في الجزء الأول من هذا المقال كتبت عن الفجوة التي يعرفها كثيرون، تلك التي تفصل بين الخطط التي تُعتمد على الورق والنتائج التي تُقاس على الأرض.. لم أكتب بدافع الاعتراض بل بدافع الفهم.. لأن أسئلة التنفيذ تبقى الأهم في كل مشروع طموح. بعد النشر، وصلتني رسائل من أصحاب خبرة ومسؤولين، كتب أحدهم: «من أصدق ما قرأت»، وآخرون شاركوا المقال، وقالت إحدى المتابعات: «من زمان ما قرأنا مقالا نوعيا باركنا لك الفكر والقلم».
وكثيرون قالوا إنهم وجدوا أنفسهم بين السطور، وإن المقال عبّر عن حاجة حقيقية إلى خطاب مهني يقترب من الواقع من دون تجميل.. هذه العبارات لم تكن مجاملات عابرة، بل مؤشرات على أن المقال لمس واقعاً مهنياً نعيشه في مؤسساتنا، ولهذا جاء هذا الجزء الثاني استمراراً لطرح انطلق من الميدان ويعود إليه.
ما تكشف لي بوضوح أن الخلل لا يبدأ عند اعتماد الخطط أو إعلانها، بل في لحظة ترجمتها إلى تنفيذ حينها تظهر الفجوة بين ما كُتب وما يمكن تطبيقه فعلياً. فكم من خطة تحمل أهدافاً طموحة لكنها تصطدم بهياكل غير جاهزة، أو بجداول زمنية لا تراعي طبيعة العمل، أو بضعف في التنسيق، ومحدودية في الموارد. هذه ليست انطباعات شخصية بل حقائق موثقة في تقارير دولية منها ما صدر عن البنك الدولي، حيث أُشير إلى أن سبب الفشل في كثير من الخطط يعود إلى انفصالها عن القدرات التنفيذية الفعلية.
ومع أن الجهود المبذولة لتحسين أدوات التخطيط قائمة، فإن بعض المؤسسات مازالت تُكلف بتنفيذ برامج متعددة في توقيت واحد، من دون مراعاة للقدرة التشغيلية. وهذا يؤدي إلى تشتيت الموارد والتعامل مع التخطيط كإجراء شكلي أكثر من كونه وسيلة لصنع أثر.. التوقيت هنا ليس خانة تملأ في جدولا.. بل عنصرا لإدارة الجهد وضبط الإيقاع. ومع ذلك يُفرض أحياناً من دون تشاور مع الجهات المنفذة فتتحول الخطة إلى عائق يربك التنفيذ بدلاً من أن تيسر مساره.
وتتسع الفجوة أكثر حين تُعد الخطط في قاعات مغلقة وبسريّة، بعيداً عن الجهات التي ستنفذها، ثم تُرسل إليها كملف مكتمل مرفق بعبارات تطمئن «لن تُشكل عبئاً». وفي بعض الأحيان، يُفاجأ التنفيذيون بالخطة تُعرض للمرة الأولى في ملتقى كبير بأسلوب أنيق وجذاب لكنه لا يجيب عن الأسئلة الجوهرية ومن دون تفاعل مسبق تواجه الخطة فوراً تعقيدات لم تكن محسوبة. وعند بدء التنفيذ تبرز الحاجة إلى إعادة ترتيب الأولويات، وتخصيص موارد إضافية وتعديل الجدول الزمني. ومع غياب شعور الملكية من الجهات المنفذة تتراجع درجة الالتزام وتنفذ الخطة بأدنى طاقتها.. إن نُفذت أصلاً! هذا النمط لا يتفق مع مبادئ الإدارة الحديثة كما تؤكد منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) التي تضع الشراكة في صميم العملية التخطيطية، لا كخيار إضافي بل كشرط لنجاح السياسات.
أمام هذا الواقع ما نحتاج إليه ليس مزيداً من الخطط، بل تغييراً في طريقة إعدادها.. المطلوب أن تُبنى بالشراكة مع من سينفذها من لحظة الصياغة الأولى عبر حوار صادق حول الجاهزية والإمكانات، وتقدير دقيق للمخاطر، وبناء جدول زمني واقعي. التخطيط الفعال لا يبدأ بإعلان بل بتفاهم مؤسسي على ما هو ممكن، وما هو مطلوب، وما يجب مراجعته على امتداد التنفيذ.
نعم، يمكن للخطط أن تنجح، لكن النجاح لا يتحقق بما يُعلن، وإنما بما يُفهم ويُنفذ ويُتابع بأدوات مسؤولة فنجاح أي خطة لا يقوم على اكتمال الوثيقة، وإنما على مدى قابليتها للحياة وقدرتها على التفاعل مع تحديات واقع التنفيذ، وصدق التقييم، والتزام الجهات المعنية بها كمسار مشترك لا كتكليف مفروض. وعندما تكون الخطة مدعومة بالتمكين، والمساءلة، والقدرة على التكيف مع المتغيرات.. عندها يمكن القول بأننا نخطط للإنجاز، لا للتسجيل.
فهل نُخطط لنُنجز، أم نُخطط لنسجل؟
مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي
Abeer.deham@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك