ‬صدرت‭ ‬تعديلات‭ ‬على‭ ‬المادة‭ (‬33‭) ‬من‭ ‬قانون‭ ‬تنظيم‭ ‬صيد‭ ‬واستغلال‭ ‬الثروة‭ ‬البحرية‭. ‬القانون‭ ‬المعدل‭ ‬شدد‭ ‬العقوبات‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يتجاوز‭ ‬فترات‭ ‬الحظر،‭ ‬أو‭ ‬يصطاد‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬غير‭ ‬مسموح‭ ‬بها،‭ ‬أو‭ ‬يبيع‭ ‬منتجات‭ ‬بحرية‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬صيدها‭ ‬أصلا‭. ‬رفع‭ ‬الغرامات‭ ‬وحدد‭ ‬المسؤوليات‭ ‬بشكل‭ ‬أوضح‭. ‬وهي‭ ‬خطوة‭ ‬مهمة‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬ذلك‭.‬

لكن‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الردع،‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬وعي‭ ‬طويل‭ ‬الأمد‭. ‬أن‭ ‬يترسخ‭ ‬احترام‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬المدارس،‭ ‬وفي‭ ‬الإعلام،‭ ‬وفي‭ ‬القصص‭ ‬التي‭ ‬تُروى‭ ‬للأطفال‭. ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬الناس‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬لماذا‭ ‬وُجدت‭ ‬فترات‭ ‬الحظر،‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬يعنيه‭ ‬أن‭ ‬نصطاد‭ ‬قبل‭ ‬أوانه‭. ‬فالعقوبة‭ ‬قد‭ ‬تردع،‭ ‬لكن‭ ‬الوعي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يمنع‭.‬

أحيانا،‭ ‬ونحن‭ ‬نقرأ‭ ‬نصوص‭ ‬القانون،‭ ‬ننسى‭ ‬أن‭ ‬خلف‭ ‬كل‭ ‬مادة‭ ‬قصة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الألم،‭ ‬والتجارب‭ ‬التي‭ ‬دفعت‭ ‬الى‭ ‬صياغتها‭. ‬البحر‭ ‬ليس‭ ‬غريبا‭ ‬عنا،‭ ‬ولا‭ ‬نصوصه‭ ‬غريبة‭ ‬علينا،‭ ‬لكنها‭ ‬تحتاج‭ ‬أن‭ ‬نقرأها‭ ‬بقلوبنا‭ ‬لا‭ ‬بورقة‭ ‬فقط‭. ‬لأننا‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬نحمي‭ ‬أنفسنا‭ ‬حين‭ ‬نحميه‭.‬

في‭ ‬حديث‭ ‬لا‭ ‬أنساه،‭ ‬التقيت‭ ‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬الصيادين،‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬شابوا‭ ‬وهم‭ ‬على‭ ‬موجه‭. ‬كان‭ ‬جالسا‭ ‬على‭ ‬الساحل،‭ ‬يُنظّف‭ ‬شبكة‭ ‬صيده‭ ‬بهدوء،‭ ‬ويفك‭ ‬عقدها‭ ‬كمن‭ ‬يرتب‭ ‬ذاكرة‭ ‬طويلة‭. ‬قال‭ ‬لي‭ ‬بنبرة‭ ‬فيها‭ ‬عتاب‭ ‬خفيف‭:‬

‮«‬الصيد‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عيب‭.. ‬العيب‭ ‬لما‭ ‬يصير‭ ‬في‭ ‬وقته‭ ‬الغلط،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬تحسب‭ ‬حساب‭ ‬للبحر‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬لترتيب‭ ‬خيوطه،‭ ‬كأنه‭ ‬يطلب‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬الصفح،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬بعض‭ ‬الصبر‭.‬

البحر‭ ‬ليس‭ ‬جمادًا‭. ‬له‭ ‬أنفاسه،‭ ‬وله‭ ‬صبره،‭ ‬وله‭ ‬غضبه‭. ‬أحيانا،‭ ‬حين‭ ‬أمر‭ ‬بجانب‭ ‬الساحل،‭ ‬أتساءل‭: ‬كم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الهدوء‭ ‬يخفي‭ ‬تحته؟‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬الاستنزاف‭ ‬وقع‭ ‬عليه‭ ‬بصمت،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نُبالي؟

صحيح‭ ‬أن‭ ‬الجهات‭ ‬المعنية‭ ‬تبذل‭ ‬جهدا‭ ‬في‭ ‬الرقابة،‭ ‬وخفر‭ ‬السواحل‭ ‬لا‭ ‬يتوقف،‭ ‬لكن‭ ‬وحدهم‭ ‬الناس‭ ‬يصنعون‭ ‬الفارق‭. ‬حين‭ ‬نرفض‭ ‬الشراء‭ ‬من‭ ‬مخالف،‭ ‬حين‭ ‬نُخبر‭ ‬أبناءنا‭ ‬أن‭ ‬البحر‭ ‬لا‭ ‬يُستباح،‭ ‬حين‭ ‬نعتبر‭ ‬الحظر‭ ‬التزاما‭ ‬لا‭ ‬عبئا،‭ ‬نكون‭ ‬قد‭ ‬أخذنا‭ ‬خطوة‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬الصحيح‭.‬

فالتراث‭ ‬لا‭ ‬يُصان‭ ‬بالحكايات‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬بالفعل‭. ‬ومن‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يصون‭ ‬البحر‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬هويته،‭ ‬فليحمه‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬ضعيفا،‭ ‬لا‭ ‬فقط‭ ‬حين‭ ‬يغدق‭ ‬العطاء‭.‬

ليس‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬البحر،‭ ‬ولا‭ ‬الجميع‭ ‬يعرف‭ ‬مواسمه‭ ‬وتفاصيله،‭ ‬لكن‭ ‬الكل‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬البحر‭ ‬له‭ ‬طاقة،‭ ‬وأن‭ ‬الاستنزاف‭ ‬لا‭ ‬يمر‭ ‬بلا‭ ‬ثمن‭. ‬الضرر‭ ‬الذي‭ ‬نُسببه‭ ‬اليوم‭ ‬لن‭ ‬يظل‭ ‬هناك‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬سيرتد‭ ‬علينا،‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬غلاء،‭ ‬أو‭ ‬فساد‭ ‬في‭ ‬النوع،‭ ‬أو‭ ‬اختفاء‭ ‬مورد‭ ‬كنا‭ ‬نظنه‭ ‬دائما‭ ‬حاضرا‭.‬

القانون‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الآن‭ ‬بات‭ ‬أكثر‭ ‬قوة‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬البحر،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يمنع‭ ‬يدا‭ ‬تصطاد‭ ‬خفية،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تمنعها‭ ‬ثقافة‭ ‬مجتمعية‭ ‬تعرف‭ ‬الخجل‭ ‬من‭ ‬الضرر،‭ ‬لا‭ ‬المباهاة‭ ‬بالتحايل‭.‬

البحر‭ ‬لا‭ ‬يشتكي،‭ ‬لكنه‭ ‬حين‭ ‬يتعب‭.. ‬يغيّر‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬لا‭ ‬يقول‭ ‬شيئا،‭ ‬لكنه‭ ‬يقلّل‭ ‬من‭ ‬عطاياه،‭ ‬وتبهت‭ ‬ألوانه،‭ ‬وتقل‭ ‬خيراته‭. ‬ومن‭ ‬لا‭ ‬ينتبه‭ ‬اليوم،‭ ‬سيكتشف‭ ‬غدا‭ ‬أن‭ ‬البحر‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬كما‭ ‬عرفه،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬طعمه،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬ثروته،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬حضوره‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭.‬

ومن‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يحتفظ‭ ‬بعلاقة‭ ‬صافية‭ ‬مع‭ ‬البحر،‭ ‬فليبدأ‭ ‬بحمايته‭.. ‬من‭ ‬نفسه،‭ ‬ومن‭ ‬الآخرين،‭ ‬ومن‭ ‬السلوكيات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬بسيطة،‭ ‬لكنها‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬تُثقله‭ ‬كثيرا‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا