يعد التخطيط الحكومي أداة قيادية للتحول المؤسسي. فهو لا يقتصر على تنظيم العمل الإداري بل يسهم في توجيه القرار وتحديد الأولويات وإدارة الموارد بكفاءة نحو تحقيق أهداف تنموية قابلة للقياس. وعندما تتكامل الرؤية مع آليات التنفيذ يصبح التخطيط محركاً للتغيير الإيجابي يربط الطموح بالإمكانات ويترجم التوجهات الوطنية إلى منجزات واقعية.
وفي ضوء ما يشهده العمل الحكومي من تطور متسارع في المبادرات وتنامٍ في متطلبات العمل المؤسسي، يبرز التفكير التحليلي في الخطط كمدخل أساسي لتحسين التنفيذ وتعزيز جاهزية الجهات للتعامل مع المتغيرات. وتشكل العلاقة بين الخطط العامة والتشغيلية أحد أهم عناصر التكامل المؤسسي. فضعف الربط بينهما يؤدي إلى فجوة تؤثر على فعالية الأداء، وعندما تنفصل الخطة عن الواقع التنفيذي تضعف القدرة على تجسيد التوجيهات العليا وتفقد الخطط مرونتها وقابليتها للتطبيق. لذلك فإن بناء أدوات مؤسسية تضمن الربط بين صياغة الخطط وتنفيذها يمثل ضرورة في منظومة الأداء الحكومي.
وتزداد فاعلية الخطط عندما تبنى على استقراء واقعي للقدرات والموارد ويُشرك العاملون في الصفوف الأمامية منذ مراحل الإعداد لا عند التنفيذ فقط. فالميدان هو المصدر الأصدق للمعرفة، وإدماج خبراتهم في التخطيط لا يضيف فقط بعداً عملياً، وإنما يعزز شعور الموظف بالمسؤولية ويخلق التزاماً ذاتياً ينعكس على جودة الإنجاز. كما أن نجاح التنفيذ يتطلب قيادة مؤسسية قادرة على تحويل الخطة إلى خطوات عملية وتوزيع الأدوار بوضوح ضمن شراكات منظمة تمنع التداخل وتعزز التكامل. فالخطط لا تُفعّل بالنصوص وحدها بل بمنظومة تنفيذية مرنة تتسم بالوضوح والمسؤولية.
وتمثل الإعلانات الرنانة تحدياً خفياً في بعض البيئات المؤسسية، حيث تُطلق مبادرات ومفاهيم طموحة من دون وجود بُنية تنفيذية داعمة أو تواصل فعّال. في مثل هذه الحالات يُترك الموظف من دون وضوح كاف للغرض أو آلية التنفيذ، ما يخلق فراغاً يُملأ بالاجتهادات وقد يمتد إلى الإدارة الوسطى التي قد لا تكون على اطلاع كاف. وبدلاً من التفعيل تسود الحيرة ويتباطأ الإنجاز وتضيع بوصلة التطبيق لتدخل المؤسسة ما يشبه مرحلة «الإفتاء الإداري» والاجتهادات الميدانية، حيث تُستنزف الجهود في التأويل بدلاً من الإنجاز المنضبط. فنجاح أي خطة لا يكمن في صدى إعلانها بل في وضوح أهدافها وانضباط تنفيذها.
وتبقى مواءمة الخطط القطاعية مع التوجهات الوطنية من الركائز الأساسية لتوحيد الجهود وتعظيم الأثر. فالاستفادة من النماذج المحلية الناجحة وتفعيل التعلم المؤسسي ومأسسة التقييم المرحلي تسهم جميعها في رفع موثوقية الخطط وتحويل الأهداف إلى منجزات قابلة للقياس. فالتخطيط ليس وثيقة افتتاحية بل مسار متدرج يتطلب مراجعة مستمرة وتحسيناً ممنهجاً.
وفي هذا السياق تبرز مملكة البحرين كنموذج مؤسسي يجمع بين وضوح الرؤية وواقعية التنفيذ وتكامل الأدوار، ما يمنح الجهات الحكومية مسؤولية أكبر لتحويل الخطط من وثائق تنظيمية إلى أدوات فاعلة تحقق الأثر في الأداء العام. فمراجعة الخطط ليست إجراءً شكلياً بل ممارسة تطويرية تسعى لتعظيم كفاءة الإنفاق وتحسين النتائج وتعزيز الأثر المؤسسي.
ومن الطبيعي أن أطرح في هذا الإطار تساؤلات مهنية مثل: هل هذه الخطط قابلة للتنفيذ؟ وهل تؤدي إلى نتائج ملموسة؟ وهي تساؤلات مشروعة تنم عن وعي إداري ناضج يتعامل مع التخطيط كأداة ديناميكية قابلة للتقويم والتطوير.
وانطلاقاً من برنامج عمل الحكومة (2023–2026) الذي أكد أهمية الخطط المبنية على النتائج، تبرز الحاجة إلى سياسات مرنة ومؤشرات أداء قابلة للقياس وإشراك فعّال للجهات المنفذة بما يضمن توافق الخطة مع الواقع وقابليتها للتعديل. فالمهنية لا تُقاس بحجم الوثيقة أو بلاغة العبارات، بل بقدرتها على تحويل الرؤية إلى منجز، والهدف إلى أثر، والتحديات إلى فرص. والخطة الناجحة لا تكمن في صياغتها، بل في كونها أداة فاعلة للتغيير المؤسسي في حياة المواطن.
{ مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك