كان رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل رجل دولة بكل معنى الكلمة بكل تأكيد، وكيف لا؟ ألم يمنح بلاده نصرًا عزيزًا في حرب عالمية طاحنة، وفى ظل ظروف صعبة ودقيقة؟
لقد حصل تشرشل على التقدير والاعتبار المناسبين لما قدمه للمملكة المتحدة؛ حتى إنه حظي بلقب «أعظم بريطاني على مر العصور»، وفق استطلاع رأى موثوق أُجري في عام 2002.
كان تكوين تشرشل تكوينًا فريدًا؛ ففضلا عن أصوله العائلية الراقية، وتعليمه الرفيع، فإنه خدم كضابط وقائد عسكري في بعض حروب ومستعمرات بلاده، قبل أن يتجه إلى عالم السياسة، عبر باب التمثيل النيابي، والعمل الحزبي، لكن أحد أهم ملامح هذا التكوين برز في ثقافته، وقدرته على الكتابة، التي أهلته ليكون رئيس الوزراء الوحيد الذي حصل على «جائزة نوبل» في الأدب.
عانى تشرشل في مستهل حياته من لثغة، أدت إلى تلعثم دائم في الكلام، وهو الأمر الذي وصفه بأنه «عقبة كبيرة»، لكنه، عبر التدريب، والإصرار، استطاع أن يتجاوز تلك العقبة، حتى إنه أصبح أحد أكثر الخطباء السياسيين تأثيرًا عبر التاريخ، وما زال الجمهور يتذكر كيف أثّر خطابه السياسي الحماسي في شعبه، والعالم أجمع، حينما اشتد القصف الألماني على لندن، في الحرب العالمية الثانية، وخرج تشرشل ليُحث مواطنيه على الصمود وعدم الاستسلام، حتى تحقق النصر.
من بين مقولات تشرشل الأساسية المُلهمة، في مجال الاتصال السياسي، مقولتان؛ أولاهما يقول فيها إن «السلطة تُخلق بالكلمات، والحُكم يُحقق بالإقناع»، وأما المقولة الثانية فيؤكد من خلالها أنه «حين تصمت النسور، فإن الببغاوات تبدأ بالثرثرة».
من جانبي، سأُعتبر ما قاله تشرشل في هاتين المقولتين بمنزلة «توجيه استراتيجي» في مجال الاتصال السياسي، وسأطالب كل مسؤول بفحص هاتين المقولتين بدقة، واستيعابهما بقدر الإمكان، ثم العمل على تمثلهما في عمله السياسي وخدمته الوطنية.
وللأسف الشديد، فإن معاينة حالة الاتصال السياسي الراهنة ستشير ببساطة إلى أننا بعيدون جدًا عن «التوجيه الاستراتيجي» الذي صدر عن هذا الزعيم، رغم أن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى بعض الإشراقات والنجاحات الاتصالية، التي تحدث من حين لآخر.
فهل يعرف المسؤول أن الكلمات المُختارة بعناية، والتي تُقال في الوقت المناسب، تُعمق ركائز السلطة، وتعزز نفوذها؟ وهل يعرف أن «البلاغة قوة تتكلف الإقناع المُمكن في كل واحد من الأمور» كما قال أرسطو؟ وهل يعرف أنه «حين تصمت النسور، تبدأ الببغاوات بالثرثرة»؟
لا يشير بعض الأداء الاتصالي إلى إدراك تلك المعاني، أو حتى محاولة توخيها، والشاهد يظهر في أن قطاعًا كبيرًا من المسؤولين يصمت حين يجب أن يتكلم، ويتكلم حين يجب أن يتروى، ولا يُدرك أن اختيار الكلمات غير المناسبة، والقصد إلى المعاني المُلتبسة والمثيرة للجدل، واختيار الأمثلة غير المدروسة، يمكن أن يُفجر أزمات جديدة، وأن يُعمق الخسائر.
ولهذه الأسباب، يُمكن وصف بعض الأداء الاتصالي على نحو يجسد الوصف الأمثل للخطاب المهزوز، الذى لا يتأسس على حقائق أو فهم موضوعي، ولا يخدم الأهداف الاستراتيجية..
وإذا كانت الظروف تُحتم اختيار بعض النابهين والمتميزين في مجالات عمل محددة لا تتصل بالضرورة بالثقافة العامة وقدرات الإقناع والاتصال، فهل يتم تدريبهم على ذلك، لتفادى هذا القصور الخطير، وسعيًا للوفاء بالحد الأدنى اللازم من مقابلة تلك المهام الاتصالية الصعبة؟
فلا شك أن الجميع بات يعرف ويدرك ذلك جيدا، خاصة أن أي مطالعة عابرة لوسائل «التواصل الاجتماعي» ستمنحنا عشرات الأمثلة، في معظم القطاعات، وفى عدد كبير من الهيئات.
ولا شك أن التحدي الذي يواجه أي جهة تتعامل مع الجمهور في المجتمعات المعاصرة هو كيفية صياغة استراتيجيات اتصالية وإعلامية فعالة لكل قطاع بحيث تستطيع التأثير في الرأي العام ، وتتابع ما يجري في إعلام «السوشيال ميديا» المتحرك أو منابر التواصل الاجتماعي، وتستطيع إيضاح الحقائق أولا بأول ولا تترك أي فرصة لمثيري الشائعات ومروجي الأخبار الكاذبة لأن يحدثوا أي بلبلة من أي نوع، وهذا أصبح مهمة بالغة الأهمية في وقتنا الحاضر لأنها تلعب دورا مؤثرا وفاعلا في حماية الاستقرار والأمن الاجتماعي ، ولا ريب أنها مهمة تحتاج التعامل معها بكل كفاءة ووعي واقتدار.
{ كاتب وباحث مصري.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك