العدد : ١٧٢٧٣ - الثلاثاء ٠٨ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٣ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٧٣ - الثلاثاء ٠٨ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٣ محرّم ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

تأملات في رسائل تشرشل السياسية

بقلم: د. ياسر عبد العزيز {

الثلاثاء ٠٨ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

كان‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬البريطاني‭ ‬الراحل‭ ‬ونستون‭ ‬تشرشل‭ ‬رجل‭ ‬دولة‭ ‬بكل‭ ‬معنى‭ ‬الكلمة‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد،‭ ‬وكيف‭ ‬لا؟‭ ‬ألم‭ ‬يمنح‭ ‬بلاده‭ ‬نصرًا‭ ‬عزيزًا‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬عالمية‭ ‬طاحنة،‭ ‬وفى‭ ‬ظل‭ ‬ظروف‭ ‬صعبة‭ ‬ودقيقة؟

لقد‭ ‬حصل‭ ‬تشرشل‭ ‬على‭ ‬التقدير‭ ‬والاعتبار‭ ‬المناسبين‭ ‬لما‭ ‬قدمه‭ ‬للمملكة‭ ‬المتحدة؛‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬حظي‭ ‬بلقب‭ ‬‮«‬أعظم‭ ‬بريطاني‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور‮»‬،‭ ‬وفق‭ ‬استطلاع‭ ‬رأى‭ ‬موثوق‭ ‬أُجري‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2002‭.‬

كان‭ ‬تكوين‭ ‬تشرشل‭ ‬تكوينًا‭ ‬فريدًا؛‭ ‬ففضلا‭ ‬عن‭ ‬أصوله‭ ‬العائلية‭ ‬الراقية،‭ ‬وتعليمه‭ ‬الرفيع،‭ ‬فإنه‭ ‬خدم‭ ‬كضابط‭ ‬وقائد‭ ‬عسكري‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬حروب‭ ‬ومستعمرات‭ ‬بلاده،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتجه‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬السياسة،‭ ‬عبر‭ ‬باب‭ ‬التمثيل‭ ‬النيابي،‭ ‬والعمل‭ ‬الحزبي،‭ ‬لكن‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬ملامح‭ ‬هذا‭ ‬التكوين‭ ‬برز‭ ‬في‭ ‬ثقافته،‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬الكتابة،‭ ‬التي‭ ‬أهلته‭ ‬ليكون‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬‮«‬جائزة‭ ‬نوبل‮»‬‭ ‬في‭ ‬الأدب‭.‬

عانى‭ ‬تشرشل‭ ‬في‭ ‬مستهل‭ ‬حياته‭ ‬من‭ ‬لثغة،‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تلعثم‭ ‬دائم‭ ‬في‭ ‬الكلام،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬وصفه‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬عقبة‭ ‬كبيرة‮»‬،‭ ‬لكنه،‭ ‬عبر‭ ‬التدريب،‭ ‬والإصرار،‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يتجاوز‭ ‬تلك‭ ‬العقبة،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬أصبح‭ ‬أحد‭ ‬أكثر‭ ‬الخطباء‭ ‬السياسيين‭ ‬تأثيرًا‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬الجمهور‭ ‬يتذكر‭ ‬كيف‭ ‬أثّر‭ ‬خطابه‭ ‬السياسي‭ ‬الحماسي‭ ‬في‭ ‬شعبه،‭ ‬والعالم‭ ‬أجمع،‭ ‬حينما‭ ‬اشتد‭ ‬القصف‭ ‬الألماني‭ ‬على‭ ‬لندن،‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬وخرج‭ ‬تشرشل‭ ‬ليُحث‭ ‬مواطنيه‭ ‬على‭ ‬الصمود‭ ‬وعدم‭ ‬الاستسلام،‭ ‬حتى‭ ‬تحقق‭ ‬النصر‭.‬

من‭ ‬بين‭ ‬مقولات‭ ‬تشرشل‭ ‬الأساسية‭ ‬المُلهمة،‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الاتصال‭ ‬السياسي،‭ ‬مقولتان؛‭ ‬أولاهما‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭ ‬إن‭ ‬‮«‬السلطة‭ ‬تُخلق‭ ‬بالكلمات،‭ ‬والحُكم‭ ‬يُحقق‭ ‬بالإقناع‮»‬،‭ ‬وأما‭ ‬المقولة‭ ‬الثانية‭ ‬فيؤكد‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬حين‭ ‬تصمت‭ ‬النسور،‭ ‬فإن‭ ‬الببغاوات‭ ‬تبدأ‭ ‬بالثرثرة‮»‬‭.‬

من‭ ‬جانبي،‭ ‬سأُعتبر‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬تشرشل‭ ‬في‭ ‬هاتين‭ ‬المقولتين‭ ‬بمنزلة‭ ‬‮«‬توجيه‭ ‬استراتيجي‮»‬‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الاتصال‭ ‬السياسي،‭ ‬وسأطالب‭ ‬كل‭ ‬مسؤول‭ ‬بفحص‭ ‬هاتين‭ ‬المقولتين‭ ‬بدقة،‭ ‬واستيعابهما‭ ‬بقدر‭ ‬الإمكان،‭ ‬ثم‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬تمثلهما‭ ‬في‭ ‬عمله‭ ‬السياسي‭ ‬وخدمته‭ ‬الوطنية‭.‬

وللأسف‭ ‬الشديد،‭ ‬فإن‭ ‬معاينة‭ ‬حالة‭ ‬الاتصال‭ ‬السياسي‭ ‬الراهنة‭ ‬ستشير‭ ‬ببساطة‭ ‬إلى‭ ‬أننا‭ ‬بعيدون‭ ‬جدًا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬التوجيه‭ ‬الاستراتيجي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الزعيم،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬الإنصاف‭ ‬يقتضي‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الإشراقات‭ ‬والنجاحات‭ ‬الاتصالية،‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬لآخر‭.‬

فهل‭ ‬يعرف‭ ‬المسؤول‭ ‬أن‭ ‬الكلمات‭ ‬المُختارة‭ ‬بعناية،‭ ‬والتي‭ ‬تُقال‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب،‭ ‬تُعمق‭ ‬ركائز‭ ‬السلطة،‭ ‬وتعزز‭ ‬نفوذها؟‭ ‬وهل‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬‮«‬البلاغة‭ ‬قوة‭ ‬تتكلف‭ ‬الإقناع‭ ‬المُمكن‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الأمور‮»‬‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬أرسطو؟‭ ‬وهل‭ ‬يعرف‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬حين‭ ‬تصمت‭ ‬النسور،‭ ‬تبدأ‭ ‬الببغاوات‭ ‬بالثرثرة»؟

لا‭ ‬يشير‭ ‬بعض‭ ‬الأداء‭ ‬الاتصالي‭ ‬إلى‭ ‬إدراك‭ ‬تلك‭ ‬المعاني،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬محاولة‭ ‬توخيها،‭ ‬والشاهد‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬قطاعًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬المسؤولين‭ ‬يصمت‭ ‬حين‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتكلم،‭ ‬ويتكلم‭ ‬حين‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتروى،‭ ‬ولا‭ ‬يُدرك‭ ‬أن‭ ‬اختيار‭ ‬الكلمات‭ ‬غير‭ ‬المناسبة،‭ ‬والقصد‭ ‬إلى‭ ‬المعاني‭ ‬المُلتبسة‭ ‬والمثيرة‭ ‬للجدل،‭ ‬واختيار‭ ‬الأمثلة‭ ‬غير‭ ‬المدروسة،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُفجر‭ ‬أزمات‭ ‬جديدة،‭ ‬وأن‭ ‬يُعمق‭ ‬الخسائر‭.‬

ولهذه‭ ‬الأسباب،‭ ‬يُمكن‭ ‬وصف‭  ‬بعض‭ ‬الأداء‭ ‬الاتصالي‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يجسد‭ ‬الوصف‭ ‬الأمثل‭ ‬للخطاب‭ ‬المهزوز،‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬يتأسس‭ ‬على‭ ‬حقائق‭ ‬أو‭ ‬فهم‭ ‬موضوعي،‭ ‬ولا‭ ‬يخدم‭ ‬الأهداف‭ ‬الاستراتيجية‭..‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الظروف‭ ‬تُحتم‭ ‬اختيار‭ ‬بعض‭ ‬النابهين‭ ‬والمتميزين‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬عمل‭ ‬محددة‭ ‬لا‭ ‬تتصل‭ ‬بالضرورة‭ ‬بالثقافة‭ ‬العامة‭ ‬وقدرات‭ ‬الإقناع‭ ‬والاتصال،‭ ‬فهل‭ ‬يتم‭ ‬تدريبهم‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬لتفادى‭ ‬هذا‭ ‬القصور‭ ‬الخطير،‭ ‬وسعيًا‭ ‬للوفاء‭ ‬بالحد‭ ‬الأدنى‭ ‬اللازم‭ ‬من‭ ‬مقابلة‭ ‬تلك‭ ‬المهام‭ ‬الاتصالية‭ ‬الصعبة؟

فلا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الجميع‭ ‬بات‭ ‬يعرف‭ ‬ويدرك‭ ‬ذلك‭ ‬جيدا،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬مطالعة‭ ‬عابرة‭ ‬لوسائل‭ ‬‮«‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‮»‬‭ ‬ستمنحنا‭ ‬عشرات‭ ‬الأمثلة،‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬القطاعات،‭ ‬وفى‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الهيئات‭.‬

‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬التحدي‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬أي‭ ‬جهة‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬الجمهور‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬المعاصرة‭ ‬هو‭ ‬كيفية‭  ‬صياغة‭ ‬استراتيجيات‭ ‬اتصالية‭ ‬وإعلامية‭ ‬فعالة‭ ‬لكل‭ ‬قطاع‭  ‬بحيث‭ ‬تستطيع‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬،‭ ‬وتتابع‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬إعلام‭ ‬‮«‬السوشيال‭ ‬ميديا‮»‬‭ ‬المتحرك‭ ‬أو‭ ‬منابر‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وتستطيع‭ ‬إيضاح‭ ‬الحقائق‭ ‬أولا‭ ‬بأول‭ ‬ولا‭ ‬تترك‭ ‬أي‭  ‬فرصة‭ ‬لمثيري‭ ‬الشائعات‭ ‬ومروجي‭ ‬الأخبار‭ ‬الكاذبة‭ ‬لأن‭ ‬يحدثوا‭ ‬أي‭ ‬بلبلة‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬نوع،‭  ‬وهذا‭ ‬أصبح‭ ‬مهمة‭ ‬بالغة‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬وقتنا‭ ‬الحاضر‭ ‬لأنها‭ ‬تلعب‭ ‬دورا‭ ‬مؤثرا‭ ‬وفاعلا‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬الاستقرار‭ ‬والأمن‭ ‬الاجتماعي‭ ‬،‭ ‬ولا‭ ‬ريب‭  ‬أنها‭ ‬مهمة‭ ‬تحتاج‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬بكل‭ ‬كفاءة‭ ‬ووعي‭ ‬واقتدار‭.‬

 

‭ ‬{ كاتب‭ ‬وباحث‭ ‬مصري‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا