العدد : ١٧٢٧٣ - الثلاثاء ٠٨ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٣ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٧٣ - الثلاثاء ٠٨ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٣ محرّم ١٤٤٧هـ

مقالات

فعالية الخطط الحكومية (2): هل نُخطط لنُنجز.. أم نُخطط لنسجل؟

بقلم: عبير محمد دهام

الثلاثاء ٠٨ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬الجزء‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬كتبت‭ ‬عن‭ ‬الفجوة‭ ‬التي‭ ‬يعرفها‭ ‬كثيرون،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تفصل‭ ‬بين‭ ‬الخطط‭ ‬التي‭ ‬تُعتمد‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬والنتائج‭ ‬التي‭ ‬تُقاس‭ ‬على‭ ‬الأرض‭.. ‬لم‭ ‬أكتب‭ ‬بدافع‭ ‬الاعتراض‭ ‬بل‭ ‬بدافع‭ ‬الفهم‭.. ‬لأن‭ ‬أسئلة‭ ‬التنفيذ‭ ‬تبقى‭ ‬الأهم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مشروع‭ ‬طموح‭. ‬بعد‭ ‬النشر،‭ ‬وصلتني‭ ‬رسائل‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬خبرة‭ ‬ومسؤولين،‭ ‬كتب‭ ‬أحدهم‭: ‬‮«‬من‭ ‬أصدق‭ ‬ما‭ ‬قرأت‮»‬،‭ ‬وآخرون‭ ‬شاركوا‭ ‬المقال،‭ ‬وقالت‭ ‬إحدى‭ ‬المتابعات‭: ‬‮«‬من‭ ‬زمان‭ ‬ما‭ ‬قرأنا‭ ‬مقالا‭ ‬نوعيا‭ ‬باركنا‭ ‬لك‭ ‬الفكر‭ ‬والقلم‮»‬‭.‬

وكثيرون‭ ‬قالوا‭ ‬إنهم‭ ‬وجدوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬بين‭ ‬السطور،‭ ‬وإن‭ ‬المقال‭ ‬عبّر‭ ‬عن‭ ‬حاجة‭ ‬حقيقية‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬مهني‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تجميل‭.. ‬هذه‭ ‬العبارات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مجاملات‭ ‬عابرة،‭ ‬بل‭ ‬مؤشرات‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬المقال‭ ‬لمس‭ ‬واقعاً‭ ‬مهنياً‭ ‬نعيشه‭ ‬في‭ ‬مؤسساتنا،‭ ‬ولهذا‭ ‬جاء‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬الثاني‭ ‬استمراراً‭ ‬لطرح‭ ‬انطلق‭ ‬من‭ ‬الميدان‭ ‬ويعود‭ ‬إليه‭.‬

ما‭ ‬تكشف‭ ‬لي‭ ‬بوضوح‭ ‬أن‭ ‬الخلل‭ ‬لا‭ ‬يبدأ‭ ‬عند‭ ‬اعتماد‭ ‬الخطط‭ ‬أو‭ ‬إعلانها،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬ترجمتها‭ ‬إلى‭ ‬تنفيذ‭ ‬حينها‭ ‬تظهر‭ ‬الفجوة‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬كُتب‭ ‬وما‭ ‬يمكن‭ ‬تطبيقه‭ ‬فعلياً‭. ‬فكم‭ ‬من‭ ‬خطة‭ ‬تحمل‭ ‬أهدافاً‭ ‬طموحة‭ ‬لكنها‭ ‬تصطدم‭ ‬بهياكل‭ ‬غير‭ ‬جاهزة،‭ ‬أو‭ ‬بجداول‭ ‬زمنية‭ ‬لا‭ ‬تراعي‭ ‬طبيعة‭ ‬العمل،‭ ‬أو‭ ‬بضعف‭ ‬في‭ ‬التنسيق،‭ ‬ومحدودية‭ ‬في‭ ‬الموارد‭. ‬هذه‭ ‬ليست‭ ‬انطباعات‭ ‬شخصية‭ ‬بل‭ ‬حقائق‭ ‬موثقة‭ ‬في‭ ‬تقارير‭ ‬دولية‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬صدر‭ ‬عن‭ ‬البنك‭ ‬الدولي،‭ ‬حيث‭ ‬أُشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سبب‭ ‬الفشل‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الخطط‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬انفصالها‭ ‬عن‭ ‬القدرات‭ ‬التنفيذية‭ ‬الفعلية‭.‬

ومع‭ ‬أن‭ ‬الجهود‭ ‬المبذولة‭ ‬لتحسين‭ ‬أدوات‭ ‬التخطيط‭ ‬قائمة،‭ ‬فإن‭ ‬بعض‭ ‬المؤسسات‭ ‬مازالت‭ ‬تُكلف‭ ‬بتنفيذ‭ ‬برامج‭ ‬متعددة‭ ‬في‭ ‬توقيت‭ ‬واحد،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مراعاة‭ ‬للقدرة‭ ‬التشغيلية‭. ‬وهذا‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تشتيت‭ ‬الموارد‭ ‬والتعامل‭ ‬مع‭ ‬التخطيط‭ ‬كإجراء‭ ‬شكلي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬وسيلة‭ ‬لصنع‭ ‬أثر‭.. ‬التوقيت‭ ‬هنا‭ ‬ليس‭ ‬خانة‭ ‬تملأ‭ ‬في‭ ‬جدولا‭.. ‬بل‭ ‬عنصرا‭ ‬لإدارة‭ ‬الجهد‭ ‬وضبط‭ ‬الإيقاع‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬يُفرض‭ ‬أحياناً‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تشاور‭ ‬مع‭ ‬الجهات‭ ‬المنفذة‭ ‬فتتحول‭ ‬الخطة‭ ‬إلى‭ ‬عائق‭ ‬يربك‭ ‬التنفيذ‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تيسر‭ ‬مساره‭. ‬

وتتسع‭ ‬الفجوة‭ ‬أكثر‭ ‬حين‭ ‬تُعد‭ ‬الخطط‭ ‬في‭ ‬قاعات‭ ‬مغلقة‭ ‬وبسريّة،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الجهات‭ ‬التي‭ ‬ستنفذها،‭ ‬ثم‭ ‬تُرسل‭ ‬إليها‭ ‬كملف‭ ‬مكتمل‭ ‬مرفق‭ ‬بعبارات‭ ‬تطمئن‭ ‬‮«‬لن‭ ‬تُشكل‭ ‬عبئاً‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان،‭ ‬يُفاجأ‭ ‬التنفيذيون‭ ‬بالخطة‭ ‬تُعرض‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬ملتقى‭ ‬كبير‭ ‬بأسلوب‭ ‬أنيق‭ ‬وجذاب‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يجيب‭ ‬عن‭ ‬الأسئلة‭ ‬الجوهرية‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬تفاعل‭ ‬مسبق‭ ‬تواجه‭ ‬الخطة‭ ‬فوراً‭ ‬تعقيدات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬محسوبة‭. ‬وعند‭ ‬بدء‭ ‬التنفيذ‭ ‬تبرز‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬ترتيب‭ ‬الأولويات،‭ ‬وتخصيص‭ ‬موارد‭ ‬إضافية‭ ‬وتعديل‭ ‬الجدول‭ ‬الزمني‭. ‬ومع‭ ‬غياب‭ ‬شعور‭ ‬الملكية‭ ‬من‭ ‬الجهات‭ ‬المنفذة‭ ‬تتراجع‭ ‬درجة‭ ‬الالتزام‭ ‬وتنفذ‭ ‬الخطة‭ ‬بأدنى‭ ‬طاقتها‭.. ‬إن‭ ‬نُفذت‭ ‬أصلاً‭!  ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬لا‭ ‬يتفق‭ ‬مع‭ ‬مبادئ‭ ‬الإدارة‭ ‬الحديثة‭ ‬كما‭ ‬تؤكد‭ ‬منظمة‭ ‬التعاون‭ ‬والتنمية‭ ‬الاقتصادية‭ (‬OECD‭) ‬التي‭ ‬تضع‭ ‬الشراكة‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬العملية‭ ‬التخطيطية،‭ ‬لا‭ ‬كخيار‭ ‬إضافي‭ ‬بل‭ ‬كشرط‭ ‬لنجاح‭ ‬السياسات‭.‬

أمام‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬ما‭ ‬نحتاج‭ ‬إليه‭ ‬ليس‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬الخطط،‭ ‬بل‭ ‬تغييراً‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬إعدادها‭.. ‬المطلوب‭ ‬أن‭ ‬تُبنى‭ ‬بالشراكة‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬سينفذها‭ ‬من‭ ‬لحظة‭ ‬الصياغة‭ ‬الأولى‭ ‬عبر‭ ‬حوار‭ ‬صادق‭ ‬حول‭ ‬الجاهزية‭ ‬والإمكانات،‭ ‬وتقدير‭ ‬دقيق‭ ‬للمخاطر،‭ ‬وبناء‭ ‬جدول‭ ‬زمني‭ ‬واقعي‭. ‬التخطيط‭ ‬الفعال‭ ‬لا‭ ‬يبدأ‭ ‬بإعلان‭ ‬بل‭ ‬بتفاهم‭ ‬مؤسسي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ممكن،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬مطلوب،‭ ‬وما‭ ‬يجب‭ ‬مراجعته‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬التنفيذ‭.‬

نعم،‭ ‬يمكن‭ ‬للخطط‭ ‬أن‭ ‬تنجح،‭ ‬لكن‭ ‬النجاح‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬بما‭ ‬يُعلن،‭ ‬وإنما‭ ‬بما‭ ‬يُفهم‭ ‬ويُنفذ‭ ‬ويُتابع‭ ‬بأدوات‭ ‬مسؤولة‭ ‬فنجاح‭ ‬أي‭ ‬خطة‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬اكتمال‭ ‬الوثيقة،‭ ‬وإنما‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬قابليتها‭ ‬للحياة‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬تحديات‭ ‬واقع‭ ‬التنفيذ،‭ ‬وصدق‭ ‬التقييم،‭ ‬والتزام‭ ‬الجهات‭ ‬المعنية‭ ‬بها‭ ‬كمسار‭ ‬مشترك‭ ‬لا‭ ‬كتكليف‭ ‬مفروض‭. ‬وعندما‭ ‬تكون‭ ‬الخطة‭ ‬مدعومة‭ ‬بالتمكين،‭ ‬والمساءلة،‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬التكيف‭ ‬مع‭ ‬المتغيرات‭.. ‬عندها‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأننا‭ ‬نخطط‭ ‬للإنجاز،‭ ‬لا‭ ‬للتسجيل‭.‬

فهل‭ ‬نُخطط‭ ‬لنُنجز،‭ ‬أم‭ ‬نُخطط‭ ‬لنسجل؟

 

مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي‭ ‬

Abeer‭.‬deham@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا